تدليس المحامي خطر كارثي على الموكل
عُرض على محام شهير بدمشق دعوى مدنية مرفوعة على أحد الأشخاص بموضوع (فسخ تسجيل عقار)، فوجد فيها -بحكم خبرته القانونية- خللاً فادحاً سيؤدي بالضرورة لردّ الدعوى شكلاً، لاعتلال بصحة الخصومة لا يمكن استدراكه ارتكبه محامي المدعي ناجم عن قلّة خبرته القانونية، وما أكثر هؤلاء المحامين هذه الأيام.
تقدم المحامي للمدعى عليه بعرض مفاده أنه في حال ترافع عنه في هذه الدعوى مقابل أتعاب معينة (مجزية)، فإنه يتعهد بربحها، وبالحصول على قرار بردها، وفي حال لم يتم ذلك فإنه لا يريد أتعاباً، وسيعيد له أيضاً سلفة الأتعاب المقدمة التي استوفاها منه.
بالفعل تمَّ الاتفاق مع المحامي صاحب الاسم الكبير على تولّي القضية مقابل أتعاب مجزية كون العقار ثميناً، وكان الموكل سعيداً مطمئناً لكلام المحامي وثقته العالية بربح الدعوى.
وبدأ المحامي يحثُّ الخطى نحو سرعة البت بالقضية، بالرغم من أنه يمثل الجهة المدعى عليها التي تحاول عادة استغلال عامل الوقت بكثرة الاستمهالات والمماطلات، فكانت النتيجة الحتمية للدعوى الرد شكلاً، خلال فترة سريعة نسبياً استغرقت أقل من سنة.
قام المحامي بتسليم موكله نسخة رسمية عن الحكم الصادر، وقد اكتسب الحكم الدرجة القطعية وقبض كامل أتعابه، بعدما ظهر كالمنتصر المظفر الذي فاز بالنزاع المستعصي. كيف لا وهو المحامي المعروف الذي يشار إليه بالبنان.
بعد فترة تبلغ المدعى عليه دعوى جديدة بنفس الموضوع من نفس الخصم، فاستغرب الأمر، إذ في يقينه أنه كسب النزاع وانتهى الأمر وقد تكبد في سبيل ذلك المبلغ المرقوم، فحمل الأوراق التي تبلغها وقصد بها المحامي الذي عالج الموضوع، وما أن اطلع عليها المحامي وكان يتوقعها بالطبع، حتى أخذ يهوِّن ويخفف من تأثيرها، ويعد بمعالجة القضية الجديدة، مقابل أتعاب جديدة مخفضة هذه المرة، خاصة أنه سبق للموكل أن جربه ورأى كيف فاز بالدعوى السابقة.
سأله موكله -ويبدو أن لديه فطرة قانونية لا تستسيغ منطق عرض نفس النزاع مجدداً على القضاء- فيما إن كان يحق للخصم رفع دعوى جديدة بنفس الموضوع؟ لجأ المحامي للمراوغة وإعطاء إجابات ضبابية عائمة.
فقام بمراجعة محام آخر عارضاً الأمر عليه، سائلاً إياه: هل يحق لخصمه مقاضاته مجدداً بعدما خسر دعواه في المرة السابقة، ففوجئ بالحقيقة المرّة، وبأنه يحق لخصمه ذلك طالما أن ردّ الدعوى كان لسبب شكلي وليس موضوعيا، فأخذ يضرب أخماساً بأسداس وبات يواجه مشكلتين:
الأولى: النزاع الرئيسي الذي لم يحسم مع خصمه، وما يستتبع ذلك من نفقات وأتعاب توكيل محام جديد.
الثانية: الأتعاب الباهظة التي استوفاها المحامي مقابل نزاع لم يحسم نهائياً، وفيما إن كان يستطيع مقاضاة المحامي واستعادة جزء مما استوفاه.
في الواقع حينما عرض هذا الموضوع عليَّ شخصياً رأيت فيما يتعلق بالشق الخاص بالمحامي أنه ارتكب مع موكله تدليساً لولاه لما تم الاتفاق بينهما على هذا النحو، فلو قال له الحقيقة لكان من المرجح ألا يقبل الموكل دفع هذه الأتعاب على هذه المرحلة فقط من النزاع،
فقد أخفى عنه أن هذه الدعوى ستُرَد شكلاً وليس موضوعاً، وهذا لن يؤدي بالضرورة لحسم النزاع مع الخصم، ومنعه من رفع دعوى جديدة بعد استدراك الخلل بصحة الخصومة،
ومن المعروف أن رد الدعوى موضوعاً هو الذي يحسم النزاع نهائياً ويمنح الحجية المطلقة للأحكام القضائية التي تمنع من اللجوء للقضاء مجدداً، هذه الحجية التي نسميها نحن رجال قانون (حجية الشيء المحكوم به) التي نعتبرها قرينة قانونية قاطعة لمصلحة أطراف الدعوى لا يجوز نقضها (المادة 90 بينات).
وحيث أن المحامي لم يخبر موكله بشيء من التبسيط الفرق العملي بين الرد شكلاً والرد موضوعاً، وتأثير ذلك عليه وعلى مركزه القانوني، وكان يفترض به ذلك، لأنه من الظاهر أن الموكل وقع ضحية التباس في هذه الناحية.
وحيث أن المادة 126 من القانون المدني تقول في فقرتها الثانية:
((يعتبر تدليساً السكوت عمداً عن واقعة أو ملابسة، إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة))
وحيث أن العلّامة السنهوري يعتبر أن الكتمان يعتبر تدليساً إذا توافرت الشروط التالية:
1 – أن يكون هذا الأمر خطيراً بحيث يؤثر في إرادة المتعاقد الذي يجهل تأثيره الجوهري.
2 – أن يعرفه المتعاقد الاخر ويعرف خطره.
3 – أن يتعمد كتمه عن المتعاقد الأول.
4 – ألا يعرفه المتعاقد الأول، أو يستطيع أن يعرفه من طريق آخر.
(الوسيط – ج1 – ص325)
نجد إن كافة هذه المعايير متوفرة في سكوت المحامي المذكور وإخفائه معلومات تؤثر على تعاقده مع الموكل.
في الحقيقة لا يطلب من المحامي شرح القانون، ولا آلية التقاضي لموكله، ولكن أبسط مبادئ حسن النية توجب عليه عدم إخفاء هذه التفاصيل وشرحها للموكل بلغة بسيطة يفهمها الرجل العادي، فضلاً عن أن أخلاق المهنة توجب على المحامي التعامل بشرف مع موكله بعيداً عن هذا التدليس المريب، خاصة وأن الحكم الذي استحصل عليه برد الدعوى شكلاً قد اكتسب الدرجة القطعية بهذه السرعة، لأن المدعي لم يقم باستئنافه، وهذه تعتبر إشارة واضحة لا تخفى على محام متمرس أنه يعتزم رفع دعوى جديدة بعد استدراك هذا الخلل الشكلي في الاستدعاء.
لذلك رأيت إن أرجحية التدليس الذي ارتكبه المحامي مرتفعة جداً وتسمح بمقاضاته وهذا ما نصحت به