حق الدفاع المقدس
حق الدفاع مقدس كلمة حلوة تتردد في سوح القضاء كل يوم عشرات المرات ومع هذا لا تبعث على الملل ولا تفقد عذوبتها – فما معناها؟ وما مداها؟.
ان طبيعة النفس البشرية، وطبيعة مجرى الحياة – لا تحتملان تقسيم البشر الى صنفين:-
فضلاء يستحقون الرعاية والاحترام، وادنياء يستأهلون القسوة والاحتقار.
نبلاء من الحق ان يكونوا خالدين ومنحطين ؟ من الواجبين ان يكونوا هالكين.
هذا التقسيم للبشر ليس فقط نظرياً وخيالياً، وانما هو ايضا ساذج وسخيف.
والمجرمون ليسوا جميعاً اشراراً فاسدين، وليس كل الاشرار يجب ان يقضى عليهم!! ومن قال ان الذين لم يقذف بهم الى القضاء: هم جميعاً شرفاء، أبرياء، أطهار؟ من كل دنس او جريمة؟
وكم من الجرائم تقترف يومياً – واصحابها معززون مكرمون؟ فهل يصح ان نحتقر كل من مثل امام القضاء ونحترم كل من كان في منجا م القضاء؟ .. لا أظن ان احداً يجيب على هذا السؤال بـ (نعم) الواقع ان اكثر الجرائم التي تقع في مجتمع ما ولا سيما المجتمع المتخلف في الرقي والثقافة والخلق يرجع اسبابها الى عوامل تقع مسؤوليتها على عاتق المجتمع ذاته – كجرائم السرقة والاحتيال والايذاء والجرائم الاخلاقية وغيرها كثير بل ان كثيراً م الجرائم ترتكب بفعل التقاليد السائدة في المجتمع كجرائم العرض والآداب العامة.
وان كثير غيرها ترتكب لأمراض ابتلى بها الفاعلون سواء كان المرض نفسياً او عقلياً كجرائم الانتقام والجرائم التي يرتكبها المجانين او الذين وهنت اعصابهم، وفقدوا ارادتهم.
وهناك جرائم اخرى تقع عن خطأ في الفعل، او نقص في التقدير، او قضاء وقدراً، ومع هذا فهي جرائم… يعاقب عليها القانون.. وحتى المجرم ، الشرير، السافل الذي يثور الرأي العام احياناً يريد محقه من الارض وانقاذ البشرية من رجسه؟.. هل تعدم جوانب قضية يدعو الى التبصر في وزن عقابه في ميزان العدل؟ وجانب اخر يبعث على الاشفاق به ومنحه الرحمة؟ هي يعد مستحيلاً في عرف القضاء ان يكون المتهم في الواقع بريئاً والمجرم الحقيقي بعيداً عن قضبة القضاء؟ ولنترك المجرم ذاته – أيا كان نوع جريمته ولننتقل الى عائلته واصدقائه ومعارفه ومحبيه – اليس اولئك بشراً يتأثرون بالجريمة ويلحقهم عارها؟ وقد تكون مصدر تعاستهم وآلامهم؟ بل هي لمن يعيلهم المجرم تهديد لحياتهم ذاتها اذا ما فقدوا المعيل؟.
ولنترك هؤلاء ايضاً وننتقل الى ميدان أوسع مدى – هو المجتمع : هل من مصلحة المجتمع ان يبتر كل عضو فاسد فيه؟ وهل في امكانه ان يقضي على الجريمة بالقسوة البالغة والموت الزؤام؟ وما دام كثير م الجرائم مبعثها الجهل والفقر والمرض وفساد المجتمع – فهل من الحق ان يسلك المجتمع سبيل الظلم لحماية نفسه من الجريمة؟ وهل من العدل ان ينسى المجتمع بانه شريك في الجريمة – بتهيئة اسبابها وعواملها – ويصب جام غضبه على الفاعل وحده؟
ولنترك المجتمع كذلك ولنتوجه الى محراب العدالة! هل من شيمة العدالة ان يترك المتهم، لا حام يحمي حقه، ولا ضابط يحدد عقابه، ولا منبه يرشد الى موضع الرحمة والغفران؟
لا! لا! ان العدالة لا تعرف الظلم، ولا تتأثر بالعاطفة، ولا تعبأ بالاعتبارات ولهذا يسعدها ان تستعين بمن يرشدها الى مواطن الخطأ والصواب، ومواضع القسوة واللين، وعوامل الرأفة والغفران.
انها بحاجة الى مرشد نبيل يعينها على تحقيق هذه الرسالة المقدسة وما ذلك المرشد الا المحامي!
فدفاعه عن المتهمين دفاع مقدس. فكم من مرة استطاع بها المحامي ان ينقذ متهماً بريئاً من الموت وكم من مرة استطاع بها المحامي ان يكشف عن اسرار خفية لولاء، لذهب كثير من الابرياء ضحية للعدالة.
كم من مرة استطاع بها المحامي ان ينقذ عائلة من الدمار والعار – بإنقاذه عزيزهم البريء من شرور الوقيعة والتلفيق والتزوير.
كم من مرة استطاع بها المحامي ان يرشد القضاء الى وقائع وأدلة تحول اتجاهه من عقوبة الموت الى السجن البسيط.
كم من مرة استطاع بها المحامي ان يكشف عن سر موكله وعن انسانيته المعذبة، وعن رغبته في التوبة، وعن حاجته الى الرحمة؟ فاستجاب له القضاء ومنح النفس المعذبة ما تفتقر اليه من رحمة؟
واخيراً كم من الناس استطاع المحامي اي ينقذهم من التدهور في حمئة الجريمة، يمنحهم الفرصة النبيلة، للندم والتوبة والصلاح؟
ان ميزان العدالة ليختل توازنه اذا ما ترك الممتهم تحت رحمة جانب واحد وهو المشتكي، والمدعي العام، والشهود ، والادلة … ولهذا ينبغي ان يقوم في الجانب الاخر (رقيب) يتولى حماية المتهم من الهجوم والاستعداء، و (يرشد) العدالة الى مواطن القوة والضعف، ومواطن الخطأ والصواب ومواطن القسوة والرأفة.
فالاتهام والدفاع – اذن ضروريان لحفظ التوازن – في ميزان العدل يستخلص العدل من تعارضهما، وتناحرهما، وحججهما – وجهه الصواب:
فترجح كفة الحق على كفة الباطل؟
وترجح كفة الرحمة على كفة القصور؟
وترجح كفة البراءة على كفة التجريم؟
فالدفاع عن المتهم هو حق – وحق مقدس!!
ان هذه (القدسية) لحق الدفاع – وحدة لا تقبل التجزئة :- فاما دفاع واما لا دفاع، واما دفاع كامل حر، واما حرمان من الدفاع …
ان هذا الحق المقدس يرتكز الى دعامتين اساسيتين هما:-
الاولى – ان المتهم حر في اختيار من يشاء من المحامين ، للدفاع عنه :- لا يملك احد حق الاعتراض عليه في ذلك، او قهره على اختيار محام بعينه!! … ما دام الاساس الذي يقوم عليه توكل هو الثقة وما دام المحامون امام القضاء سواسية .
الثانية – ان المحامي حر في التصرف بالدعوى، يملك كل الحقوق التي تمكنه من اداء واجبه:- فهو حر في ان يقرأ كل الاوراق، ويطلع على كل المستندات، ويناقش كل الادلة، ويصارع كل الشهود، ويقول كل ما يشاء. ما دام الاساس الذي يقوم عليه الدفاع هو الحرية في العمل.
فان اختل اساس من هذين الاساسين اختل الركن الذي يقوم عليه حق الدفاع، واختلت قدسيته، واختل ميزان العدل.
ان حرية الدفاع لم تعد محل نقاش.. فقد احيطت بهالة من القدسية والاحترام منذ القديم، وفي جميع الانظمة القضائية، ولم يشذ عن ذلك حتى القضاء السوفيتي – على الرغم من اختلاف نظامه القضائي عن الانظمة المعمول بها في العالم … فقد جاء في كتاب (القضاء في الاتحاد السوفيتي) في معرض تمتع المحامي بحريته في الدفاع بان قال في الصفحة 105 وهو في مرافعته حر بان يدلي بشتى ما يريد من وجهات للنظر والادلة، بان يناقش جانب الادعاء، وينتقد وجهات نظره، وان يصف ظروف القضية من الناحية القانونية كما يريد.
وهو حر في اختيار اسلوب مرافعته ومدتها، لأنه يتمتع في المحاكمة بنفس الحقوق التي يتمتع بها (جانب الادعاء).
لقد نوقشت هذه الحرية في عهود متوغلة في القدم ، وانتهى البحث فيها الى اقرار ما ورد على لسان المدعى العام الفرنسي المشهور- شيه دى استانج – عندما حاول ان يحدد مدى حق الدفاع في مرافعته فقال (ان حرية الدفاع ملك للمحامين، يستغلونها للمصلحة العامة، لمصلحة الجمهور – وليس لاحد ان يعتدي عليها).
وهكذا استقر في الذهن ان حرية الدفاع عديمة الحدود، طليقة من القيود! ثم جاءت قوانين المحاماة – واي قانون اخر – في العالم مؤيدة هذا الحق، عامل على صيانته من الاستعداء عليه او الاخلال به – وقد اخذ بذلك قانوننا الجديد – قانون المحاماة – فقد جاء في المادة (16) منه ما يلي:-
( للمحامي ان يسلك اي طريق مشروع في الدفاع عن موكله، ولا يكون مسؤولاً عما يورده في مرافعاته خطية كانت ام شفوية – مما يستلزمه حق الدفاع).
والموضوع الدقيق الذي يعترض سبيل هذا والحق هو ما ينشب عادة بين الحاكم وبين المحامي من نقاش: فقد يتقدم المحامي بطلب الى المحكمة متوخياً فيه تأمين مصلحة من مصالح الدفاع، فلا تجيبه المحكمة الى طلبه مدعية انه خارج عن حق الدفاع او انه لا تعلق له بالدعوى، او انها غير مقتنعة بوجاهة الطلب. وما الى ذلك من اسباب تؤدي في كثير من الاحيان الى الاحتكاك وتطاير الشرر.
وقد (يعجز) المحامي في الابانة عن مقصدة، فيستعمل لفظة غير ملائمة، وقد (تفلت) منه اثناء المرافعة كلمة تعتبرها المحكمة نابية، وقد (تجرى)على لسانه خلال المناقشة عبارة تعدها المحكمة اهانة لها.
ففي جميع هذه الحالات وغيرها، تتجلى قيمة (الحلم)في التغلب على توتر الاعصاب و(التسامح) المطلوب من الطرفين – للوصول الى تفاهم ودي (يبقي) على الاحترام المتبادل بينهما، و (يصون) حق الموكل من ان تصهره نار الغضب، فيذهب هدراً او بدداً.
ومهما تكن اسباب النقاش بين الحاكم وبين المحامي، ومهما تبلغ بينهما سورة الغضب، ومهما يحاول الحاكم اين يتصلب في رأيه، او يتعنت موقفه، او يتحكم في تصرفه – فان حق الدفاع يضل في علياء سمائه محترماً مقدساً مصوناً…
فمن غير المعقول ان يطلب الى المحامي ولا سيما اثناء المرافعة ان يزن (ثقل) الفاظه كما يوزن الجواهري جواهره؟ او (يقيس) كلماته كما يقيس السائر خطواته.
ان الارتجال اصعب انواع الكلام ، فليس من السهل الوقاية من العثرات، وليس من الممكن صيانة اللسان من الفلتات… وليس من العدل ان يهجر القصد ويصار الى التأويلات …
ان التفريق بين حقين مقدسين هما :- احترام القضاء، وحرية الدفاع – لجدير بالتأمل والرعاية، وان التوفيق بينهما ضرورة تتطلبها طبيعة العمل في سوح القضاء… فلندع حرية الكلام تسود في قاعة المحكمة – قبل ان تسود في ميدان اخر ؟ ولنفسح المجال كاملاً لتنمية الانطلاق في الكلام والارتجال فيه – فهما من نعم الحياة ! ولنفتح الباب على مصراعيه لسحرين حلالين هما – البلاغة والبيان.
منقول من كتاب المرحوم عبدالرزاق شبيب نقيب المحامين السابق