السيادة الوطنية في ضوء القانون الدولي الدكتور المستشار محمد نور الدين الغافلي

السيادة الوطنية في ضوء القانون الدولي
 الدكتور المستشار محمد نور الدين الغافلي

السيادة الوطنية في ضوء القانون الدولي
بقلم الدكتور المستشار محمد نور الدين الغافلي

   
تثير المتغيرات
الراهنة في النظام الدولي التساؤلات حول مصير السيادة الوطنية للدولة، هذه السيادة
التي تعتبر إحدى أهم المقومات الأساسية التي تبنى عليها نظرية الدولة في الفكر
السياسي والقانوني، وإحدى أهم أسس التنظيم الدولي التي تنظم العلاقات بين الدول
وتحدد حقوقها وواجباتها. فهناك من يبشر بنهاية السيادة، ومن ينظر بتقليص السيادة
أو بنسبيتها، ومن يدافع عن استمرارية السيادة
.
     بعيداً عن النظريات والآراء المختلفة التي
تتناول مصير السيادة، والتي لا مجال لتناولها في هذه العجالة، وبسبب ما تمثله
السيادة، نجد من الضروري أن نسلط الضوء فيما يلي على مفهوم السيادة في القانون
الدولي وكيفية نشوء مبدأ السيادة وتطوره غبر الزمن
.
مفهوم السيادة
   السيادة مفهوم قانوني- سياسي يتعلق بالدولة
باعتباره أحد أهم خصائصها وسماتها الرئيسية. وهي شرط من الشروط الأساسية لاعتبار
أي كيان سياسي دولة، أي عضواً في المجتمع الدولي
.
يرتبط مفهوم السيادة بمفهوم الاستقلال.
فالدولة المستقلة هي الدولة السيدة القادرة على ممارسة مظاهر سيادتها على الصعيدين
الداخلي والخارجي بحرية دون تدخل من أحد. على هذا فإن مفهوم السيادة ينطوي على
معنيين. من جهة أولى، السيادة تعني السلطة العليا والمطلقة
(the absolute supreme authority) التي تتمتع بها الدولة لمزاولة وظائفها
وممارسة صلاحياتها داخل إقليمها الوطني دون أن تنازعها أو تتد خل فيها أية دولة اخرى.
وهذا، هو المعنى الاساسي والمركزي لمفهوم السيادة، وهو ما يطلق عليه تسمية السيادة
الاقليمية

(territorial sovereignty).
 ومن جهة ثانية، فإن السيادة
تعني الأهلية

(the capacity)
التي تتمتع بها الدولة للدخول في علاقات والتعامل على قدم المساواة،
بندية وتكافؤ مع الدول الأخرى علي الصعيد الدولي. وهذا المعنى يرتبط بمفهوم
الشخصية الدولية

(the international personality).
   السيادة هي التي تخول الدولة الحق بالتشريع
وتطبيق قوانينها ومحاكمة الأشخاص والأفعال داخل إقليمها الوطني، والحق بالدخول
بعلاقات مع الدول الأخرى وعقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية وإرسال ممثلين
ودبلوماسيين يمثلونها في الدول الأخرى، والحق بالتمتع بالحصانات والامتيازات في
الدول الأخرى وأمام محاكمها، وهذه هي الحقوق التي يشملها مفهوم السيادة في القانون
الدولي. والسيادة هي التي تكفل المساواة والتكافؤ بين الدول واحترام الاستقلال
السياسي والسلامة الاقليمية للدولة، وتوجب عدم تدخل أية دولة في شؤون دولة أخرى
.
     فالسيادة، بكلمة مختصرة، هي التي تضمن
لكيان سياسي ما وجوده واستقلاله ومساواته ونديته مع الكيانات السياسية الأخرى
المكونة لمجتمع الأمم. وهي بهذا المعنى تتماهى مع مفهوم الاستقلال
.
نشأة مبدأ السيادة وتطوره عبر
الزمن
     يرتبط ظهور مبدأ “السيادة” (sovereignty) في قانون الأمم (القانون الدولي العام) مع انبثاق
الدولة القومية (الحديثة) في أوروبا بعد معاهدة وستفاليا (1648
(Westphalia, التي أنهت حرب الثلاثين عاماً الدينية في
القارة الاوروبية. فهذه المعاهدة أقرت مبدأ “سيادة الدولة” باعتبار هذه
السيادة هي سلطة الدولة العليا والمطلقة على إقليمها، أي حق الدولة في ممارسة
وظائفها وصلاحياتها وإختصاصاتها داخل إقليمها القومي
(national territory) دون تدخل من أية دولة آخرى.
    هذا المفهوم لمبدأ السيادة كما أقرته
معاهدة وستفاليا جاء متأثراً بمفهوم مبدأ السيادة كما بلوره الفيلسوف الفرنسي جان
بودان

Jean Bodin, 1530-1596))
الذي يعتبر أول من بلور نظرية متكاملة لمبدأ السيادة. ففي مؤلفه
الشهير الذي حمل عنوان “الكتب الستة في الجمهورية
“(Six Livres de Republique) والذي نشر في العام 1576 عرف بودان السيادة
بأنها سلطة الجمهورية العليا والمطلقة والأبدية. فهي عليا لأن لا سلطة تعلوها. وهي
مطلقة لأنها كلية لا تتجزأ، تكون أو لا تكون، غير أنها ليست دون قيود أو حدود. وهي
أبدية لأنها لا تزول مع زوال حاملها. وحامل السيادة
(the holder of sovereignty) هو صاحب السيادة  (the
sovereign)
،
الحاكم الذي لا يخضع لأي قانون سوى القانون الالهي أو القانون الطبيعي، وقانون
الأمم.
     وقد أقرت معاهدة وستفاليا مبدأ السيادة في
العلاقات الدولية كمبدأ يكفل المساواة والتكافؤ بين الدول ويمنع تدخل دول في شؤون
دول أخرى. وعليه، أعتبر أي تدخل من قبل دولة ما في شؤون أية دولة أخرى عملاً غير
مشروع
.
هذا المفهوم لمبدأ السيادة، الذي أقرته
معاهدة وستفاليا والذي حكم وهيمن على العلاقات بين دول القارة الاوروبية خلال
القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، سرعان ما انتشر ليشمل
العلاقات بين دول العالم جميعاً في المرحلة التي تلت. وجاءت معاهدة
“مونتافيديو” في العام 1933

(Montevideo Convention )
،
المتعلقة بحقوق وواجبات الدول، لتأكد على هذا المفهوم عندما اعتبرت أن جميع الدول
متساوية وتتمتع بنفس الحقوق وبنفس الأهلية لممارستها، وبأنه لا حق لأية دولة
بالتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. وتبنى ميثاق الامم المتحدة الموقع في
العام 1945 هذا المفهوم، وحدد المبادئ التي على منظمة الأمم المتحدة والدول
الأعضاء العمل بموجبها لتحقيق مقاصد المنظمة، وهي مبدأ المساواة في السيادة، ومبدأ
عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، ومبدأ الامتناع عن التهديد أو استخدام
القوة ضد وحدة أو سلامة أراضي والاستقلال السياسي لأية دولة. فبمقتضى هذا الميثاق
فإن جميع الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة متساوون في الحقوق والواجبات، ولهم
الحق في المشاركة والتصويت في أعمال المنظمة وفقاً لقاعدة أن لكل دولة صوت واحد
.
     على الرغم من أن جوهر مفهوم السيادة كما
أقرته معاهدة وستفاليا لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر منذ هذه المعاهدة، إلا أن مجال
ومدى وحدود السيادة هي التي خضعت للتطور والتغيير عبر الزمن. فخلال القرنين الثامن
عشر والتاسع عشر، عصر انبعاث الدولة القومية، لم تقبل الدول بأي قيد على سيادتها،
فمارست سلطة مطلقة دون أي قيد أو حدود داخل إقليمها الوطني
.
     غير أن هذا الموقف بدأ يتغير بعد النصف
الثاني من القرن العشرين. فالدول بدأت تقبل، من أجل صالح المجتمع الدولي، بعض
القيود والحدود على تصرفاتها الداخلية والخارجية. فأخضعت بعض صلاحياتها السيادية
لبعض القيود، وتم ذلك إما بحكم المعاهدات أو الاتفاقات الدولية، أو بحكم قرارات
المنظمات الدولية (العالمية أو الإقليمية)، أو بمقتضى قرار ذاتي منها. ونتيجة لذلك
لم تعد السيادة التي تتمتع بها الدولة مطلقة
.
      فنشوء المنظمات الدولية بجميع أنواعها
(العالمية والاقليمية، السياسية والامنية والمتخصصة) وتطور العلاقات بين الدول
والمتغيرات المصاحبة للعولمة وثورة التكنولوجيا هي التي حتمت تكييف مبدأ السيادة
وبالتالي تقييد الحقوق والصلاحيات والوظائف السيادية للدولة بما يكفل مصالح
المجتمع الدولي. وبذلك لم يعد التدخل في الشؤن الداخلية للدولة أمراً غير مشروع،
كما كان في الماضي، بل أمراً جائزاً تبرره الحقائق الراهنة. ومن أبرز نواحي الشؤون
الداخلية للدولة التي طالها التدخل الدولي هي علاقة الدولة مع رعاياها خاصة في
مجال حقوق الانسان والحريات العامة، والسياسات المالية والاقتصادية والادارية
للدولة. وطال التدخل أيضاً جميع نواحي العلاقات الاقتصادية بين الدول
.
    وأبرز مظاهر التدخل في شؤون الدول والتي تحد
من السلطات والصلاحيات السيادية للدول نجدها في ميثاق الأمم المتحدة الذي جعل
صلاحيات واختصاصات هذه المنظمة تشمل بالإضافة للنواحي السياسية والامنية المجالات
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها التي كانت تعتبر تقليدياً من صميم
الاختصاص الداخلي للدول. ونجدها أيضاً في معاهدة ماسترخت
(Maastricht Treaty) الموقعة في العام 1991 والمنشئة للاتحاد
الاوروبي، والمعاهدات المعدلة لها، والتي أنشأت مؤسسات اتحادية فوق المؤسسات
الوطنية للدول الأعضاء. وكذلك نجدها في نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي جعل
أصحاب السيادة في الدول المصدقة لهذا النظام، من رؤساء الدول ورؤساء الحكومات
والوزراء والنواب والموظفين الرسميين، خاضعين لاختصاص المحكمة في حال ارتكابهم
جرائم دولية
.
     وفي الخلاصة يمكننا القول بأن التطورات
الراهنة في النظام الدولي على الرغم من أنها قد قلصت من السلطات والوظائف التقليدية
للدولة، إلا أنها لم تأت على السيادة. صحيح أن السيادة تواجه في الوقت الحاضر
وضعاً صعباً بسبب القيود والضوابط والشروط التي تفرض على الدول في ممارسة سيادتها،
إلا أنها بقيت على اعتبار أنها أداة ضرورية لتنظيم العلاقات بين الدول، وهي ستبقى
ما بقيت الدولة القومية. وجل ما في الأمران الدولة لم تعد مطلقة اليد في شؤونها
الداخلية كما كانت في الماضي، بل أصبحت محكومة ومقيدة بضوابط وشروط تضمن عدم تعارض
إدارتها لشؤونها الداخلية مع التزاماتها ومسؤولياتها الدولية، وعدم المس بحقوق
ومصالح الدول الأخرى والأشخاص الدوليين الآخرين
.