المجتمع المدني رافعة لإنتاج النصّ الوطني

“المجتمع المدني”، رافعة لإنتاج النصّ الوطني


بقلم المحامي عارف الشعال 
نحن دولة مستوردة للنصوص والتشريعات، فباستثناء الدستور وقانون الأحوال الشخصية، جميع تشريعاتنا الرئيسية كالقانون المدني والعقوبات والتجاري والشركات وأصول المحاكمات والتشريعات العقارية والتي تعتبر المصدر الرئيسي لباقي القوانين، جميعها مستوردة وليست إنتاجاً وطنياً.
تكمن المشكلة أننا بالرغم من مضي حوالي القرن على تأسيس أول معهد للحقوق بدمشق (عام 1920) أي مائة عام على رفد المجتمع بالأخصائيين بالقانون وما نزال نستورد النصوص الرئيسية، ومن يدقق عبارات قانون العلامات الفارقة والمؤشرات الجغرافية الأخير رقم 8 لعام 2007 يدرك أنه مترجم من مصدر أجنبي! ناهيك عن المشاكل في التشريعات نفسها التي لها صبغة وطنية صرفة، والتي لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
الأمر الذي يطرح تحدي إنتاج النص الوطني المحض لأن: 
((القوانين تخرج من فطرة الشعوب واحتياجاتها، كما يخرج النبات من الأرض))
على حد تعبير الفقيه الألماني المعروف، “فريدريك سافيني”
إذا تتبعنا مصدر النص المستورد نفسه بالرغم من أصوله الرومانية المعروفة فأينما تجولت في مراجع القانون تجد بصمات (المجتمع المدني “الحقوقي”) واضحة في نظريات القانون المختلفة لا تخطئها العين، فها هو الدكتور “فتحي والي” عندما تحدث في الصفحة 51 من مرجعه القيم (نظرية البطلان في المرافعات) عن تاريخ المبدأ الشهير في أصول المحاكمات القائل بأن ((الخصومة عمل تتابعي واحد)) الذي كرَّس مبدأً جوهرياً في نظرية الخصومة: القائل بـ “وحدة الخصومة” فقد طرحه الأستاذ الإيطالي “فورنو” في (المؤتمر الدولي لقانون المرافعات) الذي عقد في فلورنسا بين 30 أيلول و3 تشرين الأول 1950، بدعوة من {الجمعية الإيطالية لدارسي الخصومة المدنية “المرافعات”}
ويحدثنا الدكتور “محمد صادق فهمي” المستشار في محكمة النقض المصرية، في محاضرته التي ألقاها في المؤتمر الثاني للمحامين الذي عُقد في القاهرة في آذار 1956 عن “القانون المقارن” فعزا نشوء هذا الفرع الهام جداً من فروع القانون لجمعيات علمية تخصصية للقانون المقارن الأولى نشأت في باريس سنة 1869، والثانية في برلين سنة 1893، هذه الجمعيات ساهمت في عقد عدة مؤتمرات دولية للقانون المقارن حيث عُقد المؤتمر الأول سنة 1900، ثم في لاهاي سنة 1932، وآخر سنة 1937.
وفي الشق الجزائي من القانون فحدث ولا حرج عن الجمعيات المتخصصة في شتى فروعه، ويحدثنا الدكتور “محمد الفاضل” في كتابه المبادئ العامة في التشريع الجنائي كيف ساء بعض علماء الجزاء اشتداد الجدل النظري بين المذاهب والنظريات بينما ترتفع نسبة الإجرام ويزداد عدد المجرمين، فتنادى ثلاثة من كبار أساتذة الحقوق الجزائية في أوروبا (“فان هامل” من جامعة أمستردام، و”برنس” من جامعة بروكسل، و”فون ليست” من جامعة برلين) وأسسوا عام 1889 “الاتحاد الدولي للقانون الجزائي” الذي عقد عدة مؤتمرات دولية وقام بإصدار نشرة دورية، ثم حلّت محله “الجمعية الدولية للقانون الجزائي” واستمرت في عقد المؤتمرات وإصدار الدوريات، 
حتى أنه يرجع الفضل في انتشار “مدرسة الدفاع الاجتماعي” الشهيرة في الفقه الجزائي إلى مركز للدراسات خاص بأبحاث هذه المدرسة، أنشأه رائد هذه المدرسة الفقيه الإيطالي “فيليبو غراماتيكا” الأستاذ في جامعة جنوة، فكان هذا المركز نقطة الانطلاق لحركة عالمية جريئة في الفقه الجزائي الحديث بفضل المجلة التي أصدرها وتحمل اسم “مجلة الدفاع الاجتماعي” وكذلك المؤتمرات الخاصة بالدفاع الاجتماعي كمؤتمر سان ريمو 1947، ومؤتمر لييج 1949، حتى مؤتمر الجمعية الثامن في باريس 1971، ساهمت في منح هذا المذهب مكانة مرموقة في الحقوق الجزائية.
وهكذا لعبت الجمعيات ومراكز الأبحاث التخصصية والتي تعتبر عماد المجتمع المدني، بفضل المؤتمرات الدورية التي عقدتها والنشرات والأبحاث التخصصية التي كانت تنشرها دوراً جوهرياً، في ترسيخ وتطوير وتحسين وحتى ولادة نظريات ومذاهب حقوقية في شتى فروع القانون، هذا الحراك الحقوقي العظيم يعدُّ شريان رئيسي يرفد الفقه القانوني بأحدث الأفكار والنظريات، فيتجسد تالياً بالضرورة في التشريعات المختلفة كنصوص قانونية راسخة. 
وسبق أن ذكرنا في منشور سابق أن نصَّ المادة 519 من قانون العقوبات يرجع في جذوره لمؤتمر باريس عام 1910 الخاص بمكافحة المطبوعات والصور المنافية للأخلاق، والمعقود برعاية جمعيات وهيئات مجتمع مدني.
لذلك فإن وجود الجمعيات ومراكز الأبحاث والدراسات التخصصية، له دور حيوي لا ينكر في النهوض بالمجتمع والدولة بكافة مناحيها، وبالتالي يعتبر تحرير المجتمع المدني في بلدنا عبر إقرار قانون جديد للجمعيات ورفع الوصاية الأمنية الضاغطة عليه، وإطلاق تشكيل الجمعيات ومراكز الأبحاث التخصصية، ضرورة ملحة حتى يمارس دوره كرافعة للمجتمع بشكل عام، والحياة العلمية والبحثية بشكل خاص.