مجالس الاقضية والنواحي بين مطرقة الابقاء والالغاء

مجالس الاقضية والنواحي بين مطرقة الابقاء والالغاء

من الواضح للعيان ان تبني مفاهيم الديمقراطية في النظام السياسي والحكم ينعكس حتماً على نظام ادارة الدولة، ويجعل مؤسسات الدولة وهيئاتها المركزية والمحلية تطمح لتطبيق اسس الديمقراطية ومبادئها وترسيخ مبدأ حكم الشعب بنفسه . وهذا ما حدث فعلاً في النظام السياسي والاداري في العراق بعد عام 2003، إذ حملت رياح الديمقراطية الفتية نسيم ديمقراطية محلية لم يألفها الناخب العراقي منذ عقود خلت.

وتجلت الديمقراطية المحلية بانتخاب اعضاء المجالس المحلية في الاقضية والنواحي بالإضافة الى انتخاب اعضاء مجالس المحافظات، إلا انه خلال الفترة الماضية ومنذ صدور قانون المحافظات غير المنتظمة في اقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدل لم تنظم انتخابات للمجلس المحلية في الاقضية والنواحي على الرغم من اجراء انتخابات مجالس المحافظات، والتي كان من المفترض ان تجري انتخابات مجالس الاقضية والنواحي متزامنة معها؛ ولعل سبب ذلك يعود الى وجود عقبات قانونية وعملية تقف حائلاً من اجراء عملية الانتخاب.

وبدلاً من ان يبادر مشرعنا العراقي الى تذليل تلك العقبات بأجراء الانتخابات وترسيخ اسس الديمقراطية المحلية وتدريب المجتمع المحلي على انتخاب اعضاء المجالس المحلية واختيار من يمثلهم في مجالس الاقضية والنواحي باعتبارها البذرة الاولى لتمرين وتدريب المواطنين على الانتخاب، ولكي تنطلق منها عملية الاقتراع الكبرى الى مجلس النواب في اختيار من ثبت كفاءتهم وجدارتهم على المستوى المحلي والاستفادة منهم وطنياً، طفح على السطح مشروع قانون التعديل الرابع لقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) لسنة 2008.
وفحوى التعديل ينطلق من الغاء مجالس الاقضية والنواحي، حيث نصت المادة (1) من مشروع قانون التعديل الرابع على انه (( تلغى مجالس الاقضية والنواحي))، وقضت المادة (4) منه على ان (( يمارس مجلس المحافظة الاختصاصات المناطة بمجالس الاقضية والنواحي)).
وجاء في الاسباب الموجبة لمشروع قانون التعديل الرابع لقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم بانه ” لترشيد وتقليل النفقات العامة” شرع هذا القانون، فالهدف الاساسي والحكمة المبتغاة اقتصادية بحتهّ في ترشيد النفقات العامة وتقليل نفقات الدولة !!. ان هذا السبب قد يكون مشروعاً في البلدان ذات البنية الاقتصادية الضعيفة والتي لا تمتلك موارد اقتصادية تمكنها من دفع رواتب اعضاء المجالس المحلية ونفقاتهم، لكنه غير مقبول بتاتاً في بلد يمتلك ثروات اقتصادية هائلة مثل العراق، زد على ان هنالك حلول اخرى لترشيد الانفاق، كتقليل رواتب اعضاء المجالس المحلية ، وفرض ضرائب وغرامات لقاء الخدمات التي تقدمها للمواطن، وليس الغاء المجالس بالكامل، فاخر الدواء الكي كما قيل قديماً. ويمكن للمشرع ان يضع حلول اخرى لترشيد الانفاق، في تقليل عدد اعضاء المجالس المحلية، أو تشكيل المجلس من رؤساء الدوائر في القضاء أو الناحية، كما يمكن الجمع بين الانتخاب والتعيين.
ان فشل تجربة المجالس المحلية في العراق لا يمكن ان نعزوه الى طبيعة المجالس المحلية، أو انها بالأصل تجربة غير ناجحة، فالمجالس المحلية تمثل ركن اساسي ورئيسي في ديمقراطيات العالم المتألقة، كألمانيا وهولندا وايرلندا.
فتقف وراء المجالس المحلية فلسفة سياسية واجتماعية وقانونية، تهدف الى تشجيع الممارسات الديمقراطية، وتمكين السكان المحليين من ادارة شؤونهم بأنفسهم وتطوير قدراتهم الذاتية واستكشاف المصالح المحلية، وتحقيق رفاهية المجتمعات المحلية، ومنحها استقلال ذاتي اتجاه السلطة المركزية. وليس ببعيد عن ما تمارسه الدول المجاورة لنا لاسيما الدول العربية، فمجلس شورى الدولة السعودي ناقش في عام 2012 كيفية دمج المجالس المحلية مع المجالس البلدية وتوسيع صلاحيات المجالس البلدية لغرض تطوير المدن والقرى اجتماعيا واقتصاديا وعمرانيا وتوفير الخدمات العامة ورفع كفاءتها، وزيادة عدد اعضاء المجالس البلدية لفسح المجال امام مشاركة المواطنين في الادارة المحلية.
و انطلاقا مما تقدم وفي معرض نقدنا لمشروع قانون التعديل الرابع لقانون المحافظات غير المنتظمة في اقليم رقم (21) لسنة 2008،حيث نص القانون على الغاء مجالس الاقضية والنواحي، واناط بمجلس المحافظة ممارسة اختصاصات المجالس الملغاة، وقضت المادة (3) من مشروع القانون على انه (( يعلق العمل بالمواد(3/اولا_2) و(3/اولا_3) و(8) و(9) و(10) و(11) و(12) و(13) و(14))
ولنلق نظرة على قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) لسنة 2008 وعلى المواد التي اشارت اليها المادة سالفة الذكر، نجدها تضمنت اختصاصات مجالس الاقضية والنواحي، فالمادة (8) نصت على كيفية اختيار رئيس مجلس القضاء واعفاءه، وانتخاب القائممقام واعفاءه ، وبنفس الوقت نصت على اختصاصات مجلس القضاء في اعداد مشروع موازنة مجلس القضاء، والمصادقة على خطط موازنة دوائر القضاء واحالتها الى المحافظ، والموافقة على تسمية الشوارع وتخطيط الطرق، وكذلك الموافقة على التصاميم الاساسية في القضاء وتقديم التوصيات بشأنها الى القائممقام والمحافظ ويحيلها الى مجلس المحافظة، ويختص مجلس القضاء في مراقبة الانشطة التربوية والصحية والزراعية التي تهم القضاء والعمل على تطويرها بالتنسيق مع الجهات المختصة.
ولمجلس القضاء اختصاصات اخرى نص عليها القانون، كالمصادقة على الخطة الامنية المقدمة من قبل رؤساء الاجهزة الامنية عبر القائممقام، وتقديم الدراسات والبحوث العلمية في المجالات المتعلقة بتطوير القضاء واحالتها الى مجلس المحافظة. وعلى اثر ذلك يمارس مجلس الناحية ذات الاختصاصات التي يمارسها مجلس القضاء ضمن الحدود الادارية للناحية.
ان المعالجة التي ابتكرها مشرعنا العراقي في مشروع قانون التعديل الرابع لقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم تتضمن حلول مجلس المحافظة محل مجالس الاقضية والنواحي في ممارسة اختصاصاته، والسؤال الذي يواجهنا في هذا الموضوع، هو هل ان مجلس المحافظة يمتلك القدرة الكافية لإدارة حجم الاختصاصات الهائلة لمجالس الاقضية والنواحي في عموم المحافظة، لاسيما وان قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) لسنة 2008 اناط بمجلس المحافظة اختصاصات اصيلة تتصل بالسياسية العامة للمحافظة (م/7).
نعتقد ان مجالس المحافظات غير المنتظمة بإقليم ستواجه صعوبات جمة في حال اقرار مشروع القانون، وسيثقل التعديل كاهلها ويشغلها بمشاكل الاقضية والنواحي الجزئية، بدلاً من الانشغال بالأمور التي تهم المحافظة ككل، وتجنح عن اختصاصاتها الاصيلة في القانون. كما ان موجبات التشريع بتقليل النفقات العامة وترشيد الانفاق، لاشك انه سيؤدي الى تكليف السكان المحليين نفقات اضافية في مراجعة مجلس المحافظة لإنجاز معاملاتهم، وبالتالي فان اقرار التعديل سيكون على حساب المواطن البسيط، وسيتكلف السكان نفقات المراجعة المستمرة لمجلس المحافظة في مركز المحافظة بعد ان كانت المراجعة للمجلس المحلية في القضاء والناحية .
ان الغاء المجالس المحلية في الاقضية والنواحي، بالإضافة الى انه يتعارض مع مبادئ الديمقراطية المحلية، ومشاركة السكان المحليين في تنظيم المصالح المحلية، فانه لا ينسجم بتاتاً مع توجه المشرع العراقي في نقل الصلاحيات الى الحكومات المحلية في المحافظات والتي اقرها قانون التعديل الثاني رقم (19) لسنة 2013 لقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) لسنة 2008 والتي تقتضي تعزيز مبدأ المشاركة المحلية، واستحداث هيئات ومؤسسات محلية تتناسب مع حجم الصلاحيات المنقولة للمحافظات، ولا يتلاءم الغاء مجالس الاقضية والنواحي مع توجه مشرعنا العراقي في تعزيز صلاحيات الحكومة المحلية اطلاقاً. ومن جانب اخر يلاحظ ان مشروع قانون التعديل الرابع قد اورد مصطلح(تعلق المواد…) وهو مصطلح غير واضح ومبهم، فماذا يقصد المشرع بالتعليق، فهل يعني الالغاء، فلم يسبق وان استخدم مشرعنا العراقي مصطلح (التعليق)!!.

ومن مفارقات الدهر ان يتزامن مناقشة مشروع الغاء مجالس الاقضية والنواحي مع مشروع قانون القبائل العراقية والذي يرمي الى انشاء مجالس للعشائر في الاقضية والنواحي والمحافظات، تتألف من شيوخ العشائر في الناحية والقضاء بعد اجراء انتخابات لهم في مركز الوحدات الادارية كلا بحسبها، ولا يشترط في عضو مجلس العشائر شروط سوى ان يقرأ ويكتب، كما لم يحدد القانون اختصاصات مجلس العشائر. ونعتقد ان مشرعنا العراقي رجع القهقري..

ونحن نترقب ان يعود بعجلة التاريخ الى الوراء في بلد الحضارات، فأحياء النعرة العشائرية في مجتمع يعج بمشاكل العادات والتقاليد العشائرية السلبية ، ليغرز خنجراً مسموما في ظهر المدنية،سيؤثر حتما على البناء القانوني للدولة لاسيما إذ ما اقر هذين المشروعين ليستبدل الذي هو ادنى _مجالس العشائر_ بالذي هو خير _مجالس الاقضية والنواحي_ في الوقت الذي كان في العراقمجالس محلية للقرى نظم احكامها قانون إدارة القرى رقم (16) لسنة 1957 (الملغى) ومنح المشرع العراقي القرية الشخصية المعنويــــــــة بموجب قانـــــون إدارة القـــــرى المشار إليه آنفاً، ويمثلـــــها العمدة ومجلس القريــــــــــــــــة ، ويتولى مجلس القرية إدارة شؤون القرية المالية والخدمية والتنظيمية. فما بال مشرعنا بعد مرور ما يناهز الست عقود يروم الغاء مجالس الاقضية والنواحي، في الوقت الذي كانت فيه مجالس قرى تمتع بالشخصية المعنوية وفي ظل نظام ديمقراطي تبنى اللامركزية الادارية.