دراسة موجزة في اتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم وفقاً لاحكام الشرع والقانون
مجلة المحاماة – العدد الثاني
السنة الأولى – مصر في أول أغسطس سنة 1920
المباحث القانونية والتشريعية
بحث في أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم
جرت المحاكم على تقدير تلك الأتعاب تقديرًا تافهًا جدًا فهي تتراوح أمام محكمة الاستئناف بين مائة قرش إلى أربعمائة ولا تزيد في الغالب على ألف قرش إلا في بعض قضايا نادرة جدًا لا يمكن أن تكون أساسًا يعتمد عليه عند البحث في هذه المسألة، وتتراوح تلك الأتعاب أمام المحاكم الابتدائية بين مائة قرش وثلاثمائة قرش وهي لا تزيد في الغالب على ستمائة قرش في بعض قضايا تناولت إجراءات عديدة ومطولة، أما في المحاكم الجزئية فلا تزيد تلك الأتعاب غالبًا على مائتي قرش وقد تكون أحيانًا خمسة عشر قرشًا أو عشرة قروش فقط.
والباحث في هذه المسألة يجد نفسه بين عاملين جديرين بالعناية.
العامل الأول: أخلاقي وهو ضرورة العناية في تسهيل التقاضي بين الناس حتى تتربى النفوس على التمسك بالحقوق واحترام حقوق الغير من طريق قوة القانون.
وقد دلت الإحصائيات على أن عدد القضايا مرتبط – في الكثير من الأمور – بمقدار ما يتكلفه المتقاضون من المصاريف.
وبديهي أن الأتعاب التي يحكم بها على الخصم داخلة ضمن ما يتكلفه المتخاصمون متى لجأوا إلى سلطة القضاء.
غير أننا لا نريد أن نبالغ في قيمة هذا العامل لأن رخص التقاضي قد يؤدي أيضًا إلى وجود دعاوى كثيرة ليس لها من أساس وتصبح المغالاة في تسهيل التقاضي مدعاة للشكوى من طريق آخر.
والعامل الثاني: له مساس بالعدالة نفسها من حيث تفاهة تلك الأتعاب فهي لا تعوض من حكم لصالحه ما يكون قد دفعه إلى محاميه أو ما يقرب من ذلك وفي هذا ظلم ظاهر.
نضيف إلى ما تقدم أن كثيرًا من إجراءات التنفيذ لا يحكم فيها بأتعاب على الخصم مع أن سبب الالتجاء إلى تلك الإجراءات هو عناد المحكوم عليهم أو مماطلاتهم بقصد مضايقة المحكوم لهم وبقصد الوصول بذلك إلى صلح ينتزعه أولئك المماطلون من دائنيهم بتنازل الآخرين عن جزء من حقوقهم.
ومما تجب ملاحظته في هذا المقام أن عدد القضايا في مصر كثير جدًا وقد لاحظ جناب المستر جون أدون مارشال في مقال نشرته له (مجلة مصر العصرية) أن عدد القضايا في مصر يساوي عددها في إنجلترا تقريبًا مع أن سكان القطر المصري لا يزيد على ثلث سكان إنجلترا وإن المصالح موضوع تلك الدعاوى أهم بكثير في إنجلترا منها في مصر.
ويظهر مما تقدم أن الخطر في العدول عن القاعدة التي اتبعت إلى الآن في تقدير تلك الأتعاب هذا التقدير التافه إنما هو خطر وهمي أكثر منه حقيقي وأنه ليس في زيادة تلك الأتعاب زيادة معقولة تصعيب في التقاضي بهذا المقدار الذي قد يتصوره البعض في أول الأمر من دون التفات إلى الزيادة المضطردة في عدد القضايا والتي يوجد كثير منها على غير أساس جدي ومن دون التفات إلى ما تقتضيه العدالة في رفع نوع من الظلم واقع على المكوم عليهم كما أسلفنا.
لهذا كله يترجح عندنا العدول عن القاعدة التي اتبعت إلى الآن في تقدير هذه الأتعاب ووضع مبدأ يقضي بزيادتها زيادة معقولة.
وقبل أن نبدي رأيًا في كيفية هذه الزيادة يحسن بنا أن نبدي الملاحظة الآتية وهي: أننا غير مقيدين بآراء الشراح الفرنساويين في هذا العدد ذلك لأن لائحة الرسوم القضائية في فرنسا الصادر بها الدكريتو المؤرخ 16 فبراير سنة 1807 والتي تعدلت بدكريتو 21 يناير 1845 قد نصت صراحةً في المادة (80) و(82) على تحديد تلك الأتعاب بخمسة عشر فرنكًا داخل باريس وعشرة فرنكات خارجها في الأحكام الحضورية أما في الأحكام الغيابية فقد تحددت بخمسة فرنكات وأربعة فرنكات (راجع مؤلف جرسونيه جزء أول صحيفة نمرة 424 نوتة 254 وتعليقات دالوز على قانون المرافعات صحيفة نمرة 1103 وكذلك البندكت)، ويقول شراح هذه القانون إن هذه الأتعاب ليست في الحقيقة كل ما كان واجب الدفع أتعابًا للمحاماة على الخصم وإنما لوحظ في تقديرها أنها عبارة عن كل ما يمكن أن يكون قد صرف في شؤون المحاماة فهي أشبه شيء بمصاريف الانتقال.
لذلك كانت قيمتها عندهم تافهة جدًا ولا يوجد في قوانيننا نص كهذا يقيدنا ويضطرنا إلى تفسير حكمة تقدير هذه الأتعاب على النحو الذي ذهب إليه الشراح الفرنسويون بل يوجد عندنا نصوص تغاير هذا النص الفرنساوي كما سنبينه فيما يلي.
بعد هذه الملاحظة يحسن بنا أن نعرض أهم الآراء في هذا الموضوع: يوجد رأي قائل بجعل لائحة الرسوم القضائية أساسًا عند الحكم بالأتعاب على الخصم الذي خسر الدعوى فتكون تلك الأتعاب مساوية على الأقل لنصف الرسوم النسبية مثلاً أو مساوية لها.
غير أن هذا الرأي معيب لأن لائحة الرسوم القضائية مبنية على قيمة الدعوى بغض النظر عن قيمة العمل فيها والزمن الذي تستغرقه وثروة الخصوم ومثل هذا لا يصلح أن يكون أساسًا عند تقدير الأتعاب سواء في ذلك أتعاب الوكيل بالنسبة لموكله أو أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم وفوق هذا فإن هذه اللائحة موضع نقد فلا يصح أن نعلق شيئًا على شيء منتقد في ذاته.
ويوجد رأي آخر يقول بأن الواجب عند تقدير هذه الأتعاب ملاحظة كونها المقابل لما يدفعه المحكوم لصالحه إلى محاميه.
وهذا الرأي معيب كذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن الحكم على الخصم الذي خسر الدعوى بأتعاب ملحوظ في تقديرها أنها المقابل تمامًا لما يدفعه من كسب الدعوى إلى محاميه مما قد يؤثر في الاتفاق الحاصل بين من كسب الدعوى ووكيله ويخلق نزاعًا جديدًا قد لا يوجد، وهذا إذا أخذنا بالرأي الغالب القائل بجواز تعديل قيمة هذه الاتفاقات زيادة ونقصانًا متى قام النزاع بشأنها.
ثانيًا: أن ملاحظة ثروة الخصم ليس لها محل هنا وبمعنى أن من خسر الدعوى لا يصح أن يطالب بأتعاب لوحظ عند تقديرها ثروة خصمه وإنما المسؤول عنه عدلاً هو تلك الأتعاب التي لوحظ فيها قيمة القضية وأهمية العمل فيها والزمن الذي استغرقته ويمكننا الآن بعد بيان ما تقدم أن نبدي رأينا في هذا الموضوع.
أمامنا المادة (37) من لائحة الرسوم القضائية للمحاكم المختلطة، والمادة (35) من الأمر العالي المؤرخ 7 أكتوبر سنة 1897 ونصها:
(يجوز طلب أجرة المحامين أو الوكلاء ممن حكم عليه بمصاريف الدعوى بشرط أن تكون هذه الأجرة مقدرة بمعرفة المحكمة أو القاضي، ويراعى في تقديرها قيمة الشيء المتنازع فيه والعمل الذي باشره والمحامي أو الوكيل والزمن الذي قضاه في ذلك وحالة ثروة المتخاصمين ولا يعتد بالأوراق التي صار تحريرها بغير حاجة إليها).
(وإذا اقتضى الحال لتقدير الأجرة التي يلزم دفعها للمحامي أو الوكيل من موكله فتراعى أيضًا الأحوال المبينة آنفًا).
وقد جرت المحاكم على تطبيق هذه القواعد عند تقدير الأتعاب بين الوكيل والموكل وأهملته عند الحكم بالأتعاب لأحد الطرفين المتخاصمين على الآخر وفي ذلك ما فيه من مخالفة روح التشريع وحرفية النص.
على أن هذا النصر في ذاته معيب من حيث إنه يقضي بمراعاة ثروة الخصوم عند تقدير الأتعاب المحكوم بها على من خسر الدعوى ومن رأينا أن المحكوم عليه لا يكون مسؤولاً إلا عن الأتعاب التي يلاحظ في تقديرها قيمة الشيء المتنازع فيه والعمل والزمن دون التفات إلى ثروة من حكم لصالحه لذلك نرى أن يعدل هذا النص بالكيفية الآتية:
(حذف عبارة وحالة ثروة المتخاصمين من الفقرة الثانية ووضعها في الفقرة الثالثة).
وبهذا التعديل يصبح النص أقرب إلى العدالة.
أما الفوائد التي تنجم عن تقرير هذا المبدأ فهي كثيرة أهمها:
أولاً: وضع حد للطلبات الباهظة بين المتقاضين.
ثانيًا: تقليل عدد القضايا التي تُرفع على غير أساس جدي.
ثالثًا: رفع ظلم واقع على المحكوم لمصلحته فيما يتعلق بأتعاب المحاماة.
رابعًا: منع تأثير الحكم بالأتعاب على الخصم في عقد الاتفاق بين من كسب الدعوى ومحاميه لأن حالة ثروة من كسب الدعوى ومركز المحامي الذي يترافع فيها لم يكونا من العوامل في تقدير تلك الأتعاب.