ماهية إجراءات الإثبات في نظام المرافعات السعودي.
المقصود بإجراءات الإثبات
بيان الإجراءات التي يتمكَّن بها الخَصم من إثبات حُجَّته؛ سواء كان مُدَّعيًا، أم مُدَّعَيًّا عليه، وكيف يتعامل القاضي معها، وقد انتظَم هذا الباب في ثمانية فصول، بُدِئت بأحكام عامة، ويَليه استجواب الخصوم والإقرار في الفصل الثاني، وفي الفصل الثالث ما يتعلَّق باليمين، وفي الفصل الرابع المعاينة، وفي الفصل الخامس الحديث عن الشهادة، وفي الفصل السادس ما يتعلَّق بالخبرة، وفي الفصل السابع الاحتجاج بالكتابة، وآخرها الحديث عن القرائن في الفصل الثامن.
وغني عن القول أنَّ هذا الباب يُعد من الأبواب المهمَّة في المرافعات؛ لأن الدعوى إذا عَرِيَتْ عن بيِّنة تُثبتها، لَم تُفد صاحبها شيئًا في الغالب، وبعض الخصوم ربما يتوهَّم أنَّ الدعوى لا تَثبت إلاَّ بإقرار أو شاهدين فحسب، ويظنُّ بعض الخصوم أيضًا أنَّ البيِّنة لا تُقبل إلاَّ إذا تمكَّن من إحضارها أمام القاضي، كما أنَّ هذا الباب يُبيِّن للقاضي كيف يتعامل مع البيِّنات التي يُبرزها أو يَستشهد بها الخصوم، كما يتَّضح من خلال هذا الباب ومَوادِّه تقديرُ المحكمة للخِبرة وأهلها، وكيفيَّة الاستفادة من خِبرتهم في الإثبات.
ففي المادة السابعة والتسعين: “يجب أن تكون الوقائع المرادُ إثباتُها أثناء المرافعة متعلقةً بالدعوى، منتجةً فيها، جائزًا قَبولها”.
وبيَّنت اللائحة التنفيذية للمادة أنَّ الوقائع المتعلقة بالدعوى هي: ما يؤدِّي إثباتُها إلى إثبات الدعوى أو جزءٍ منها، والوقائع المنتجة في الدعوى هي: المؤثرة في الدعوى نفيًا أو إثباتًا.
وأما الوقائع الجائز قبولها، فهي ممكنة الوقوع، فلا تُخالف الشرع أو العقل أو الحِس، وقد سبَق في حلقة مضَت بيان الشروط التي يجب توفرها؛ كي تصحَّ الدعوى، وتكون مقبولة مسموعةً.
وأما المادة الثامنة والتسعون، فقد بيَّنت أمرًا مهمًّا يَحفظ حقَّ الخصوم، ونصُّها: “إذا كانت بيِّنة أحد الخصوم في مكان خارجٍ عن نطاق اختصاص المحكمة، فعليها أن تستخلفَ القاضي الذي يقع ذلك المكان في نطاق اختصاصه؛ لسماع تلك البيِّنة”.
فلو أنَّ قضية تُنظر في محكمة الرياض مثلاً، وذكَر أحد الخَصمين أنَّ له بيِّنة تُثبت صحة ما ادَّعاه، وهي شهادة شاهدٍ أو أكثر يُقيم مثلاً في جدة، فهنا يَلزم المحكمة أن تستخلفَ محكمة جدة في سماع هذه البيِّنة، ويكون الاستخلاف بخطاب يُبعَث إلى المحكمة المُختصة، يُبيِّن فيه ناظر القضية اسمَ المدَّعي والمدَّعى عليه، وموضوع الدعوى، وأنه استخلَف المحكمة؛ أي أنابَها في سماع البيِّنة، وتعديل الشاهدين في حال كون الشهادة مُوصلة مؤثِّرة في الإثبات
والمراد بالاستجواب: طلب الجواب والردِّ.
جاء في المادة المائة: “للمحكمة أن تستجوبَ مَن يكون حاضرًا من الخصوم، ولكلٍّ منهم أن يطلبَ استجواب خَصمه الحاضر، وتكون الإجابة في الجلسة نفسها، إلاَّ إذا رأَت المحكمة إعطاء ميعاد للإجابة، كما تكون الإجابة في مواجهة طالب الاستجواب”.
واستجواب أحد الخصوم للآخر يكون عن طريق ناظر القضيَّة وَفْق المادة (70)، التي بيَّنت مسؤولية رئيس الجلسة عن توجيه الأسئلة، وأنَّ للخصوم أن يَطلبوا منه توجيه ما يُريدون توجيهه من أسئلة مُتصلة بالدعوى.
وللمحكمة – عند الاقتضاء – طلبُ حضور الخصم لاستجوابه؛ ففي المادة الأولى بعد المائة: “للمحكمة أن تأمُر بحضور الخصم لاستجوابه؛ سواءً من تِلقاء نفسها، أو بناءً على طلب خَصمه، إذا رأت المحكمة حاجةً لذلك، وعلى مَن تُقرِّر المحكمة استجوابه أن يَحضُرَ الجلسة التي حدَّدها أمرُ المحكمة”.
ومع ذلك إن كان للخَصم عذرٌ مقبول، يَمنعه من الحضور بنفسه لاستجوابه – فإن المحكمة تَبعث له مَن يسأله؛ جاء في المادة الثانية بعد المائة: “إذا كان للخصم عذرٌ مقبول يَمنعه من الحضور بنفسه لاستجوابه، يَنتقل القاضي أو يَندب مَن يثق به إلى محلِّ إقامته لاستجوابه، وإذا كان المُستجوَبُ خارجَ نطاق اختصاص المحكمة، فيَستخلف القاضي في استجوابه محكمةَ محلِّ إقامته”.
وتخلُّفُ الخصم عن الحضور للاستجواب، أو امتناعه دون عُذرٍ مقبول، لا يَمنع المحكمة من المُضي في نظر القضية؛ جاء في المادة الثالثة بعد المائة: “إذا تخلَّف الخَصم عن الحضور للاستجواب دون عُذرٍ مقبول، أو امتنَع عن الإجابة دون مُبرِّر، فللمحكمة أن تسمعَ البيِّنة، وأن تستخلصَ ما تراه من ذلك التخلُّف أو الامتناع”.
فإذا تخلَّف الخَصم عن الحضور لاستجوابه دون عُذرٍ مقبول، أو امتَنع عن الإجابة عن الاستجواب دون مُبرِّر، ولَم تكن بيِّنة للخَصم – عدَّه القاضي ناكلاً، وأجرَى ما يَلزم شرعًا، وسبَق الإيضاح بأنَّ النكول أحد الطرق التي تَثبُت بها الدعوى في تفصيل في المسألة.
وبيَّنت المادة الرابعة بعد المائة أثرَ الإقرار، ونصُّها: “إقرار الخَصم عند الاستجواب، أو دون استجوابه – حُجَّة قاصرة عليه، ويجب أن يكون الإقرار حاصلاً أمام القضاء أثناء السَّيْر في الدعوى المتعلقة بالواقعة المُقر بها”.
وبيَّنت اللائحة التنفيذية أنَّ المقصود بالإقرار هنا هو: الإقرار القضائي، وهو ما يَحصل أمام ناظر الدعوى أثناء السَّيْر فيها، متعلقًا بالواقعة المُقر بها، وما عدا ذلك من أنواع الإقرار، تجري عليه أحكام الإثبات الشرعيَّة.
وأوضَحت المادة الخامسة بعد المائة شروط صحة الإقرار، ونصُّها: “يُشترط في صحة الإقرار أن يكون المُقر عاقلاً بالغًا مختارًا، غير محجورٍ عليه، ويُقبل إقرار المحجور عليه للسَّفه في كلِّ ما لا يُعَد محجورًا عليه فيه شرعًا”.
“ومن معاني الإقرار في اللغة: الاعتراف، وفي اصطلاح الفقهاء، الإقرار: هو الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على المُخبر، وهذا تعريف الجمهور، والإقرار من أقوى ما يُحكم به، وهو مقدَّم على البيِّنة، ولهذا يبدأ القاضي بسؤال المدَّعى عليه، فإن أقرَّ بالشيء المدَّعى به، لَم يَحتَجْ إلى طلب البيِّنة، فيبدأ القاضي بالسؤال عنه قبل السؤال عن الشهادة.
على أن حُجيَّته قاصرة على المُقر وحده؛ لقصور ولاية المُقر عن غيره، فيَقتصر عليه، فلا يصحُّ إلزامُ أحدٍ بعقوبة نتيجة إقرار آخرَ بأنه شارَكه في جريمته”؛ الموسوعة الفقهية الكويتية (6 / 46)، بتصرُّف.