دراسة قانونية حول اثر الوقف الاسلامي في التخفيف من عجز الموازنة
تعد مؤسسة الوقف الإسلامي من أهم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التي أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية على مر العصور، فقد قامت الأوقاف بدور بارز التأثير على نظام الملكية ونظام الإنتاج ونظام التوزيع، وبفضل الأوقاف توسعت الخدمات الاجتماعية في مختلف المجالات الاقتصادية، ففي مجال البناء والصيانة تم إنشاء المدارس والمساجد والجامعات، والمساكن لمحدودي الدخل، وتوصيل بعض المرافق للفقراء مجاناً أو بثمن مخفض من ناتج استثمارات الأوقاف، وفي مجال الإنتاج أسهمت الأوقاف الإسلامية في إنشاء المباني والمؤسسات والمصانع لأغراض التنمية بوقف بعض الأراضي والعقارات، وفي المجال المالي أسهمت الأوقاف الإسلامية في إنشاء بعض البنوك.
إعداد وتقديم: د. كوثر الأبجي
الطالب : محمود عبدالمنعم يوسف مصري
مساهمة اقتصادية واجتماعية
ومع تزايد حدة المشكلات الاقتصادية، وتراجع الإيرادات العامة، وتزايد عجز الموازنة، وزيادة الدين العام مع زيادة الفوائد، وهو ما أدى إلى الدخول في حلقة مفرغة من الاستدانة حتى تفاقمت مشكلة عجز الموازنة، مما أدى إلى تضخم العجز الذي يعبر عن الفرق بين الإيرادات العامة والنفقات العامة، حتى إنه قد تجاوز الحدود الآمنة المتعارف عليها دولياً وتبلغ نسبة 3 – 6% من الناتج المحلي الإجمالي طبقاً لاتفاقية «ماستريخت».. كل هذا أدى إلى ضرورة البحث عن جوانب أخرى تقوم على أساس المشاركة بين أفراد المجتمع والحكومة في الوفاء بمتطلبات التنمية من خلال المساهمة في تخفيف حدة عجز الموازنة، وهو ما يتوقع الباحث منه تحقيق مردود إيجابي من خلال مساهمة المجتمع والأفراد والمؤسسات الوقفية في تحقيقه.
وبالنظر إلى حقيقة الوقف الإسلامي فإنه يعني إقامة مؤسسة اقتصادية لها وجود دائم أو مؤقت يمثل استثماراً للمستقبل وبناء للثروة الإنتاجية من أجل الجيل الحالي والأجيال القادمة، فالوقف هو عملية تنموية تتضمن بناء ثروة إنتاجية من خلال استثمار حاضر عن طريق حبس الأموال عن التصرف وإنفاق عائدها على الجهات المتوقع أن تستفيد من هذه الأوقاف بدلاً من إنفاق الدولة على هذه المرافق أو الخدمات التي يمكن أن يمولها الوقف.
كذلك يمكن النظر إلى طبيعة الوقف باعتباره يعتمد على قطاع ثالث بخلاف القطاع الخاص والحكومي بإخراج جزء من الثروة الإنتاجية في المجتمع من دائرة المنفعة الشخصية ومن دائرة القرار الحكومي إلى دائرة النفع العام الذي يخدم كل أفراد المجتمع على حد سواء.
من هنا فإن البحث يهدف إلى الآتي:
1- تسليط الضوء على الوقف الإسلامي لاستخدامه في تخفيف عجز الموازنة العامة للدولة.
2- بيان دور الوقف في التمويل من خلال التجارب المعاصرة لبعض الدول الإسلامية مثل السودان والأردن.
3- بيان الآثار الاقتصادية والاجتماعية لعجز الموازنة العامة للدولة.
4- إيضاح دور الوقف الإسلامي في مصر وإمكانية تطويره ومدى مساهمته في تمويل جانب من عجز الموازنة العامة للدولة.
ويتكون البحث من ثلاثة فصول كما يأتي:
الفصل الأول: السياسات المالية وعجز الموازنة العامة بين المدارس الاقتصادية وتطورها، ويتكون من مبحثين هما:
المبحث الأول: السياسات المالية وعجز الموازنة.
المبحث الثاني: تطور عجز الموازنة العامة في مصر.
وقد خلص هذا الفصل إلى النتائج التالية:
توصل الباحث إلى أن النظريات الاقتصادية في السياسات المالية وعجز الموازنة تدور في فلك واحد من حيث تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي أو عدم تدخلها، فالنظرية الكلاسيكية ترى عدم تدخل الدولة إلا في الوظائف الأساسية وترك الاقتصاد للتوازن التلقائي.
ولكن مع حدوث الأزمات الاقتصادية التي أطاحت بالاقتصاد العالمي، وأبرزها الكساد الكبير، تبين أن تدخل الدولة يحتاج إلى مزيد من النفقات العامة، وإعطاء دفعة للاقتصاد القومي، وقبول عجز الموازنة العامة لفترة معينة على مستوى الدورة الاقتصادية.
وقد انقسم الاقتصاديون حولها بين مؤيد ومعارض، ومن ثم تعاقبت النظريات الاقتصادية التي تناقش كيفية تقليص العجز إلى الحدود الممكنة.
كذلك توصل الباحث إلى أنه لا يوجد فكر محدد ولا مدرسة بعينها تصلح للتطبيق في كل الدول، فلكل منها ظروفها الاقتصادية والاجتماعية المختلفة في ذات الوقت عن الدول الأخرى، ومن هنا يجب البحث عن مصادر تمويلية جديدة بجانب المصادر الأصلية لتمويل عجز الموازنة العامة، وليكن الوقف الإسلامي هو المصدر التمويلي المساعد للأدوات الأصلية باعتباره قد أسهم في قطاع الصحة والتعليم بشكل مؤثر وكبير على مر العصور، والذي إذا أُحسن استغلاله وتنظيمه يقوم بدور أكبر في الحياة الاقتصادية ومن ثم يعمل على تخفيف العبء عن الموازنة العامة للدولة.
الفصل الثاني: الوقف وبعض التجارب الدولية ومدى استفادة الدولة منها، ويتكون من مبحثين:
المبحث الأول: الإطار النظري للوقف.
المبحث الثاني: بعض التجارب الدولية في الوقف وإمكانية استفادة مصر منها (السودان والأردن نموذجًا).
خلاصة الفصل الثاني :
تم تناول بعض التجارب الدولية لبيان كيفية الاستفادة منها، فتناول مفهوم الوقف وحكمة مشروعيته وأنواعه، كما تم تناول خصائص الأصول الوقفية وملكية الوقف وادارته وما يجوز وقفه وما لا يجوز، كما تم تناول الجهات التي يصح الوقف عليها والتي تعد من المقومات الأساسية التي تبنى عليها المجتمعات المعاصرة، مما يؤدي إلى حدوث تأثير مباشر على اقتصادات تلك الدول.
ومن هذا المنطلق تناول البحث تجربة الوقف لكل من دولتي السودان والأردن واللتان تتشابه ظروفهما مع مصر (وهي الدولة محل البحث)، موضحاً الإنجازات المهمة لكل من التجربتين والآثار الاقتصادية للاهتمام بالوقف سواء من خلال الاهتمام به والترويج له إعلامياً وبيان فضله وأثره على الفرد والمجتمع، بالإضافة إلى الإصلاحات التشريعية والقانونية، وكذلك الاهتمام بأساليب إدارة الأوقاف وطرق الاستثمار فيها طبقاً لمعايير الجدوى الاقتصادية وصيانة مبانيه والتي تعد معظمها مزارات سياحية «دينية وأثرية وتاريخية» ومحاولة عمل إصلاحات تشريعية تناسب الوقف، والذي من الممكن أن يكون له دور أكبر في المرحلة الحالية من نقص في التمويل لبعض متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية إذا أحسن إدارته واستثمار أمواله بطريقة إسلامية صحيحة.
الفصل الثالث: دور الوقف في الحد من عجز الموازنة العامة في مصر، ويتكون من مبحثين:
المبحث الأول: الوضع الحالي للأوقاف في مصر .. نظرة اقتصادية.
المبحث الثاني: بعض النماذج الوقفية في مصر وانعكاساتها على الموازنة العامة للدولة.
وكانت خلاصة هذا الفصل كما يلي:
تناول الفصل الثالث دور الوقف في الحد من عجز الموازنة العامة للدولة، وذلك من خلال استعراض الموارد والاستخدامات لوزارة الأوقاف المصرية وأساليب وطرق استثمار أموال الوقف عن طريق هيئة الأوقاف ا
لمصرية، وقد أشار الباحث في هذا الفصل إلى الأهمية الاقتصادية لهذه الهيئة من خلال دراسة تحليلية لإنجازاتها منذ نشأتها حتى سنة 2013.
كذلك تناول هذا الفصل تعريف الوقف النقدي، وبيان الحكم الفقهي له، وأهميته، وصوره، ومجالات الاستثمار فيه، مع بعض النماذج الوقفية في مصر سواء العينية أو النقدية، وانعكاساتها على كافة القطاعات الاقتصادية، ودورها في تخفيف عجز الموازنة العامة للدولة من خلال مساهمته – خاصة الوقف النقدي – في تحمل جزء من نفقات الصحة والتعليم وتنمية بعض المناطق، ودوره في إعادة توزيع الدخل القومي، ومساهمته في تنمية التجارة الداخلية والخارجية، وحماية حدود الدول، كذلك إبراز دور الوقف في التنمية، وفي الحد من تزايد الإنفاق العام، مما يؤدي إلى نتائج ايجابية على أدوات المالية العامة للدولة.
نتائج البحث
وبذلك توصل البحث إلى النتائج العامة التالية:
1- أثبت البحث أن للوقف الإسلامي انعكاسات إيجابية على الموازنة العامة للدولة كالإنفاق على الصحة والتعليم وتنمية المرافق والمناطق الجديدة والمناطق السياحية، وإقامة بعض المشروعات الاستثمارية والتنموية، وذلك من خلال توفير بعض النفقات العامة وقيام الوقف بها بدلاً من الدولة، مما يعمل على تقليص قيمة العجز في الموازنة العامة.
2- أن الأوقاف المصرية لديها القدرة والإمكانات التي تؤهلها لأن تقوم بدور ريادي في تمويل بعض الخدمات العامة في المجتمع إذا توفرت لها الإمكانات والدعم المناسب من خلال استقلاليتها، ومن خلال مساهمة كافة أفراد المجتمع في تمويل عجز الموازنة، وذلك باستخدام الوقف النقدي، عن طريق مساهمته في تمويل بعض الخدمات العامة، مما ينعكس بدوره على عجز الموازنة العامة سواء أكان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، هذا إذا ما أُحسن استثمار الأوقاف بطريقة سليمة وطبقاً لمعايير الجدوى الاقتصادية.
3- لا يوجد منهج واحد لعلاج عجز الموازنة العامة للدولة يمكن الاعتماد عليه منفرداً، بل يجب اعتماد مجموعة من الإجراءات المتعددة لتناسب المواقف المختلفة؛ نظراً لصعوبة وتعقد مشكلة عجز الموازنة العامة للدولة، وبالتالي من الممكن استخدام وسائل تمويل مساعدة كالوقف وغيره من أدوات التمويل الإسلامي والتي لها تأثير إيجابي على الاقتصاد القومي بغرض تخفيف حدة عجز الموازنة.
4- يعد تفعيل وإحياء دور الوقف الإسلامي في مجال الصحة والتعليم – كما كان سابقاً عبر التاريخ الإسلامي – من الممكن أن يسهم في زيادة الوعي وتحسين معدلات العناية الصحية والتعليم، ومن ثم يؤدي إلى تخفيف عجز الموازنة العامة للدولة في ذات الوقت.
5- لا يعني زيادة مساهمة الوقف بالدولة وجود قدرات مالية إضافية، لكن يكفي في ذلك تكاتف أفراد المجتمع لإحياء هذه السُّنة، مما يؤدي إلى زيادة ونماء الأوقاف الإسلامية في المجتمع.
6- يعاني الوقف في مصر من مشكلات عديدة تحد من دوره في تقديم السلع والخدمات العامة، مما يؤثر سلباً على دوره في علاج عجز الموازنة العامة، بالإضافة إلى ضعف الوعي المجتمعي لدور الوقف، مما يؤدي إلى وجود نظرة محدودة من كثير من أفراد المجتمع للأوقاف باعتبارها تعتني بالمساجد فقط، بالإضافة إلى وجود بعض المعوقات التي يمكن تلافيها لنهضة الأوقاف في مصر مثل عدم إعطاء استقلالية للأوقاف، كذلك يجب النظر في عودة الأوقاف الأهلية؛ والتي من الممكن أن يكون لها إسهاماتها في زيادة الأصول الوقفية في مختلف المجالات الاستثمارية، بالإضافة إلى تفعيل الوقف النقدي في المجتمع والاستفادة بالآراء المختلفة للفقهاء، وبما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع.
التوصيات
من خلال نتائج الدراسة يوصي الباحث بما يلي:
1- تفعيل برامج التمويل الإسلامي، ومنها الوقف، للمساهمة في علاج بعض المشكلات الاقتصادية؛ ومنها تخفيف عجز الموازنة العامة للدولة.
2- ضرورة توحيد الجهود للارتقاء بقطاع الأوقاف في مصر وتسهيل إجراءات إنشاء الأوقاف الجديدة، وضرورة مساهمة الدولة، وإعطاء الأوقاف بعض الصلاحيات.
3- يجب منح الأوقاف الاستقلالية الكاملة من خلال الإصلاحات القانونية والتشريعية وإحكام الرقابة على الوقف، وتجريم الاعتداء على الممتلكات الوقفية، وتوجيه مزيد من الاستثمارات الوقفية سواء للأوقاف الجديدة أو القائمة، والمساهمة في علاج بعض المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها معظم الدول الإسلامية، ومن بينها عجز الموازنة العامة.
4- ضرورة تخصيص الدولة نسبة من الأراضي للأوقاف لكي تعمل بحرية وبدون قيود للمساهمة في تمويل التنمية خاصة في التنمية البشرية من خلال الإنفاق على الصحة والتعليم، ومحاولة إيجاد حل لعودة الأوقاف الأهلية أو الخاصة بدلاً من ظهور «الوقف الخفي» الذي يعمل بعيداً عن أعين الدولة.
5- على الدولة نشر ثقافة الوقف والترويج الإعلامي للمشروعات الوقفية، لحث أفراد المجتمع على المساهمة في إنجاح تجربة الوقف، وتعديل مصارف الأوقاف طبقاً لشروط الواقفين ومنع تحويل هذه المصارف بأي حال من الأحوال، ومحاولة الاستفادة من مذهب الإمام مالك في وقف النقود، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى مساهمة كافة أفراد المجتمع، وهذا لا يتأتى إلا من خلال إرادة سياسية حقيقية لتنمية هذا القطاع.
6- ضرورة حصر جميع الأملاك الوقفية وعمل نماذج إرشادية لحجج الأوقاف للاستفادة منها بطريقة مثلى تضمن عدم الاستيلاء عليها، وذلك بعمل قاعدة بيانات لها لسهولة اتخاذ القرارات بشأنها وحمايتها وسهولة الرقابة عليها، وتشغيل الأوقاف المتعطلة والموقوفة، بحيث يكون العائد على هذا الاستثمار في صالح كل أفراد المجتمع خاصة الموقوفة لصالحهم.