دراسة حول عوامل الظاهرة الاجرامية

دراسة حول عوامل الظاهرة الاجرامية

– تمهيد وتقسيم :
إذا كنا قد فرغنا للتو من التأكيد على استبعاد التفسير الأحادي للجريمة ، مفضلين أن نتبع في تحليل الظاهرة الإجرامية منهجاً تكاملياً ، يعتمد على تعدد أو تكامل عوامل تلك الأخيرة Constellation des facteurs ، وتوزعها بين عوامل فردية داخلية وأخرى اجتماعية خارجية ، فإنه من المؤكد أن العوامل على تنوعها – وكما سبق القول – لا تتساوى فيما بينها في الدفع نحو الجريمة. مما يستوجب منا أن نطرح على بساط البحث بشكل تحليلي العوامل الإجرامية Facteurs criminogènes من أجل الكشف عن القوة النسبية لبعض العوامل في تخليق الظاهرة الإجرامية ، في محاولة لتوقع مسار الجريمة في المستقبل أو العودة لها ، وتعين وسائل المكافحة الفعالة لها.

على أنه يجب الإقرار مسبقاً بعدم وجود حتمية Déterminisme لوقوع الجريمة على أثر توافر عامل أو مجموعة عوامل معينة ، كل ما هنالك أن بعض العوامل قد يكون لازماً وضرورياً من أجل إحداث تفاعل لكتلة ظروف يترتب عليها في النهاية حدوث الجريمة. وهذا الإقرار ينبع من أن بعض عوامل الجريمة قد لا تكون ذات صبغة إجرامية في ذاتها ، بل قد تكون مشروعة في ذاتها. فالسن والجنس والعنصر والظروف الجغرافية رغم أنها تدرس ضمن عوامل الجريمة إلا أنها بذاتها ليست مولدة للإجرام Criminogène بل هي عوامل محايدة ، وكل ما هنالك أن دراسة عوامل الجريمة إنما هي دراسة للارتباطات Corrélation بين متغيرات Facteurs عديدة لا يكون لبعضها قوة ذاتية في إيقاع الجريمة .

ومن هنا فليس للجريمة عامل بذاته ، كما أن عوامل الظاهرة الإجرامية لا تعبر عن أسباب تلك الظاهرة أو أسباب السلوك الإجرامي. ففكرة السببية Causalité المعروفة في العلوم الطبيعية لا تسري بذاتها في مجال علم الإجرام. ففي العلوم المنضبطة يعني السبب الظرف الذي بتوافره تحدث نتيجة معينة وبتخلفه تتخلف تلك النتيجة. وفي حالات معينة قد يكون السبب كافياً Cause suffisante لحدوث النتيجة ، وفي أخرى قد يكون ضرورياً Cause nécessaire لحدوثها ، وفي حالات مغايرة قد يكون ضرورياً وكافياً. أما في الدراسات الإجرامية فلا يمكن أن يوجد سبب ضروري وكاف لوقوع الجريمة ، بل يمكن فقط أن يوجد سبب ضروري لوقوع الجريمة إذا ما تفاعلت مع عوامل أخرى .

وعلى ذلك يحل – في مجال علم الإجرام – محل السببية العلمية سببية أخرى اجتماعية تعبر عن احتمالية وقوع الجريمة على أثر توافر ظرف معين. وهكذا يمكن أن يعرف العامل الإجرامي بأنه حالة (أي كل ما يتميز بالثبات كالسن والضعف العقلي…الخ) أو واقعة (كل ما يتسم بالحركة كفقد الأبوين أو الزوج) ذات صلة سببية بالظاهرة الإجرامية ، أو أنه كل عنصر موضوعي أو متغير ذو ارتباط كمي أو كيفي بتلك الظاهرة .

ولما كانت الظاهرة الإجرامية – وفق التقسيم الأكثر شيوعاً في الفقه للعوامل الإجرامية – نتاج اجتماع عوامل فردية (ترجع إلى التكوين البدني والعقلي والنفسي للمجرم) وأخرى خارجية (ترتبط بالوسط البيئي الذي يعيش فيه الفرد) ، فإننا سوف نتناول هذين النوعين على الترتيب كل في فصل على حدة.

الفصل الأول
العوامل الفردية للظاهرة الإجرامية

109- تقسيم :
تتنوع في الحقيقة العوامل الفردية للسلوك الإجرامي ، ويمكننا أن نذكر من بينها التكوين الطبيعي للمجرم ، الوراثة الإجرامية ، المراحل العمرية ، السلالة أو العرق ، الجنس أو النوع ، الأمراض ، إدمان الخمور والمخدرات. ولكل عامل من تلك العوامل سوف نخصص مبحثاً مستقلاً.

المبحث الأول
التكوين الطبيعي للمجرم

110- تمهيد وتقسيم :
يقصد بالتكوين الطبيعي للمجرم الخصائص والصفات الخلقية التي تصاحب الشخص منذ ولادته ، سواء ما يتعلق بتكوينه العضوي أو العقلي أو النفسي.

ولقد سبق وأن أبرزنا دور العلامة الإيطالي لومبروزو في تنبيه الأذهان إلى علاقة التكوين العضوي للفرد بالسلوك الإجرامي ، معلناً وجود ما أسماه المجرم بالتكوين أو المجرم بالميلاد. وأشار إلى أن المجرمين لهم صفات بيولوجية جسدية ونفسية تميزهم عن الأشخاص العاديين ، وأن توافر هذه الصفات في شخص معين لابد وأن تقوده حتماً إلى الجريمة.

وقد أشرنا من قبل إلى أن نظرية المجرم بالفطرة أو بالميلاد التي قال بها لومبروزو قد انتقدت ، ويكفي الإشارة هنا إلى أن الجريمة كما سبق أن ذكرنا مخلوق قانوني اصطنعه المشرع ، بحيث لا يتصور القول بأن توافر صفات بيولوجية معينة في الشخص هي التي تدفعه إلى ارتكاب السلوك الإجرامي ، ذلك أن تلك الصفات كانت موجودة فيه قبل إصباغ وصف الجريمة على فعله المرتكب .

ومن بعد جاء العالم الأمريكي هوتون Hooton – في مؤلفه “الجريمة والإنسان Crime and the Man” الصادر عام 1939 والذي أعاد طباعته باسم “المجرم الأمريكي The American Criminel” – منتهياً في أبحاثه إلى أنه لا توجد صفات عضوية معينة كتلك التي ذكرها لومبروزو تميز المجرمين عن غير المجرمين. وكل ما ثبتت ملاحظته أن المجرم عادة ما يكون أقل وزنا في المعتاد من الشخص العادي وأقل في القامة ، خاصةً بالنسبة لطائفة اللصوص التي تبتعد كثيراً عن الشخص العادي إذا ما قورنوا بمرتكبي جرائم النصب. وإلى هذا سبق وانتهى العالم الإنجليزي تشارلز جورنج Goring.

ولقد توصل العالمان الأمريكيان وليام شلدون جلوك Sheldon Glueck وزوجته إليانور جلوك Eleanor Glueck – أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة هارفارد وزميلا هوتون – إلى نتائج مغايرة من خلال دراستهم التي شملت نحو خمسمائة من كبار المجرمين ومقارنتهم بمجموعة ضابطة من الأشخاص العاديين. فقد أشارت الدراسة إلى أن 60% من المجرمين المعتادين يتميزون بقوة البدن مقابل 31% من الأشخاص غير المجرمين ، وأن 14% من المجرمين مقابل 31% من غير المجرمين يتميزون بالضعف ، الأمر الذي يقطع بأن الخصائص البدنية وحدها لا يمكن أن تكون الفيصل الذي يميز المجرمين عن غير المجرمين .

وهكذا لم يثبت وجود علاقة بين التكوين العضوي والسلوك الإجرامي ، بل على فرض وجود تلك العلاقة فمن الخطأ اعتبارها سبباً مباشراً للجريمة. فالجريمة لا تعبر عن صفات تشريحية أوعيوب عضوية بقدر ما تعبر عن شخصية إجرامية في نواحيها العقلية أو النفسية.
وفي ضوء ذلك فإننا سوف نكتفي بما سبق في شأن العلاقة بين التكوين الطبيعي العضوي ، قاصرين دراسة التكوين الطبيعي لشخص المجرم على بعض العوامل التي قيل بصلتها بالسلوك الإجرامي ، وهي على الترتيب ، الخلل في وظائف الأعضاء ، والشذوذ الغريزي ، ومستوى الذكاء.

المطلب الأول
الخـلل فـي وظـائـف الأعـضـاء

ربط بعض علماء الإجرام – وعلى رأسهم كما أشرنا من قبل بندا ودي توليو وماكس شلاب ولويس برمان – بين الخلل في وظائف أجهزة الجسم الداخلية ، كالجهاز العصبي والجهاز التناسلي والجهاز الدوري ، وبين السلوك الإجرامي. ولعل أهم ما أشير إليه في هذا الصدد هو الربط من ناحية بين خلل الجهاز الغددي وبين السلوك الإجرامي ، ومن ناحية أخرى بين الأمراض التي تصيب الجسم وأجهزته وبين هذا الأخير.

111- أولاً : خلل الجهاز الغددي :
الغدد ، وفق ما يقرره علماء الطب ، نوعين : غدد قنوية وغدد صماء Ductless glands. وتشتمل الغدد القنوية على قنوات تنقل عن طريقها افرازات معينة ، إما إلى داخل الجسم كالغدد اللعابية أو الكبد والبنكرياس ، وإما إلى خارجه كالغدد العرقية والدمعية والدهنية.

أما الغدد الصماء فلا تشتمل على قنوات خارجية ، بل تقوم بتحويل المواد الغذائية التي ينقلها إليها الدم إلى هرمونات كي تعيد نقلها مرة ثانية إلى الدم الذي يوزعها بدوره على الجسم. والغدد الصماء تضم : الغدة الدرقية Thyriod الموجودة في مقدمة الجزء الأسفل من الرقبة على جانبي القصبة الهوائية ، والغدة المجاورة لها Parathyroid ، والغدة النخامية Pituitary الموجودة في مؤخرة الرأس ، والغدة الصنوبرية Pineal التي توجد في وسط المخ في أعلى اتجاه العمود الفقري ، والغدة الكظرية Surrenal أو الادرينالية Adrenals ، والغدد الجنسية Sex glands.

وقد خلص علماء الإجرام إلى أن افرازات الغدد الصماء له أثر كبير على السلوك الإجرامي. ذلك أن افرازات هذه الغدد تؤثر تأثيرا مباشراً على الكفاءة الوظيفية لأجهزة الجسم المختلفة ، التي تؤثر بالسلب على التكوين العضوي والنفسي للفرد ، مما يجعله سهل الاستجابة للمؤثرات الخارجية ، ومن ثم يسهل ترديه في سبيل الجريمة.

وعلى سبيل المثال فإن ازدياد افرازات الغدد الدرقية يؤدي إلى الاندفاع الشديد والقلق والشعور بعدم الاستقرار والتوتر العصبي مما يدفع الشخص إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص ، في حين أن قلة إفرازها يؤدي إلى الخمول الذهني وإلى نوع من البلادة الذهنية عند الأطفال في بعض الأحيان وإلى فقدان الذاكرة في الحالات المرضية الشديدة.

كما تبين أن النقص في افرازات الغدد النخامية يؤدي إلى شعور أصحابها بالجبن والانعزالية والانطواء. كما قد يؤدي ذلك إلى اضطرار بعض الفتيات إلى الانحراف الخلقي عندما يبحثن عن الصلة بالجنس الأخر كنوع من التعويض العاطفي بسبب إحساسهن الدفين بالنقص.

كما تبين أيضا أن زيادة إفراز الغدة فوق الكلية لمادة الأدرينالين يؤدي إلى تمتع الشخص بقدرة عالية على التركيز والاستجابة ، بعكس ما لو نقص هذا الإفراز.

ويعتقد البعض من أطباء النفس وعلماء السيكولوجية الهرمونية Psychoendocrinology أن ضمور الغدة الصنبورية في بداية مرحلة المراهقة يمنع من النضج الجنسي الطبيعي ، وأن ورم الغدة الصنبورية قد يؤدي إلى النضج الجنسي قبل الأوان ، الأمر الذي يؤثر في الحالتين على الناحية النفسية للفرد.

والواقع أنه لا يجب التسرع في الربط بين الخلل في وظائف الغدد وبين السلوك الإجرامي ، ذلك أن كثير من الغدد يفرز أكثر من هرمون والهرمونات المفرزة من كل غدة تتأثر بدورها بما تفرزه الغدد الأخرى ، والجهاز العصبي بدوره يؤثر في هذه الافرازات ويتأثر بها. فضلاً عن أن غموضاً ما زال يكتنف علم وظائف الغدد ومدى تأثير افرازات هذه الغدد على نمو الإنسان ونضجه وحالته العضوية والنفسية والعقلية.

112- ثانياً : الأمراض العضوية :
يقصد بالمرض العضوي الخلل الذي يصيب أحد أجهزة الجسم. ولقد كشفت الدراسات عن أن هناك من الأمراض العضوية ما يرتبط بالسلوك الإجرامي ، ومنها على الأخص : الزهري ، السل ، الحميات ، إصابات الرأس والتهابات أغشية المخ .

فلقد ثبت أن ميكروب مرض الزهري Syphilis يحدث لدى المصاب به اضطراباً في الجهاز العصبي مما يجعله عرضة للإصابة بأحد الأمراض العقلية كالشلل الجنوني العام والصرع ، أو عرضة للتقلبات المزاجية وعدم اتساق الأفكار. كما ينتج عن هذا المرض آثاراً نفسية تضعف لدى المصاب به السيطرة على رغباته وكبح جماح نفسه ، فيسهل انقياده لسبيل الجريمة.

كما أكد البعض وجود صلة بين مرض السل Tuberculose والسلوك الإجرامي. والقول بذلك إنما مرجعه ما يسببه المرض من ضعف في قدرة الشخص على التحكم والسيطرة على غرائزه وميوله وشدة حساسيته وسرعة استجابته للمؤثرات الخارجية. ويحدث مرض السل بصفة خاصة خللاً في الغريزة الجنسية ، مما يدفع المريض به إلى ارتكاب جرائم هتك العرض والاغتصاب.

ولقد دلل دي توليو على أنه يوجد من بين كل ألف سجين ما لا يقل عن 203 منهم مصاب بمرض السل. كما أثبت العالم البلجيكي فيرفاك Vervaeck أن 10% من بين 1613 سجين بلجيكي ينتمون إلى اسر مصابة بالسل ، وانتقل المرض بين أبنائها عن طريق الوراثة لإصابة أحد الأبوين به.

كما أن الإصابة ببعض الحميات يمكن أن يتسبب في إحداث بعض الاضطرابات في الإدراك والإرادة ، كاضطراب الذاكرة وشرود الذهن التفكير والهذيان. ومن بين الحميات التي يمكن أن تحدث خللاً في الجانب الإرادي للشخص الملاريا والتيفود والحمى الشوكية أو الحمى المخية. ولعل هذا النوع الأخير هو الأخطر من بينها ، إذ تنال من صفات الشخصية فتغير في طباعها وانفعالاتها وتنال من القدرة على التحكم في الغرائز والميول. وهكذا يمكن أن يقدم المصاب بها على ارتكاب أشد أنواع الجرائم خطورة كالقتل والعاهات المستديمة والسرقة بالإكراه والجرائم الجنسية.

وتأتي إصابات الرأس والتهابات في أغشية المخ كأحد العوامل التي قد تقف وراء الظاهرة الإجرامية لما تحدثه هذه الإصابات والالتهابات من اختلالات نفسية وتغيرات حادة في الشخصية. وعادة ما تكون هذه الإصابات مرتبطة بخلل أو مرض أصاب الأم في فترة الحمل. ولعل هذا يقف وراء اختلاف السلوك الإجرامي للتوائم المتماثلة رغم وحدة الظروف البيئية ، على ما سنرى فيما بعد.

وبصفة عامة يجب التحرز من اطلاق القول بالصلة الحتمية بين السلوك الإجرامي وبين المرض العضوي ، ذلك أن تلك الصلة ما زالت محل شك نظراً لأن ما أجرى من بحوث في هذا الصدد كان قد تم على نزلاء السجون بما لا يقطع ما إذا كان المرض سابقاً على دخول المؤسسة العقابية أم لاحقاً عليها.

المطلب الثاني
الــشــذوذ الــغــريــزي

113- تمهيد :
الغرائز هي مجموعة من الميول الفطرية غير الواعية الكامنة في النفس البشرية ، والتي توجه السلوك الإنساني وجهة معينة.

ويمكن تقسيم الغرائز إلى نوعين رئيسيين هما غريزة حفظ أو حب الذات Instinct de conservation والغريزة الجنسية أو غريزة حفظ النوعInstinct de reproduction. ويتفرع عن هذين النوعين غرائز فرعية بعضها نفسي وبعضها بيولوجي أو حيوي. فيتفرع عن غريزة حب الذات غريزة الاقتناء ، وغريزة طلب التغذية ، وغريزة الفضول ، وغريزة حب السيطرة أو تأكيد الذات ، وغريزة الهرب ، وغريزة الاقتتال والدفاع ، وغريزة الخضوع. ويتفرع عن الغريزة الجنسية غريزة التناسل وغريزة الأبوة أو الأمومة.

ويذكر أن هناك صلة بين الاضطرابات الغريزية والسلوك الإجرامي ، ذلك أن أي اضطرابات تصيب الغرائز تؤثر بالضرورة على السلوك الإنساني بحسبانها تمثل الدافع أو المحرك لهذا الأخير. فالغرائز هي المعبر الحقيقي عن أغوار النفس الإنسانية ، وهي التي تقف دائما وراء الأفعال أيا كانت صورتها ، ومنها الأفعال الإجرامية .

وللشذوذ الغريزي صور ثلاث : فقد يتمثل في ازدياد قوتها عن الحد الطبيعي ، وإما أن يتمثل في ضعفها عن هذا الحد ، وإما أن يتمثل في انحرافها عن اتجاهها الطبيعي.

وسوف نبين فيما يلي أوجه الشذوذ أو الاضطراب الذي يصيب النوعين الرئيسيين من الغرائز ، قبل أن نعرض لصلة الشذوذ الغريزي بالسلوك الإجرامي.

114- أولا : الشذوذ في غريزة حب الذات :
يؤدي الاضطراب في غريزة حب الذات إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأموال. فسبق القول أن غريزة الاقتناء أو التملك Instinct de propriété من الغرائز التي تتفرع عن غريزة حب الذات. فانحراف هذه الغريزة قد يدفع الشخص إلى سرقة أشياء تافه – وخاصة من المحلات التجارية – رغم قدرته على إشباعها بطريق مشروع ، وهو ما يعبر عنه بجنون السرقة أو الكليبتومانيا Kleptomanie. وقد يتمثل انحرافها في البخل الشديد الذي يدفع صاحبه لارتكاب جريمة التسول رغبة في جمع الأموال.

وقد يتخذ انحراف غريزة الاقتناء صورة الإسراف على النفس فيما يسمى بجنون الشراء أو الأونيومانياOwniomanie ، أي شراء الشخص أشياء ليس حاجة لها ، أو صورة الإسراف على الغير فيما يسمى بجنون الإهداء أو الدونرمانياDonormanie ، أي تقديم الهدايا أيا كانت قيمتها بدون مناسبة تستدعي ذلك. ورغبة في الحصول على المال لتحقيق كلا الأمرين قد يندفع الشخص في تيار جرائم السرقة أو النصب أو الرشوة أو الاختلاس…الخ.

والطمع Cupidité احدى أنماط شذوذ غريزة حب الذات ، فهذا الخلل يدفع صاحبه لمحاولة الاستئثار بأموال الغير ، وفي سبيل ذلك قد يرتكب جرائم عديدة ، أو يعتاد المقامرة وهي تكون أيضاً جريمة في بعض التشريعات.

ومن الغرائز التي تتفرع عن غريزة حب الذات غريزة التغذية وانفعالها الجوع. فشذوذ هذه الغريزة قد يتخذ صورة نهم أو شره تدفع بصاحبها – وخاصة لدي مرضي العقول – إلى سرقة بعض المأكولات أو المشروبات أو بعض النقود لإشباع هذه الرغبة ، وغالبا ما يتمثل هذا الشذوذ في الميل نحو تناول مواد غريبة بديلاً للطعام كالطين أو الزجاج أو الفضلات. وقد يتخذ انحرافها صورة الإفراط في تناول المخدرات أو الخمور.

ومما يتفرع عن غريزة حب الذات غريزة الاقتتال والدفاع ، وقد يدفع شذوذ هذه الأخيرة إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص من ضرب أو جرح أو قتل. وقد يصاب من يتوافر فيه هذا الخلل بما يسمى جنون الحريق Pyromanie ، أي حرق كل شئ يتخيل له أنه يمثل خطراً يهدد كيانه.

وقد ينحرف لدى الشخص شعوره الذاتي تجاه شخصه Sentiment de personnalité. فإذا ما اتخذ هذا الانحراف صورة مفرطة للاعتزاز بالنفس فقد يصاب الشخص بأمراض نفسية كجنون العظمة Paranoia وجنون الكذب Mythomanie ، ويظهر ذلك جلياً في مرتكبي جرائم النصب. وإذا ما تخلف هذا الشعور الذاتي فحتما ينقلب الشخص إلى صور إنسانية متشككة وانطوائية مما قد يدفعه أحياناً للانتحار أو الاعتداء على من يشك فيه (كعدوان بعض الأزواج على زوجاتهم شكاً في سلوكياتهم على نحو خاطئ).

115- ثانيا : الشذوذ في غريزة حفظ النوع :
لعل الشذوذ الغريزي المتصل بغريزة حفظ النوع أو الغريزة الجنسية من أكثر أنواع الشذوذ صلة وثيقة بالسلوك الإجرامي. ويتخذ الشذوذ في هذه الغريزة صوراً ثلاث : ولع أو هياج جنسي ، انحراف جنسي ، ضعف جنسي.
فإذا ما اتخذ شذوذ الغريزة الجنسية صورة الزيادة المفرطة فيما يسمى بالهياج أو الولع الجنسي Erotomanie ، أي سرعة الاستثارة فقد يندفع صاحبه رجلاً كان أم امرأة إلى ارتكاب جرائم الاغتصاب وهتك العرض والأفعال المخلة بالحياء.

أما إذا ما اتخذ الشذوذ في الغريزة الجنسية صورة الانحراف الجنسي” Déviation sexuelle فقد يندفع الشخص إلى ارتكاب جرائم العرض أو قتل العشيق أو التعذيب أو الاغتصاب. وقد يؤدي هذا الانحراف إلى إتباع أساليب شاذة حال التعبير عن الرغبة الجنسية. ومن أهم صور هذا الانحراف المرض المعروف باسم السادية Sadisme أو التعذيب الجنسي ، أي رغبة الشخص في إلحاق الأذى بالطرف الأخر وإيلامه ، بحسبان أن هذا الإيذاء أو الإيلام هو المثير الوحيد لغريزته الجنسية. وقد يكون هذا الإيلام سابقاً أو معاصراً أو لاحقاً على الاتصال الجنسي. بل قد يكون أحياناً بديلا عن هذا الاتصال في الحالات التي يشبع فيها الشخص غريزته الجنسية عن طريق إزهاق روح الغير أو تعذيبه دون إتيان أي اتصال جنسي حقيقي.

وتمثل الماسوكية Masochisme ، أي استعذاب القسوة والألم حال الممارسة الجنسية ، أحد صور انحراف الغريزة الجنسية. فالشخص المصاب بها يسعى إلى الحصول على شعور بالارتياح عن طريق تحمل العذاب الناجم عن أفعال تنطوي على المساس بسلامة جسمه ينزلها به شخص معين. فهذا الألم هو السبيل الوحيد للحصول على الإشباع الجنسي.

وقد تؤدي الاضطرابات في الغريزة الجنسية إلى انحراف الميل الجنسي عن اتجاهه الطبيعي ، ومن أمثلة ذلك المثلية الجنسية Homosexualité ، أي الميل لممارسة اللواط بين الرجال أو المساحقة بين النساء ، والميل الجنسي نحو الأقارب والمحرمات Inceste ، والميل الجنسي نحو الحيوان ou Zoophilie Bestialité ، والميل الجنسي نحو الأطفال Pédophilie ، أو الميل لمواقعة جثث الموتى Nécrophilie. ومن صور هذا الانحراف أيضاً الميل الجنسي نحو الرمز Transvestisme ، أي الميل للارتداء الملابس الداخلية للجنس الأخر أو وضع خصلات الشعر أو استعمال أدوات الماكياج ، سواء قبل أو أثناء الاتصال الجنسي. وقد يأخذ الانحراف صورة الجنسية المضادة Transsexualité ، أي التعارض بين الفرد وجنسه كما يدركه عقلياً وبين شعوره الجنسي الحقيقي. فهو مثلاً يعلم أنه ذكر ولكنه يشعر بأنه أنثى.

ويفسر لنا فقدان الغريزة الجنسية أو فتورها أو عدم كفايتها إتيان بعض الأفعال الجنسية كالعرض الجنسي Striptease (Exhibitionnisme) أو التلصص الجنسي Voyeurisme.

كذلك فإن الشذوذ في غريزة الأمومة أو الأبوة المتفرعة عن الغريزة الجنسية قد يفسر لنا استعمال القسوة وسوء المعاملة مع الأطفال بحجة تأديبهم. وقد يفسر لنا انحراف غريزة الأبوة على وجه الخصوص ارتكاب الآباء لجريمة قطع النفقة أو الهجر العائلي Abandon de famille ، أو ما يصدر منهم من إنكار نسب أو الإهمال في الواجبات الأسرية.

116- ثالثاً : الصلة بين الشذوذ الغريزي والسلوك الإجرامي :
في الواقع أن ما تقدم لا يقطع بوجود علاقة حتمية بين الشذوذ الغريزي والسلوك الإجرامي ، فهذه العلاقة تقوم فقط عندما يكون اضطراب الغريزة أو شذوذها هو الدافع إلى سلوك طريق الجريمة. فالميل ناحية فعل معين لا يعني حتمية وقوعه La tendance à l’action n’implique pas la fatalité de l’action. فالصلة إذا بين الأمرين صلة احتمالية بحيث لا يمكن تفسير الظاهرة الإجرامية على مجرد التكوين الغريزي للفرد ، فالأمر يتوقف على مشاركة عوامل أخرى بعض منها فردي وبعض منها اجتماعي.

فقد يتوافر لدى شخص ما اضطراب أو شذوذ غريزي دون أن يؤدي ذلك إلى ارتكاب الجريمة ، ويتحقق ذلك عندما يتوافر لدى الشخص غريزة أخرى سامية يستطيع هذا الشخص من خلالها السيطرة على سلوكه وكبح جماح غريزته الشاذة أو المنحرفة.

ومن ناحية أخرى قد لا يكون الشخص مصاباً باضطراب أو شذوذ غريزي ومع ذلك نراه يرتكب السلوك الإجرامي بفعل عوامل أخرى فردية أو اجتماعية. ومن قبيل ذلك من يرتكب جريمة من جرائم العرض أو يأتي أفعال جنسية شاذة تحت تأثير الخمر أو لضعف عقلي أو خلل في الشعور. وهذا بالفعل ما أثبتته دراسة في أجريت في السويد على مرتكبي الاتصال الجنسي بالمحارم ، إذ تبين أن عدد كبير منهم يعاني ضعفاً عقلياً وأكثرهم ينتمي إلى الطبقات الدنيا في الأحياء المكدسة سكانياً التي تعاني “الأسودين” الجهل والفقر.
وأخيراً فقد تصدر عن الشخص تصرفات جنسية شاذة دون أن يعبر ذلك عن انحراف حقيقي للغريزة الجنسية. فالميل نحو ذات الجنس – وإن بدا شذوذا غريزياً – قد يكون مجرد بديل عن إشباع الغريزة الجنسية بالشكل الطبيعي إذا لم تكن هناك وسيلة مشروعة لإشباعها ، الأمر الذي يحدث في الأماكن التي يجتمع فيها حشد كبير من نفس الجنس ، كالمدارس الداخلية والسجون والثكنات العسكرية. لذا فسرعان ما تختفي هذه التصرفات الجنسية الشاذة بزوال الدافع إليها. كما أن الميل نحو الأطفال الذي يظهر بالنسبة للمراهقين في فترات البلوغ قد لا يعبر عن شذوذ غريزي بقدر ما يعبر عن مجرد حب استطلاع لكوامن غريزة نضجت مبكراً.

المطلب الثالث
مــســتــوى الــذكــاء

117- أولاً : المقصود بالذكاء وطرق قياسه :
يرتبط الذكاء L’intelligence بمجموعة من الإمكانيات والقدرات المستقبلة Réceptrices التي تمكن الشخص من انتهاج سلوك معين يتفق ويتلاءم مع ظروف بيئته وما يصادفه من مواقف. وقد عرفه Wechsler بأنه القدرة الإجمالية والمعقدة للشخص على التصرف لتحقيق غاية معينة والتفكير بطريقة عقلانية وإقامة صلات مفيدة مع الوسط الذي يعيش فيه . ومن بين الإمكانيات أو القدرات التي تكون الذكاء الإدراك الحسي أو الوعي ، وما يشمله من ملكة الانتباه وسرعة التذكر وتداعي الأفكار ، والتصور والتخيل ، وطريقة التفكير ، والقدرة على التحليل والتأصيل.
ولا شك أن الناس يختلفون فيما بينهم في قدر ما يتمتعون به من ذكاء. فمنهم العباقرة النابغون ، وهم يمثلون الفئة الضئيلة من المجتمع ، ومنهم متوسطي الذكاء وهم الكثرة الغالبة ، ومنهم ضعاف العقول أو قليلو الذكاء وهم الذين يعانون عجزاً أو نقصاً في قدراتهم العقلية يعوقهم عن انتهاج سلوك السبيل الذي يعينهم على التكيف والتلاؤم مع البيئة الخارجية ، وهم كالفئة الأولى عددهم قليل بين الناس.

ويمكن التمييز بين عدة أنواع من الذكاء. فهناك الذكاء العملي والذكاء الفكري والذكاء الفني. ومن هنا يتنوع الأفراد في مهنهم فنجد منهم المفكرون والفنانون ، الذين يتميزون بتفوق في قدرات الذكاء الفكري والفني ، كالتفكير وملكة التذكر والتخيل والتصور ، ونجد منهم الحرفيون أو المهنيون الذين يمكنهم استخدام ذكائهم العملي في الأنشطة المادية بدرجة عالية من المرونة تناسب حاجات المجتمع.

ويختلف الأفراد من حيث نطاق الذكاء ، فنجد من الناس من يتميز بذكاء عام يشمل كافة الإمكانيات والقدرات العقلية ، ونجد منهم من يكون الذكاء لديه خاصاً ، أي يتعلق بكفاءة أو قدرة خاصة ، كالقدرة على الإبداع.

ولقد أمكن للباحثون قياس معدل الذكاء Quotient intellectuel لدى الأفراد عن طريق ما يعرف باختبارات الذكاء أو الاختبارات العقلية Mental Tests ، وأهمها ما يعتمد على المقابلة بين العمر العقلي والعمر الزمني. ويعبر العمر العقلي عن الملكات الذهنية للفرد كما هي موجودة بالفعل بصرف النظر عن العمر الحقيقي له. ويتم قياس العمر العقلي من خلال مجموعة من الأسئلة ، يتم ترجمة معدل الإجابات الصحيحة وسرعة الإجابة عليها إلى درجات ، يساعد مجموعها على تحديد معدل ذكاء الفرد بغض النظر عن عمره الزمني ، أو المقارنة بين معدل ذكاء شخص وآخر أو بين مجموعة من الأفراد وأخرى.
وقد استخدم العالم الألماني ولهلم شتيرن Stern Wilhelm هذه الطريقة في صياغة قانونه حول قياس معدل الذكاء.

فلديه أن معدل الذكاء = (العمر العقلي ÷ العمر الزمني ) × 100

ويتحدد العمر العقلي للفرد عن طريق وضع عدة اختبارات تناسب أعماراً مختلفة تقارب السن الذي بلغه الفرد وقت الاختبار ، ويمكن تحديد مستوى ذكائه عن طريق المقارنة بين عمره العقلي وعمره الزمني. فإذا قدم لشخص عمره عشرون سنة عدة اختبارات أعدت لسن 15 سنة و 20 سنة و 30 سنة ، أمكن قياس معدل ذكائه كما يلي : إذا اجتاز الاختبار المعد لسن 15 سنة وأخفق في الأعمار اللاحقة ، فمعنى ذلك أن معدل ذكائه 75% أما إذا اجتاز الاختبار الثاني أي المعد لمن هم في مثل سنه ، فإن معدل ذكائه يكون 100% ، أي أن عمره العقلي يكون مساوياً لعمره الزمني. أما إذا اجتاز الاختبار المعد لسن 30 سنة فإن معدل ذكائه يكون 150%.

ويحدد علماء النفس الذكاء المتوسط بما يتراوح بين 90% و100% والذكاء الخارق بما يزيد عن 120 % والذكاء الأقل من العادي بما يقل عن 80% وهو ذكاء ضعاف العقول.

ويتدرج ذكاء ضعاف العقول بدوره إلى ثلاثة درجات : ذكاء المعتوهين ، ويتراوح بين صفر% و25% وهي نفس النسبة التي يكون عليها ذكاء الأطفال في الثانية أو الثالثة من عمرهم ، وتنعدم مسئولية هؤلاء الجنائية ، فهم غير قادرين على القيام بأعبائهم الشخصية ووقاية أنفسهم وتكون لغتهم غير مفهومة. وهناك ذكاء البلهاء ، وهو الذي يعادل ذكاء الأحداث في سن السادسة ويتراوح بين 25% و50% ، وتخفف بعض التشريعات المسئولية الجنائية لهؤلاء ، فهم عادة يكونوا قادرين على القيام بأعبائهم الشخصية ووقاية أنفسهم من أخطار الحياة اليومية ، ولكنهم عاجزين عن تعلم القراءة والكتابة. وأخيراً هناك ذكاء الحمقى ، ويتراوح بين 50 % و80% وهي نسبة تقارب ذكاء طفل العاشرة ، وهولاء تظل مسئوليتهم الجنائية كاملة ، إذ أنهم قادرين تماماً على القيام ببعض الأعمال البسيطة دون إشراف متواصل ، ولكنهم يحتاجون إلى إشراف عام إذ من اليسير إغراء البنين منهم على ارتكاب جرائم معينة وخاصة السرقة ، وإغواء البنات على ممارسة الرذيلة.

118- ثانياً : الصلة بين مستوى الذكاء والسلوك الإجرامي:
توزع الباحثون في مجال الدراسات الإجرامية حول تأصيل العلاقة بين الضعف أو التخلف العقلي Arriération mentale والظاهرة الإجرامية على رأيين. فقد اتجه البعض من التقليديين إلى التقرير بوجود علاقة مطلقة ووثيقة بينهما ، في حين أنكر البعض الآخر من أنصار الاتجاه الحديث وجود مثل هذه العلاقة المطلقة.

119- أ : الاتجاه التقليدي :
ينادي هذا الاتجاه بوجود علاقة وثيقة ومباشرة بين الضعف العقلي والظاهرة الإجرامية. فقد كان السائد في القرن التاسع عشر لدى بعض الباحثين الأمريكيين أن ثمة علاقة وثيقة ومباشرة بين الضعف العقلي والسلوك الإجرامي. فجميع المجرمين والمنحرفين وفقاً لهذا الاتجاه لديهم دونية عقلية ، وإن تفاوتت درجة هذه الدونية. ويترتب على ذلك أن سياسة التعقيم أو عزل ضعاف العقول هي الوسيلة الفعالة والوحيدة للوقاية من الجريمة ومعاملة المجرمين. ولقد أحصي فقط في الولايات المتحدة عام 1956 نحو خمسون ألفاً من حالات التعقيم الخاصة بمرضى العقول.

وهناك من الدراسات ما قطعت بوجود هذه الصلة. ففي مطلع القرن العشرين ذهب العالم الأمريكي هنري جودارد Goddard – على ما سنرى حين دراسة الوراثة الإجرامية – إلى التأكيد على أن معظم الأفراد الجانحين من ذوي العقليات الضعيفة وأن 89% من نزلاء المؤسسات العقابية الأمريكية من الأغبياء أو ناقصي العقول. الأمر الذي أثبتته دراسة العالم جلوك Gluek على نحو 608 من نزلاء سجن Sing Sing ، إذ قرر أن ما يزيد على 59% هم من المصابين بمرض وشذوذ عقلي ، وحوالي 28.1% من المصابين بالهوس ، و18.9% من السيكوباتيين.

وبين عامي 1930 و1940 أجرى العالم بانالي Banaly دراسة على نزلاء ذات السجن أثبت خلالها أن 1% منهم مصابون بالهوس ، ونحو 20% غير ناضجين عاطفياً ، و17% منهم من السيكوباتيين .

والحق أن هذا الاتجاه معيب ومنتقد . فقد تبين أن النتائج التي أسفرت عنها هذه الإحصاءات لم تكن دقيقة ، إلا أنها استخلصت على أساس عدد الذين تم القبض عليهم وإدانتهم ، وليس على أساس عدد الجرائم المرتكبة بالفعل. فضلاً عن أن كثيراً من المجرمين الأذكياء هم الذين يفلتون من أيدي رجال العدالة ، أما ضعاف العقول فيكونون عرضة للقبض عليهم ، وبالتالي فإنهم يكونون نسبة كبيرة من نزلاء المؤسسات العقابية ، الأمر الذي يلقي ظلالا من الشك حول مدى قيمة النتائج المستخلصة من هذه الإحصاءات. يضاف إلى ذلك أن هذا الاتجاه لم يقدم لنا تفسيراً لعدم ارتكاب كثير من ضعاف العقول للجرائم ، ولو صح الربط الحتمي بين الضعف العقلي والسلوك الإجرامي لوجب أن يندفع كل ضعاف العقول إلى تيار الجريمة وهو ما يناقضه الواقع.

120- ب : الاتجاه الحديث :
ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن العلاقة بين الضعف العقلي والظاهرة الإجرامية علاقة غير مباشر ولا تتسم بالحتمية ؛ وأن نسبة الذكاء بين المجرمين لا تختلف عن نسبته بين الأسوياء ، فيما عدا الحالات القليلة التي يقف فيها الضعف العقلي وراء السلوك الإجرامي بشكل مباشر. وقد خلص العالم الأمريكي سذرلاند Sutherland إلى عدم الربط بين معدل الذكاء والسلوك الإجرامي من خلال دراسة شملت حوالي 175000 مجرم بين عامي 1925 و1928. وقد ذكر أن نسبة ضعاف العقول بين عينة الدراسة لم تتعدى 20% ، وأن المسجونين ضعاف العقول لا يختلفون عن غيرهم من المسجونين فيما يصدر عنهم من أخطاء داخل السجن أو في نسبة من يطلق سراحهم بناءً على الإفراج الشرطي. كذلك فإن نسبة العائدين إلى ارتكاب الجريمة من المجرمين ضعاف العقول لا تختلف عن نسبة العائدين المجرمين.

وقد أجرى هيلي Healy بعد ذلك دراسات على أربعة آلاف من الشبان المجرمين في شيكاغو وبوسطن وخلص إلى أن 72.5% منهم يتمتعون بملكات ذهنية معتادة ، وأن نسبة ضعاف العقول منهم لا تزيد على 13.5%. وهي ذات النتيجة التي توصل إليها كل من Weiss وSamoliner في دراسة شملت 189 شاباً مجرماً ما بين 16 و21 سنة.

ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن الضعف العقلي وإن عد أحد عوامل الظاهرة الإجرامية إلا أنه لا يعدو أن يكون سبباً مهيأً لهذه الأخيرة ، ويتوقف ظهور السلوك الإجرامي للعالم الخارجي على عوامل أخرى بعضها نفسي وبعضها اجتماعي.

فمن من المقطوع به علمياً أن الضعف العقلي يؤثر في الجوانب النفسية للفرد ، وأنه كلما قلت نسبة ذكاء الشخص كلما ضعفت لديه القدرة على نقد ذاته وتبصر عواقب الأمور ، وكلما غلب عليه التقلب النفسي والانفعالي ، وضعفت أيضا سيطرته وتحكمه في غرائزه فيسهل انقياده لنداء هذه الأخيرة ، فيحاول إشباعها ولو بسلوك سبيل الجريمة.

ومن المؤكد أيضاً القاصر عقلياً قد يندفع إلى سبيل الجريمة ، ليس بفعل ضعفه العقلي ، بقدر ما يعود الأمر إلى ظروف اجتماعية تفاعلت مع هذا الأخير. فغالباً ما يتسبب الضعف العقلي في انغلاق سبل الكسب المشروع أمام صاحبه ، وكثيرا ما يؤدي إلى إخفاق الفرد في دراسته ، فتضيق فرص العمل ، فيدفعه كل ذلك إلى سلوك سبيل الجريمة. وإن وجد المصاب بهذا المرض عملاً فهو في الغالب عمل متدني يقربه من أفراد الطبقات الدنيا والتي تمتزج حياتها بالسلوكيات الإجرامية. وغالباً ما يكون ضعاف العقول أولى ضحايا الأزمات الاقتصادية التي تدفع أصحاب الأعمال إلى الاستغناء عن بعض العمال ، فيدفعه ذلك إلى التشرد والتسول. وأخيراً فإن ضعيف العقل كثيراً ما يكون موضع سخرية من قبل النساء ، الأمر الذي قد يدفعه إلى ارتكاب جرائم العرض أو الإيذاء البدني تجاههن.

وهكذا لا يكمن القول بوجود رباط مباشر بين مستوى الذكاء والسلوك الإجرامي ، غاية ما هنالك أننا نستطيع أن نقسم الجرائم وفقاً لمعيار الذكاء ودرجته إلى جرائم الأذكياء وجرائم الأغبياء. ولا يعني ذلك أن هناك جرائم تكون وقفاً على الأذكياء وأخرى مقصورة على الأغبياء ، فالشخص قد يرتكب أية جريمة ، وكل ما هنالك أن الفرد بطبعه يميل إلى ارتكاب الجريمة التي تتناسب مع معدل قدراته وملكاته الذهنية.

ويفترض النوع الأول المكون لجرائم الأذكياء في شخص مرتكبها قدرا عالياً من المهارات الذهنية ، كما هو الحال في جرائم النصب وتزوير المحررات وتزيف العملة وجرائم الجاسوسية أمن الدولة وجرائم التهريب الجمركي والضريبي. أما النوع الثاني المتمثل في جرائم الأغبياء فهي التي لا يتطلب في شخص مرتكبها إمكانيات أو قدرات ذهنية خاصة. بل يغلب أن يقدم على ارتكابها أفراد يقل مستوى ذكائهم عن المستوى الذكاء العام. ومن أمثلتها جرائم التسول ، والسب والقذف والفعل الفاضح ، وجرائم الحريق ، والدعارة ، والجرائم الماسة بالأطفال ، وجرائم السرقة والضرب والجرح ، والجرائم غير العمدية كالإصابة والقتل الخطأ.

المبحث الثاني
الـــوراثـــة الإجـــرامـــيـة

121- تقسيم :
لإبراز الدور الذي يمكن أن تلعبه الوراثة Hérédité في الدفع نحو الجريمة يتعين علينا أن نوضح أولاً المقصود بالوراثة وأنواعها ، ثم نبين الأساليب المستخدمة في الكشف عن الصلة بين الوراثة والسلوك الإجرامي .
المطلب الأول
مضمون الوراثة وأنواعها

122- أولاً : مضمون الوراثة :
يقصد بالوراثة انتقال خصائص معينة من الأصل إلى الفرع بطريق التناسل لحظة تكوين الجنين ، أي لحظة التقاء الحيوان المنوى للأب Spermatozoïde ببويضة الأم Ovule. والوراثة بهذا المعنى تختلف عن الوراثة الجماعية أو العامة والتي تعني انتقال صفات وخصائص معينة من سلالة إلى أخرى تشمل جماعة بأكملها أو جزء منها.

ويقرر علماء الوراثة أن الإنسان في خصائصه وصفاته يخضع لقوتين تتجاذبانه في اتجاهين متضادين : قوة الوراثة وتعمل على أن يستمر في الفرع خصائص وسمات السلف أو الأصل ، وقوة التغيير أو التطور التي تعمل على الحد من تأثير قوة الوراثة بحيث تختلف الصفات والسمات التي يتميز بها الأصل.

وبفعل قوة الوراثة تنتقل من الأصل إلى الفرع بعض الخصائص الفردية العضوية والعقلية والنفسية في إطار عملية معقدة ودقيقة. فكل خلية من خلايا جسم الإنسان تحتوي على مجموعة جزئيات دقيقة تسمى بالكروموزومات Chromosomes ، وهي مواد صبغية تقوم بنقل الخصائص الوراثية للفرد ، ويطلق على هذه الخصائص الوراثية اسم الجينات Gènes. وتتشكل كل خلية من عدد ستة وأربعون من الكروموزومات. ولما كانت الخلية الأولى للجنين تتشكل بفعل التقاء خلية الأب المنوية ببويضة الأم ، وكان من اللازم لكي تستمر الخلية المخصبة حية أن تحتوي فقط على ثلاث وعشرين زوجاً من الكروموزومات بحكم التكوين الطبيعي للخلايا ، فكان من اللازم أن تفقد كل من خلية الأب والأم نصف ما بها من كروموزومات ، في إطار ما يسمى بعملية التخفيض الكروموزومي Réduction chromatique. بعد ذلك يلتقي ثلاثة وعشرون كروموزوماً من خلية الأب بما يماثلهم من خلية الأم لتنتج الخلية المخصبة حاملة ستة وأربعون كروموزوماً. ونتاج الصراع بين الكروموزومات الذكورية والأنثوية المفقودة والباقية تظهر على الأبناء بعض خصائص وصفات أبائهم.

والحق أن الأمر في النهاية يتوقف على الدور الذي تلعبه الجينات وما تحمله من خصائص وراثية. فإذا كان هناك تشابها وتماثلا بين الخصائص الوراثية لجين الأب وجين الأم (كلون العينين أو الشعر مثلاً) ، فإنه من المؤكد أن تظهر عند الابن هذه الصفات الوراثية المشتركة ، أما إذا اختلفت الخصائص الوراثية لجينات الأبوين ، فإنهما يتصارعان وينتهي الأمر بتفوق أحدهما على الأخرى. فإذا كانت الصفات الوراثية المنتصرة ذكرية ظهرت في الابن خصائص أبيه ، وإن كانت أنثوية فإن خصائص أمه تظهر فيه بوضوح. ولعل هذا الذي يفسر لنا الاختلاف العضوي والنفسي بين الأخوة لأب وأم واحدة.

وقد يعترض التكوين الوراثي بالشكل السالف قوة تغير وتطور ، يطلق عليها العلماء ظاهرة التغير الفجائي في الوراثة Mutation. ويرجع العلماء أسباب التغير المفاجئ في الوراثة التعرض لأنواع من الأشعة الضارة ، أو تناول الأم المفرط للعقاقير في فترات الحمل ، أو إلى إدمان الخمور والمخدرات ، أو إصابة الأم بأحد الأمراض التناسلية كالزهري. ومن هذه الأسباب أيضا أن يكون فارق السن بين الزوجين كبيراً ، أو أن يقع الحمل في سن مبكرة جدا أو في سن متأخرة جداً. ويؤدي هذا التغير إلى خلل عملية التخفيض الكروموزومي ، وما تؤدي إليه من حجب لبعض الخصائص الوراثية Filtrage de l’hérédité ، فتزيد عدد الكروموزومات عموماً كما هو الحال لدى الطفل المغولي Mongolien ، أو تزيد الكروموزومات من نوع معين ، كالكروموزومات الجنسية.

وعموماً لا يجب إرجاع كل تغير أو تطور إلى وجود سبب من أسباب التغير الوراثي ، فربما ما نحسبه صفات وراثية جديدة لم تكن لدى الأب أو الأم ، ليس إلا صفات وراثية ترجع إلى الأسلاف الأوائل.

123- ثانياً : أنواع الوراثة :
للوراثة أنواع متعددة : فإما أن تكون الوراثة مرضية وإما أن تكون تشويهية. وتعني الأولى انتقال بعض الأمراض العصبية والنفسية والتناسلية بذاتها التي كان يعاني منها الأصل إلى خلفه. أما الوراثة التشويهية وفيها ينتقل فقط إلى الفرع شذوذ في التكوين نتيجة سبق إصابة الأصل بمرض معين أو نتيجة انتهاج الأم لسلوكيات خاطئة في فترات الحمل.

وقد تكون الوراثة تطابقية وقد تكون تشابهية. والأولى هي التي تنتقل فيها إلى الفرع ذات الخصائص والصفات التي كانت لدى الأصل دون تغيير ، كأن يكون الأصل مجرماً فيصبح الفرع كذلك أيضاً. أما الوراثة التشابهية فهي التي لا تنتقل فيها لدى الخلف ذات خصائص وصفات السلف ، ولكن يظهر لديه عيب آخر مشابه أو معادل لما كان لدى السلف من صفات. ومن ذلك أن يكون الأصل مجرماً بينما يكون الفرع مختل العقل أو العكس.

ويمكننا أن نميز أخيراً بين الوراثة الحقيقية وبين الوراثة الظاهرية. والوراثة الحقيقية هي الوراثة بمعناها الدقيق والتي تعني انتقال خصائص الأصل إلى الفرع لحظة تكوين الجنين. أما الوراثة الظاهرية Pseudo hérédité فهي مجمل العوامل التي تعاصر لحظة الإخصاب أو فترة الحمل فتظهر في الخلف خصائص وصفات لم تكن لدى السلف. كميلاد الطفل مصاباً بمرض عقلي نتيجة أن أحد الأبوين أو كلاهما كان وقت الإخصاب مدمناً للخمور والمخدرات ، أو كانت الأم في فترة الحمل مصابة بمرض نفسي أو جنسي.

المطلب الثاني
طرق الكشف عن الوراثة الإجرامية

124- تقسيم :
تتنوع الطرق التي اتبعها العلماء من أجل الكشف عما يربط الوراثة بالسلوك الإجرامي. ويمكننا أن نذكر على وجه التحديد أربعة طرق : إما دراسة شجرة العائلة ، وإما المقارنة الإحصائية ، وإما دراسة التوائم ، وإما دراسة الخلل الكروموزومي.

125- أولاً : دراسة شجرة العائلة :
يهدف أسلوب شجرة العائلة L’arbre de la famille إلى دراسة عائلة أو أكثر لتحديد مدى انتشار السلوك الإجرامي بين أفرادها ، ولبيان مدى انتقاله من السلف إلى الخلف. فقد أثبتت بعض الدراسات التي أجريت على أسر بعض المجرمين أن كثيراً من المجرمين يغلب أن يكونوا من أسر تناقل الإجرام بين أفرادها ، أو شاعت فيهم الأمراض العقلية.

ومن أقدم الدراسات وأشهرها في هذا المجال ما قام به ريتشارد دوجادل Dugdale عام 1877 من بحوث حول أسرة شخص يدعى ماكس جوكس Max Jukes عاش في القرن الثامن عشر بين عامي 1720 و1740 والمنحدر من أصول هولندية وكان مدمناً للخمر ومولعاً بالنساء وكانت له زوجة اشتهرت بالسرقة . وكانت البداية لدى هذا العالم عندما لاحظ في أثناء زيارته لأحد سجون نيويورك ارتفاع معدل الجريمة بين أفراد يبدو أنهم ينحدرون إلى أصل واحد. وقد اتضح له من تعقب حياة 709 شخصاً من أفراد عائلة الجد المشترك ماكس ، والبالغ عدد أفرادها حوالي 1200 خلال مدة خمسة وسبعين عاماً ، أن هذه العائلة قد قدمت لمدينة نيويورك نحو 280 مشرداً ومعوزاً ، ونحو 50 من محترفي الدعارة ، و60 لصاً محترفاً ، و300 من الأطفال غير الشرعيين ، و7 من القتلة ، و31 شخصاً مصاب بأمراض عقلية ، و46 شخصاً مصاباً بالعقم.

وفي متابعة من العالم استابروك Eastbrook لعائلة جوكس هذه حتى عام 1915 ، حينما بلغ إجمالي عدد العائلة نحو 2094 شخص ، منهم 1.258 من الأحياء ، تبين أن من بين أفراد هذه العائلة 170 مشرداً ، و129 معوزاً ، و118 مجرماً ، و378 بغياً ، و86 ممن يديرون بيوتاً للدعارة والمقامرة ، و181 مدمناً للخمور والمخدرات.

وهناك دراسة العالم الأمريكي هنري جودارد Goddard والذي عكف على دراسة عائلة الكاليكاك Kallikak ، وهو اسم مستعار لعائلة معرفة . وقد تبين له أن الجد الأكبر للعائلة – الذي أسماه مارتن كاليكاك – حينما كان جندياً في حرب الاستقلال قد تزوج من امرأة ساقطة ذات عاهة في العقل وكانت تعمل ساقية في إحدى الحانات. وقد أنجب مارتن من هذه السيدة طفلاً غير شرعي لم يكن متوافقاً اجتماعياً ، صار هذا الأخير فيما بعد أباً أكبر لعائلة بلغت نحو 480 فرد. ثم تزوج من بعد امرأة طيبة السمعة وأنجب منها طفلاً صالحاً تتابعت ذريته إلى أن بلغت نحو 496 شخص.

وبمقارنته لفرعي الأسرة ، تبين أن الفرع الأول قد شاع بين أفراده السلوك الإجرامي والضعف العقلي. فمنهم 33 بغياً ، و24 مدمناً ، و3 مرضى بالصرع ، و36 طفلاً غير شرعي ، و143 من ضعاف العقول ، و82 ماتوا مبكراً ، و3 من المجرمين ، و8 ممن يديرون بيوتاً للدعارة. في حين أن الفرع الثاني لم يخلف وراءه إلا البارزين في أعمالهم المهنية ، باستثناء شخصين من مدمني الخمور ، وشخص مصاب بمرض عقلي ، و15 ممن ماتوا في سن مبكرة.

كذلك هناك دراسة العالم الألماني بولمان Poellman والتي انصبت على عائلة رمز إليها باسم زيروس Zeros في مدينة بون ، بلغ عدد أفرادها نحو 800 فرد لمدة ستة أجيال متعاقبة. ولقد تبين لهذا العالم أن أغلب أفراد هذه العائلة كانوا مجرمين (76 فرد) ، أو متشردين ومعوزين (156 فرد) ، أو من الأطفال غير الشرعيين (117 طفلاً) ، أو من محترفي البغاء (181 بغياً) .

وقد جرت المقارنة بين عائلة جوكس سالفة الذكر وبين عائلة أحد رجال الدين الأمريكي يدعى “جوناثان إدواردر Jonathan Edwards. وقد تبين أن أسرة هذا الأخير قد اشتهر عنها الاستقامة والصلاح ، ولم يكن بين ذريته مجرماً واحداً ، بل كان منهم رؤساء جمهورية ، وقضاة محاكم عليا وحكام ولايات ومفكرين وكتاب ورجال دين. وربما هذا الأمر ينطبق بدوره من خلال إطلاعنا الحر على أفراد عائلة كنيدي المعرفة في الولايات المتحدة.

والواقع أن هذه الطريقة وإن كان لها فضل إظهار أهمية أثر عوامل الوراثة في السلوك الإجرامي ، إلا أنها معيبة وذلك لعدة أسباب :
– عيب على هذا الأسلوب تجاهله تماماً لدور البيئة العائلية التي يحى فيها أفراد العائلات التي طالتها الدراسات. فلقد كان أطفال أسرة جوكس مثلا يتعرضون لمؤثرات البيئة الفاسدة بقدر ما كانوا يتعرضون لتأثير عامل الوراثة. كما أن دراسة جودارد ذاتها تؤكد هذا النقد. فشيوع الإجرام بين أفراد أحد الفروع لم يكن إلا أثراً لظروف البيئة التي عاشوا في ظلها.

وقد حاول دالشتروم Dahlstrom في سنة 1928 تأكيد تأثير البيئة الفاسدة على السلوك الإجرامي فقام بدراسة على أسرة من المجرمين عرفت بنشاطها الإجرامي لمدة أربعة أجيال ، فأبعد ستة من أطفالها قبل سن السابعة فأصبحوا أعضاء صالحين في المجتمع ، وأبعد اثنان منهم بعد سن السابعة فصارا من المجرمين.

– كما عيب على هذه الطريقة أنه لا يمكن تعميم كافة نتائجها ، ذلك أنها تعتمد على عدد محدود من العائلات مختارة بطريقة تحكمية.
– كما أن هذا الأسلوب من أساليب البحث يهتم بالفروع وإن دنت دون الأصول وإن علت ، الأمر الذي يشوبها القصور. فقد ثبت أن جدة جوناثان إدوارد من أمه قد طلقت بسبب الزنا ، وأن عمة أبيه قد قتلت ولدها ، كما قتل عم أبيه أخته الوحيدة. فإذا صح أن الإجرام يورث لتعين أن يكون جوناثان ذاته وكثير من أفراد عائلته مجرمين.
– كما قيل أخيراً أنه يجب النظر للدراسات التي أجريت بهذا الأسلوب بعين الشك ، إذ أنها قد وقعت في مغالطة علمية بتجاهلها أن الفرع يرث صفات وخصائص أبويه معاً ، مما يتعين معه عدم التركيز عند تفسير إجرامه على العوامل البيولوجية الخاصة بأحد أبويه دون الآخر.

defaultرد: عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

المبحث الثالث

الــمــراحــل الــعــمــريــة

129-
تقسيم :

يتعين علينا قبل الكشف عن الصلة التي تربط المراحل العمرية بالظاهرة الإجرامية ، أن نوضح الأقسام المختلفة لهذه المراحل وما يرتبط بها من تغيرات عضوية وفسيولوجية[1].

المطلب الأول

أقسام المراحل العمرية

يقسم الباحثون في مجال الدراسات الإجرامية المراحل العمرية Tranches d’age للإنسان إلى أربع أطوار هي على التوالي : مرحلة المراهقة ، مرحلة الشباب ، مرحلة النضج ، مرحلة الشيخوخة.

والمراهقة L’adolescence هي المرحلة التي تمتد بين الثانية عشرة إلى الثامنة عشرة. وفي تلك المرحلة يتعرض الحدث لتغيرات عضوية وفسيولوجية ، وعلى الأخص البلوغ الجنسي. ويبدأ هذا البلوغ عند الإناث فيما بين الحادية عشرة والثانية عشرة ، وعند الذكور فيما بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة. كما يتأثر الحدث بسهولة بالوسط البيئي المحيط به مما يجعل انقياده واستجابتة للغير أسهل وأسرع. ومن مظاهر التغير في تلك المرحلة نمو القوى البدنية للحدث ، وازدياد افرازات الغدة النخامية الموجودة أسفل الرأس والمتحكمة في بقية الغدد. وترتفع لديه طاقة الغريزة الجنسية ، وعادة لا تجد في هذه السن المبكرة وسيلة للإشباع المشروع. فضلاً عن أنه يزيد في هذه السن إفراز الغدة الدرقية التي ترفع لديه معدل الميل للعنف والعدوان. كل هذا بالإضافة لافتقار الحدث إلى النضج النفسي نتيجة الإفراط في ملكة التخيل وحب المغامرة.

أما طور الشباب أو النضج المبكر Jeune adulte ، فيشمل المرحلة التي تمتد بين الثامنة عشرة والخامسة
والعشرين. وفيها يكتمل النمو البدني والعصبي ، وتتميز بانتهاء أزمة المراهقة والاستعداد لمرحلة الاستقرار. وتتميز هذه المرحلة ببداية مجابهة الشباب للحياة وأعبائها من زواج ومسئوليات عائلية والاستعداد لبناء المستقبل.

ويلي هاتين المرحلتين مرحلة النضوج الكامل Jeune
confirme ، وهي تلك المرحلة التي تمتد من سن الخامسة والعشرين حتى الخمسين ، وتتميز هذه المرحلة بالاستقرار العام من الناحية المهنية والعائلية. ثم تختتم المراحل بطور الشيخوخة ، وهي مرحلة تبدأ بعد سن الخمسين وتمتد حتى نهاية العمر. وتتميز بضمور القوى البدنية وضعف في الملكات العقلية ، وفتور القدرة الجنسية ، وتقلبات نفسية وعاطفية ، وشعور بالإحباط وعدم الاستقرار.

ويسبق تلك المراحل مرحلة الطفولة ، والتي تمتد من لحظة الميلاد إلى حين بلوغ الثانية عشرة. وتلك
المرحلة – على الرغم من أهميتها في تكوين الشخصية – لا تهم الباحثون في علم الإجرام ذلك أن الإحصاءات قد دلت على ضآلة نسبة إقدام الأطفال على ارتكاب الجرائم العلة ضعفهم البيولوجي وضيق روابطهم الاجتماعية. يضاف إلى ذلك أن معظم التشريعات الجنائية تجعل من صغر السن سبباً من أسباب امتناع المسئولية الجنائية.

المطلب الثاني

المراحل العمرية والسلوك الإجرامي

من الملاحظ أنه يصاحب المراحل العمرية المختلفة للإنسان نوعان من التغيير : تغيير خارجي يتعلق بالتكوين
العضوي والنفسي ، وتغيير خارجي يتعلق بالبيئة والوسط الاجتماعي المحيط بالإنسان. ومما لاشك فيه أن هناك صلة بين مراحل العمر والسلوك الإجرامي ، ذلك أن الإحصاءات الجنائية قد كشفت عن أن لكل مرحلة من مراحل العمر خصائص وسمات عضوية ونفسية تترك آثارها على كم ونوع الإجرام في كل طور من أطوار الإنسان.

فالبين أن نسبة الإجرام تبدأ في الارتفاع مع بداية مرحلة المراهقة ، ثم تبلغ ذروتها في مرحلة الشباب ، حتى تأخذ في الهبوط التدريجي في مرحلتي النضج والشيخوخة. فنتيجة لما يصاحب مرحلة المراهقة من تغيرات عضوية وفسيولوجية فإننا نلحظ ارتفاع معدلات الإجرام بين الأحداث المراهقين ، فضلاً عن تميز جرائم هؤلاء بالتنوع ما بين جرائم الاعتداء على الأموال ، وجرائم الاعتداء على الأشخاص ، وجرائم الاعتداء على العرض.

فقد دلت الإحصاءات الجنائية على أن ما يرتكبه الأحداث من جرائم الاعتداء على الأموال ، وخاصة السرقة في محيط الأسرة ، يزيد على نصف إجمالي ما يرتكبون من جرائم. ويرجع ذلك إلى تنامي رغبات الحدث التي يريد إشباعها دون أن تقو إمكانياته المالية على تحقيق ذلك. بيد أنه قلما يرتكب الحدث جرائم النصب أو خيانة الأمانة أو جرائم الشيك لأنها تتطلب قدراً الحيلة والدهاء قلما يتوافر في هذه السن الصغيرة. وتشير إحصاءات عام 1982 في مصر من واقع تقرير الأمن العام أن عدد المتهمين في جنح من الفئة العمرية بين 13 و16 عاماً بلغ نحو 2233 فرداً ، وأن عدد المتهمين من الفئة العمرية بين 16 و18 عاماً بلغ نحو 2888 متهماً.

كما يكثر لدى الأحداث جرائم الاعتداء على الأشخاص (كالضرب والجرح) والجرائم المخلة بالآداب (كهتك العرض والفعل الفاضح والاغتصاب) ، وذلك نتاج نمو القوة البدنية ونمو نشاط الغريزة الجنسية لديهم. وبخصوص هذه الأخيرة فمن الملاحظ أن الحدث يقبل في المراحل الأولى على ارتكاب أفعال الجنسية المثلية ، أي الميل لبني جنسه ، حتى إذا ما نضجت غريزته الجنسية وأخذت اتجاهها الطبيعي نحو الجنس الآخر ، فإن الحدث قد يندفع إلى ارتكاب جرائم العرض المختلفة من أجل إشباع تلك الغريزة.

أما فيما يخص إجرام الشباب ، فقد دلت الإحصاءات الجنائية الفرنسية على أن تلك المرحلة تتسم بارتفاع نسبة الإجرام – الذي قد يصل ما بين ربع وثلث كمية الإجرام الكلي – وذلك للزيادة الملحوظة في القوة البدنية والنضج الكامل للغريزة الجنسية ، مع ازدياد متطلبات بناء المستقبل.

فقد تبين أن نسبة مرتكبي الجنايات بين الشباب قد بلغت سنة 1964 ما يزيد على 31% من جملة المحكوم عليهم ، بينما بلغت نسبة مرتكبي الجنح من الشباب ما يزيد على 24%. كما كشفت ذات الإحصاءات أن 16% من المحكوم عليهم في جرائم القتل من الشباب ، وأن 25% من جرائم الضرب والجرح والقتل والإيذاء غير العمديين قد ارتكبت كلها في هذه المرحلة من العمر ، لما يتصف به الشباب من عدم الاكتراث والاندفاع والتهور. كما ترتفع أيضاً بين الشابات في هذه المرحلة نسبة جرائم الإجهاض نظراً لسهولة تعرض المرأة في هذه المرحلة للحمل.

أما الإجرام بين الناضجين فيتميز بارتفاع معدلات جرائم النصب إذا ما قورن بنسبة جرائم السرقة وخيانة الأمانة. والملاحظ أن جرائم الشرف والاعتبار تبلغ أقصى معدلاتها بين سن الأربعين والخمسين ، أي في نهاية هذه المرحلة ، ذلك أن الشخص في هذه المرحلة لا يقوى بدنياً على الالتجاء إلى العنف ، فيستعيض عن
ذلك بجرائم الاعتداء على الشرف والاعتبار كالقذف والسب لإشباع رغبته.

وفي المرحلة الرابعة من عمر الإنسان ، والتي تشمل طور الشيخوخة ، تبدأ القوة البدنية والذهنية للشيخ في الضمور ، وتخمد العواطف ، وتضعف غريزته الجنسية ، وتزيد معدلات اليأس لديه بانصراف الأبناء عنه إلى أسرهم وأشغالهم الخاصة وانقطاع نشاطه المهني ببلوغه سن التقاعد. ومن هنا فإن نوعية الجرائم التي يقدم عليها الفرد في هذه المرحلة عادة ما ترتبط بالذكاء والحيلة بعيداً عن استخدام القوة البدنية. فيكثر لدى الشيوخ ارتكاب جرائم النصب وخيانة الأمانة لإشباع رغبتهم في الكسب غير المشروع ، وتقل لديهم نسبة الجرائم التي تحتاج إلى العنف أو تتطلب قوى بدنية أو جرأة كالقتل والإيذاء البدني والسرقة بالإكراه. كما تنتشر جرائم المساس بالشرف والاعتبار والجرائم الجنسية الماسة بالأطفال وذلك لانحراف غريزتهم الجنسية عن اتجاهها الطبيعي.

ففي تقارير الأمن العام لسنة 1982 في مصر تبين أن عدد المتهمين في جنايات القتل العمد قد بلغ 125 بعد أن كان 211 في المرحلة العمرية السابقة. وأن الضرب المفضي لموت قد بلغ 28 قضية بعد أن كان 55 ، وفي هتك العرض 10 قضاياً بعد أن كان 13 ، وفي السرقة 5 بعد أن كان 12. كما بلغ عدد المتهمين في سرقات نحو 79 بعد أن كان العدد في المرحلة العمرية السابقة 1300 متهم.

وتكشف الإحصاءات عن أن إجرام المرأة في هذه المرحلة لا يختلف عن إجرام الرجل ، فيما عدا معدل جرائم العرض. غير أنه يجب التأكيد على أن أقصى نسبة يصل إليها إجرام المرأة تكون في الفترة التي تتراوح بين سن الخامسة والأربعين والخامسة والخمسين ، وهي السن المعروفة بسن اليأس. ففي تلك السن تسوء حالة المرأة النفسية لشعورها بانتهاء مهمتها في الإنجاب وضيق مواردها بعد تقاعد زوجها وابتعاد أبنائها عنها ، الأمر الذي قد يدفعها لسلوك سبيل الجريمة.

المبحث الرابع

الــــســــلالــــةأو الـــعـــرق

130- تمهيد وتقسيم :

تعرف السلالة La Race بأنها مجموعة الصفات التي تميز جماعة إنسانية عن غيرها من الجماعات. وتتكون السلالة من خلال انتقال هذه الصفات عبر الأجيال بين جمع كبير من الأفراد بأسلوب الوراثة العامة ، بحيث يشترك هؤلاء الأفراد في بعض الخصائص العضوية كشكل الرأس ولون البشرة والشعر وطول القامة Forma Capitis ، أو خصائصهم النفسية كطريقة التفكير والعقيدة وأنماط الطبع والمزاج والتقاليد ومدى الاستجابة للمؤثرات الخارجية Forma Mentis. ولا يتطابق حتماً مفهوم كل من السلالة والجنسية ، أي الانتماء السياسي لدولة ما. فالسلالة قد تشمل دولة بأسرها ، وقد تحوي الدولة الواحدة عدة سلالات ، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث
يعيش فيها سلالات عديدة كالجنس الأبيض ذو الأصول الأوروبية ، والجنس الأصفر ذو الأصول الآسيوية ، والجنس الأسود أو الزنجي ذو الأصول الأفريقية. ومن قبيل ذلك أيضاً الجاليات الأجنبية في بعض الدول ، كالمهاجرين من بلاد المغرب العربي في فرنسا. وقد يحيا أفراد السلالة الواحدة في أكثر من دولة ، وهو الحال بالنسبة لليهود ، إذا ما صح اعتبارهم جنساً مستقلاً.

ولما كان لكل سلالة ما يميزها من خصائص عضوية ونفسية فإن السؤال الذي يلح هنا هو ما إذا كان الانتماء إلى سلالة معينة يمكن أن يكون سببا في الدفع نحو الجريمة ، أو يمكن أن تتفاوت السلالات من حيث الميل نحو الجريمة. وليس المقصود من طرح هذا التساؤل ، الكشف عن أن مجرد الانتماء إلى سلالة معينة يمكن أن يكون في ذاته عاملاً إجرامياً ، ذلك أنه لا يتصور أن تكون هناك سلالات لا تعرف طريق الإجرام ، وأخرى يغرق أبنائها في سبيل الجريمة. فالإجرام ظاهرة قائمة لدى جميع السلالات. وهكذا يصبح المبتغى من طرح التساؤل هو الكشف عن تأثير السلالة على حجم الإجرام ونوعه. ولقد تبع الباحثون في الكشف عن ذلك أحد أسلوبين : إما المقارنة بين إجرام السلالات التي تعيش في دول مختلفة ، وإما المقارنة بين إجرام السلالات داخل الدولة الواحدة[2].

المطلب الأول

إجرام السلالات مقارناً بين عدة دول

يعتمد أسلوب المقارنة بين إجرام السلالات التي تعيش في أكثر من دولة على تحديد حجم الجريمة في دولة معينة عن طريق الإحصاءات الجنائية فيها ، وتحديد نسبة كل نوع من أنواعها إلى هذه الكمية في مجموعها ، ثم
مقارنة ذلك بحجم ونوع الإجرام في دولة من الدول الأخرى محل الدراسة. ويبدو جلياً أن هذا الأسلوب لا يصلح إلا إذا تطابق كل من مفهوم السلالة والجنسية بحيث يحيا أبناء السلالة الواحدة على إقليم دولة بأكملها.

وبإتباع هذا الأسلوب في البحث كشف بعض الباحثين عن ارتفاع نسبة جرائم العنف ضد الأِشخاص كالقتل والاغتصاب بين المجموعات التي تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط ، بينما ترتفع نسبة جرائم الغش والتزوير عند الاسكندنافيين ، كذلك ترتفع نسبة جرائم القتل عند الإنجليز والجرمان ، بينما هي أقل ما تكون عند المجموعات التي تنتمي إلى أصل مكسيكي وأسباني وبرتغالي. غير أن هذا الأسلوب يشوبه العوار من عدة جوانب :

فمن ناحية فإن هذا الأسلوب لا يمكن من الجزم بأن السلالة هي العامل الحاسم في اختلاف الإجرام من حيث نوعه وحجمه من دولة لأخرى ، ومرجع ذلك أن الاختلاف بين السلالات في حجم ونوع الإجرام قد يفسر بتباين
الظروف الاجتماعية والاقتصادية من دولة للأخرى دون أن يكون للسلالة أي دور حقيقي في ذلك. كما أنه من المتعذر في العصر الحديث ومع اختلاط الأجناس وشيوع العولمة العثور على شعب يمثل وحدة عرقية خالصة يمكن من إتباع هذا الأسلوب.

ومن ناحية أخرى فإن هذا الأسلوب يفترض أنه يجري المقارنة بين دول تتطابق في سياستها التجريمية والعقابية ، مغفلاً أن الجريمة مخلوق قانوني يختلف من دولة للأخرى. فبعض الأفعال قد تعد جريمة في دولة ما ولا تعد كذلك في دولة أخرى (كجريمة إعطاء شيك بدون رصيد وجريمة الزنا) ، الأمر الذي يؤدي إلى تضخيم نسبة الإجرام في الدولة الأولى دون الثانية. هذا فضلاً عن أن أجهزة العدالة الجنائية في إحدى الدول قد تكون يقظة وحريصة على تعقب المجرمين بالمقارنة بالدول الأخرى.

المطلب الثاني

إجرام السلالات مقارناً في الدولة الواحدة

يهدف أسلوب المقارنة بين إجرام عدة سلالات تعيش في كنف دولة الواحدة في ظل ظروف اجتماعية وطبيعية متماثلة وتشريع جنائي موحد إلى تفادي الانتقادات التي وجهت إلى الأسلوب السابق. ففي هذا الاتجاه كشف Suermondt في دراسته على يهود هولندا عام 1924 عن انخفاض معدل إجرام هؤلاء مقارنة ببقية السكان ، وأن إجرامهم يميل نحو استخدام الحيلة والدهاء كالنصب وخيانة الأمانة والتزوير ، بينما تكاد تنعدم لديهم جرائم العنف والإيذاء. كما ترتفع لديهم نسبة جرائم الشرف والاعتبار والجرائم المخلة بالآداب.

وقد أوضحت بحوث هيرش Hirsch في فرنسا ارتفاع معدل إجرام المنتمين إلى دول شمال أفريقيا بين 18
و30 سنة بزيادة مرة ونصف بالمقارنة بالمواطنين الفرنسيين. وأن هؤلاء ترتفع لديهم نسب جرائم القتل والإصابة غير العمدية ، بينما تقل نسبة الجرائم ضد الأموال وخاصة التي تعتمد على الذكاء. وتشير إحصاءات السجون الفرنسية في عام 1965 عن وجود 6502 مسجون أجنبي يمثلون 20% من مجموع نزلاء السجون ، ويبلغ الجزائريين وحدهم نسبة نصف هذا العدد. وفي عام 1973 كشفت الإحصاءات عن ارتفاع هذه النسب.

وتبقى الولايات المتحدة الأمريكية النموذج الأمثل لتطبيق هذا الأسلوب ، إذ يعيش على إقليمها نماذج مختلفة من السلالات من أبناء الجنس الأبيض والأصفر والأسود. ولقد خلصت الدراسات التي اتبعت هذا الأسلوب إلى أن نسبة الإجرام العام لدى الجيل الأول من المهاجرين تقل عن مثيلتها لدى المواطنين الأمريكيين ، في حين تزيد النسبة لدى الجيل الثاني.

عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

ولعل أشهر الدراسات التي أجريت في هذا الشأن هو ما يتعلق بإجرام الزنوج في الولايات المتحدة. فقد خلصت الدراسات إلى أن الزنوج بحكم فطرتهم أكثر ميلا إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال من البيض. ففي دراسة للعالم كانادي Canady نشرت عام 1946 ثبت أن من بين 100.000 زنجي تم القبض على 1938 ، وأن من بين 100.000 أبيض تم القبض على 578 فقط. وفي إحصاء عام 1950 ثبت أن الزنوج يمثلون حوالي 34% من مجموع المقبوض عليهم ، وأنهم يمثلون ثلث نزلاء السجون.

وقد كشف سيلين Sellin في دراسة أجراها عام 1960 أن الزنوج قد ارتكبوا نحو 61% من مجموع جرائم القتل ، و55.6% من جرائم السرقة بالإكراه ، و52.2% من جرائم الاغتصاب والعنف ، و68% من جرائم التزوير ، و52.9% من جرائم حمل السلاح بدون ترخيص. وقد أوضح أن أغلب جرائم القتل كانت موجه أيضاً لزنوج.

وفي عام1967 ثبت أن معدل القبض على الزنوج يزيد 17 ضعفاً عن البيض. وفي إحصاءات عام 1970 في مدينة نيو أورليانز ثبت أن إجرام الزنوج يمثل 80% من حجم الإجرام في المدينة. وفي دراسة لمكتب التحقيقات الفيدرالية FBI عام 1973 أوضح أن مساهمة الزنوج في جرائم العنف تبلغ حوالي 51.3% مقابل 47.01% للبيض ، وفي جرائم الأموال
34.63% مقابل 63.8% للبيض. ولقد كشفت البحوث عن أن نوع إجرام الزنوج يغلب عليه العنف كالقتل والسطو والسرقة بالإكراه والاعتداء على رجال الشرطة وجرائم العرض. ولقد ثبت من خلال بحوث أخرى تدني معدل الجريمة لدى أبناء الجنس الأصفر ذو الأصول الآسيوية.

وقد أرجع بعض الباحثين ارتفاع نسب إجرام الزنوج في أمريكا إلى ضعف مستواهم الاقتصادي وسوء
أحوالهم الاجتماعية والصحية. فالفقر والجهل والمرض والتعطل والسكن غير المناسب كلها سمات للحياة في مناطق الزنوج. وقد ذهب آخرون إلى القول بأن هذا الارتفاع لا يفسره إلا كون الزنوج يمثلون أقلية Minorité داخل الولايات المتحدة ، وأن الأقليات بطبيعتها يسود لديها شعور بالاضطهاد السياسي والحساسية المفرطة Hypersensibilité والشعور بالتفرقة العنصرية وعدم العدالة الاجتماعية لصالح الأغلبية ، مما يدفعهم أحياناً
لتفريغ هذه المشاعر في صور سلوك إجرامي وفقاً لنظرية نقل أو تحويل مسار العاطفة Déplacement de l’émotion. وقد مال فريق ثالث إلى تفسير زيادة معدل إجرام الزنوج تفسيراً بيولوجياً بالقول بأنهم منحدرين من سلالة بدائية وبأن هؤلاء بحكم تكوينهم النفسي سريعوا الانفعال وأكثر ميلاً للعدوان والعنف وتقل لديهم القدرة دواعي الحيطة والتبصر.

والحق أننا لا يمكن أن نعزي زيادة إجرام الزنوج في أمريكا إلى عامل واحد فقط ، ذلك أن هناك جملة من العوامل تقف وراء سلوكهم الإجرامي تتعلق بتكوينهم البيولوجي وسوء أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والصحية والخلل في نظام العدالة الجنائية ، ذلك الخلل النابع من سيادة التفرقة العنصرية داخل المجتمع الأمريكي بما يجعل الزنوج أكثر عرضة من البيض للقبض عليهم ، ويجعل القضاء أكثر تشدداً حيال الزنوج من حيث الاتهام والعقاب[1].

ولقد تعرض هذا الأسلوب بدوره لبعض الانتقادات منها :

أن سلامة هذا الأسلوب وصدق ما يتوصل إليه في شأن اختلاف نسبة الإجرام بين السلالات التي تعيش في دولة
واحدة يتوقف على تماثل الظروف البيئية الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية والتشريعية المحيطة بتلك السلالات. ذلك أن تنوع نسبة الإجرام مع تماثل الظروف يقف دليلاً قاطعاً على أثر السلالة على السلوك الإجرامي. والحق أنه لا تتماثل الظروف الواقعية للسلالات رغم تواجدهم في دولة واحدة وخضوعهم لتشريع جنائي واحد. ويكفي
الإشارة للظروف الاقتصادية والاجتماعية بالغة السوء التي يعيشها الزنوج داخل الولايات المتحدة الأمريكية إذا ما
قورنوا بالمواطنين من البيض.

أن المقارنة الإحصائية الدقيقة بين إجرام السلالات المختلفة التي تقيم في دولة واحدة تستوجب تحديد نسبة إجرام أبناء كل سلالة إلى مجموع أفرادها لا إلى مجموع أفراد المجتمع بأسره. والواضح أنه من المتعذر تعداد أفراد كل سلالة على حدة داخل إقليم الدولة الواحدة.

فضلاً عن قلة حالات تمتعهم بنظام البارول أو الإفراج قبل نهاية المدة جملة القول أن الانتماء إلى سلالة معينة لا يمكن أن يكون في ذاته سبباً في دفع فرد من أبناء تلك السلالة نحو الجريمة. فكل جماعة عرقية بها الصالح والطالح. غاية ما هنالك أنه قد تتوافر لدى بعض السلالات طبائع معينة تميزها وتعتبر بمثابة عامل مساعد على إجرام معين متى تفاعل مع استعداد إجرامي أو ميل فطري للإجرام وظروف اجتماعية واقتصادية محفزة.

المبحث الخامس

الــجــنــس أو الــنــوع

131- تقسيم :

تستوجب منا دراسة الجنس أو النوع كعامل إجرامي بيان أوجه الاختلاف بين إجرام الرجل وإجرام المرأة سواء من
حيث الكم أو من حيث النوع ، ثم محاولة إيجاد تفسير علمي لهذا الاختلاف[2].

المطلب الأول

الجنس والاختلاف الكمي والنوعي للإجرام

تكشف الإحصاءات الجنائية عن وجود اختلاف واضح بين إجرام الرجل وإجرام المرأة سواء من حيث كم أو نوع الإجرام. فمن الناحية الكمية ، خلصت الدراسات الإجرامية إى أن إجرام الرجل يفوق إجرام المرأة أياً ما كانت فترة القياس. ووفقاً لبعض التقديرات يبلغ إجرام الرجل عشرة أمثال إجرام المرأة ، وفي أغلب الحالات يكون خمسة أمثاله أو يزيد. كما قيل أن نسبة إجرام الرجل تبلغ ربع إلى عشر الإجرام العام في المجتمع.

وتشير بعض الإحصاءات العربية أن المرأة في الجزائر وتونس والمغرب ترتكب جريمة واحدة في مقابل
2744 جريمة يرتكبها الرجل. وتبلغ نسبة جرائم النساء في مصر حوالي 5% من مجموع الإجرام العام ، وحوالي 4% من مجموع لجنايات المرتكبة ، و6% من مجموع الجنح المرتكبة[3].

وكشفت بعض الإحصاءات في الولايات المتحدة عن أن عدد المقبوض عليهم من الرجال يبلغ 90% من المجموع الكلي للمقبوض عليهم ، وأن معدل الإيداع في السجون هي امرأة واحدة في مقابل عشرة رجال. وفي ألمانيا تبلغ نسبة إجرام النساء 16% من مجموع الإجرام العام.

وفي فرنسا أكدت الإحصاءات أن نسبة إجرام النساء لا تزيد على عشر الإجرام العام ، وأن نسبة المودعات في السجون لا تتعدى 3% من مجموع النزلاء في السجون. كما ثبت أن نسبة المحالات لمحكمة الجنايات أقل من مثيلتها لدى الرجال بحوالي اثنى عشرة مرة.

وقد جاء في الإحصاء الوارد بتقرير الأمن العام الصادر عن مصلحة الأمن العام في مصر عام1982 أن إجمالي عدد المتهمين في جنايات بلغ 2574 متهماً من الرجال والنساء ، وبلغ عدد الرجال منهم حوالي 2501 متهماً ، بينما بلغ عدد النساء حوالي 73 امرأة.

ويؤكد البعض على أن الفارق الكمي بين إجرام المرأة وإجرام الرجل يتوقف في كثير من الأحيان على عامل السن والفترة التي يجري فيها القياس والمناطق الجغرافية. فذروة الفارق الكمي بين النوعين من الإجرام تقع في العهد الأول بالإجرام ، بينما يقل الفارق مع بلوغ المرأة سن الأربعين. وأشير أيضاً إلى أن نسبة هذه الأخيرة تزيد في
فترات الحروب عنها في الفترات الأخرى ، الأمر الذي ثبت بالمقارنة بين إحصائيين أجريا في فرنسا أحدهما عام 1945 أبان الحرب العالمية الثانية (تعدت النسبة 25.2%) والآخر عام 1968 (لم تتعدى النسبة 13%). وأكدت بعض الدراسات توقف نسبة الفارق بين إجرام الرجل والمرأة على المكان. فهذا الفارق يزيد في اليابان والولايات المتحدة
عنه في بلجيكا وايطاليا.

وعلى المستوى النوعي تؤكد الإحصاءات الجنائية في مختلف الدول أن هناك نوع من الجرائم يكاد يكون حكراً على المرأة وحدها ، بما يمكننا أن نسميها “جرائم نسائية” ، ومنها جرائم الدعارة ، وقتل الأطفال حديثي الولادة ، وجرائم تعريض الأطفال للخطر ، وجرائم الإجهاض ، وزنى الزوجة.
ففي فرنسا تشير إحصاءات عام 1967 أن 70% من النساء المحكوم عليهن قد ارتكبن جرائم إجهاض ، و82% منهن ارتكبن جريمة قتل الأطفال حديثي الولادة. وهذه الأخيرة تمثل 30% من حجم الإجرام الكلي للمرأة. كذلك يغلب على المرأة إقدامها على الجرائم التي تحتاج في تنفيذها إلى ذكاء وحيلة أكثر من احتياجها لمجهود
عضلي ، كالسرقة البسيطة من المحلات التجارية وإخفاء الأشياء المسروقة والقوادة والزنا والنصب وخيانة الأمانة والجرائم المخلة بالشرف والاعتبار وشهادة الزور. كما أن جرائم القتل الواقعة من النساء يغلب في على تنفيذها طابع الحيلة ، لذا تفضل المرأة القتل بالسم عن القتل بأي وسيلة أخرى. وفي جرائم الإتلاف تفضل استخدام وسيلة الحريق أكثر من أي وسيلة أخرى.

كما لوحظ أن نسبة إجرام المرأة تقل كثيراً فيما يتعلق بالجرائم التي تتطلب العنف كالضرب والجرح والحريق العمد
والسرقات المشددة وإتلاف الأموال والجرائم المضرة بالمصلحة العامة. فهذه الجرائم بحسب الأصل “جرائم ذكرية” ، وإذا فرض وساهمت المرأة في تنفيذها فإن دورها يقف عند حد التحريض والمساعدة على ارتكابها.

المطلب الثاني

تفسير صلة الجنس بكم ونوع الإجرام

تنوعت المبررات التي قيلت من أجل تفسير اختلاف إجرام المرأة عن إجرام الرجل كما ونوعاً. ويمكننا في هذا الصدد أن نشير إلى التفسير البيولوجي النفسي وإلى التفسير الاجتماعي[4]. غير أن البعض يجادل في وجود اختلاف حقيقي – خاصة من الناحية الكمية – بين إجرام الرجل وإجرام المرأة قائلين أن الفارق بينهما فارق ظاهري بحت.

132- أولاً : ظاهرية الفارق الكمي والنوعي :

يجب أن نشير في البدء إلى أن البعض من علماء الإجرام قد عارض حقيقة اختلاف إجرام الرجل كمياً ونوعياً عن إجرام المرأة ، قائلين أن الفارق بينهما هو فارق ظاهري فقط يرجع إلى أن الإجرام الرسمي للمرأة كما تكشف عنه الإحصاءات لا يتطابق البتة مع العدد الفعلي لجرائمها.

فالإحصاءات الجنائية – كما يشير لومبروزو في مؤلفه “المرأة المجرمة والدعارة La femme criminelle et la
prostituée”[5] – لا تضم حالات البغاء التي تمارسها المرأة ، كما أن بغاء المرأة يعصمها من الوقوع في جرائم أخرى كالسرقة والنصب لما تدره هذه الآفة من عائد لا يتحصل عليه الرجال إلا بالوسائل غير المشروعة ؛ فالبغاء يبدو هكذا وكأنه البديل عن الإجرام أو هو تحويل للميول الإجرامية لدى النساء. ولو فرض وأضيفت النسبة الفعلية لهذه الجرائم إلى مجموع جرائمهن لتساوى إجرام المرأة مع إجرام الرجل وربما زاد عليه. ولسوف تتأكد لنا هذه الحقيقة إذا ما علمنا أن الدعارة ما تزال فعلاً مباحاً في العديد من الدول ، بما يظهر نسبة إجرام النساء في هذه الأخيرة أقل من مثيلتها لدى الرجال.

كما ذهب البعض في تبرير ظاهرية الفارق بين النوعين من الإجرام إلى القول بأن كثيراً من إجرام النساء يتم في الخفاء ، كالإجهاض والزنا وسرقة المعروضات ، فلا يقبض عليهن ولا تظهر هذه الجرائم في الإحصاءات الجنائية ، وذلك بعكس إجرام الرجل حيث لا يسهل عليه إخفاء الكثير مما يرتكبه من جرائم فتظهر بالتالي في الإحصاءات الجنائية. وهكذا لا تعبر الإحصاءات الجنائية بحال عن الرقم الحقيقي لإجرام المرأة.

كما دعم هذا الاتجاه رأيه بالقول بأن المرأة هي التي تقف وراء الكثير من الجرائم التي يرتكبها الرجل ، ليصدق هنا مقولة نابليون الشهيرة “ابحث عن المرأة Chercher la femme”. فقد أثبتت الدراسات الإجرامية أن المرأة تكون سببا في 40% من الجرائم الخلقية ، و20% من جرائم القتل ، و10% من جرائم السرقة. فإذا ما أضيفت هذه الجرائم إلى مجموع ما ترتكبه النساء من جرائم لاختلفت نسبة إجرام المرأة اختلافا تاماً.

كما استند البعض في تفسير ظاهرية الفارق بين نوعي الإجرام إلى القول بوجود بعض الاعتبارات العملية التي تحول دون النطق بالعقوبة تجاه المرأة. فقد يحول تودد الرجل للمرأة من تقدمه بشكوى تجاهها إذا كان مجنياً عليه ، أو تحمله مسئولية الجريمة عنها إذا شاركته في ارتكابها. كما جرى العمل في دوائر الشرطة والنيابات على التساهل مع المرأة واستفادتها كثيراً من أوامر حفظ الأوراق وألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ، بدافع التستر والحفاظ على سمعتها.

والواقع أن تلك الحجج ليست حاسمة في تفسير الفارق بين نوعي الإجرام ، ودليلنا في ذلك الآتي:

أن تعليل ظاهرية الفارق بينهما بعدم ظهور إجرام البغاء ضمن الإحصاءات الجنائية تبرير غير كافي وغير دقيق. فأما أنه غير كافي فذلك لأنه في ظل التشريعات التي تجعل من البغاء جريمة قد أثبتت الإحصاءات الجنائية انخفاض نسبة إجرام المرأة عن إجرام الرجل. وأما أنه غير دقيق فذلك لأن الدعارة لا تمثل في نظر من تمارسها بديلاً عن الميول الإجرامية ، يؤكد ذلك أنه لو حيل بين المرأة وبين ممارسة البغاء فليس من المحتم أن تقدم على ارتكاب الجرائم.

كما لا يمكن الاستناد إلى فكرة الخفاء لتبرير الفارق بين النوعين من الإجرام. فهناك جرائم نسائية تثير الفضيحة وتستدعي التستر ورغم ذلك ثبت ارتفاع معدل إحصائها والكشف عنها ، ومن ذلك جرائم القوادة وجرائم الإجهاض. هذا فضلاً عن أن الجرائم التي ترتكبها المرأة في الخفاء ليست إلا جزءً محدوداً من مجموع ما ترتكبه المرأة من
جرائم. فإذا فرض وأضيفت نسبة هذه الجرائم فليس من المحتم أن تتساوي نسبة الإجرام بين المرأة والرجل.

ولا يفلح سنداً في رأينا القول بأن المرأة هي التي تقف في الغالب وراء ما يرتكبه الرجل من جرائم ، فما دامت المرأة لم ترتكب فعلا يعد جريمة في نظر القانون فمن غير المنطقي أن تسأل المرأة عنه أو يحصى من بين جرائمها. يدعم هذا الرأي من جانبنا الاعتداد بالمفهوم القانوني للجريمة في مجال الدراسات الإجرامية.

133- ثانياً : التفسير البيولوجي النفسي :

أرجع البعض انخفاض نسبة إجرام المرأة عن إجرام الرجل إلى ما تتميز به المرأة من تكوين عضوي ونفسي يخالف
تكوين الرجل. فالبين أن قوة المرأة البدنية أقل من قوة الرجل حتى قيل أنها مخلوق ضعيف ، يجبن أن يدخل في طور التنفيذ حتى ولو كانت له ميول إجرامية. ولعل هذا ما يفسر عدم إقدامها في أغلب الأحيان على ارتكاب جرائم العنف ، مفضلة التواري وراء الجرائم البسيطة كالسب والقذف وخيانة الأمانة والجرائم التي تقع بالحيلة كالنصب والقتل بالسم.

كما أن التغيرات الفسيولوجية التي تتعرض لها الأنثى بحكم تكوينها الطبيعي ، كالدورة الشهرية والحمل والولادة والنفاس والإرضاع ، تؤثر على حالتها النفسية تأثيراً قد يدفعها إلى السقوط في سبيل الجريمة. فهذه التغيرات يصاحبها في العادة حدة في الميول الأنانية والعدوانية واضطرابات عصبية وتقلبات مزاجية ، الأمر الذي يسهل
استجابتها للمؤثرات الخارجية فتندفع إلى ارتكاب أفعال بعضها قد يكون مفاجئ كالانتحار والإجهاض وقتل الطفل الوليد. ولعل أخطر المراحل الفسيولوجية تأثيراً على المرأة هي مرحلة بلوغ سن اليأس التي قد يصاحبها اضطراب في الجهاز العصبي المركزي ، يؤثر بدورة على المكونات النفسية للمرأة ويزيد لديها من نوبات القلق والخوف والاكتئاب والشذوذ الجنسي والغريزي.

وقد أثبتت الإحصاءات الإنجليزية أن %41 من النساء المتهمات قد ارتكبن جرائمهن في فترة الحيض. كما كشفت بعض الإحصاءات في فرنسا عن أن %63  من النساء المتهمات في جرائم سرقة المتاجر قد ارتكبن أفعالهن
في أثناء الحيض.

غير أن التبرير البيولوجي والنفسي قد تعرض للعديد من أوجه النقد ، نذكر من بينها :

أن الأبحاث قد أثبتت عدم صحة الرأي القائل بأن المرأة مخلوق ضعيف بدنياً من الرجل. فمتوسط عمر المرأة أطول من متوسط عمر الرجل ؛ وأن مقاومتها للأمراض والأوبئة تفوق مقاومة الرجل ؛ وأن الأجنة من الإناث أقل تعرضا
للإجهاض من الأجنة الذكور ؛ كما أن نسبة الوفاة بين المواليد الذكور أعلى منها بين الإناث. كما قيل أن الجهاز العصبي لدى المرأة أقوى منه لدى الرجل ، يدعم ذلك كشف الصحافة في الآونة الأخيرة عن وقائع قتل الزوجات لأزواجهن وتقطيعهم والإلقاء بجثثهم في أماكن متفرقة.


-أنه إذا صدق القول بأن الضعف البدني هو السبب في انخفاض نسبة إجرام المرأة عن نسبة إجرام الرجل لتوجب أن يقتصر الانخفاض على جرائم العنف التي يحتاج تنفيذها إلى مجهود عضلي. بيد أن الإحصاءات تؤكد أن جرائم المرأة تقل في مجموعها عن جرائم الرجل في أغلب أنواع الجرائم ، ما احتاج منها إلى قوة بدنية وما لا يحتاج إلى ذلك.

أنه حتى لو سلمنا بأن ضعف المرأة هو السبب في نقص حجم إجرامها ، فإن الضعف لا يمكن له أن يبرر الفارق الكبير بين نسبة إجرام كل منهما. فإذا صح ما قاله كتليه بأن قوة المرأة تعادل نصف قوة الرجل ، لوجب منطقياً أن يبلغ حجم إجرام المرأة نصف حجم إجرام الرجل ، وهو قول تكذبه الإحصاءات التي أثبتت أن إجرام الرجل يبلغ من خمسة إلى عشرة أمثال إجرام المرأة ، مما يؤكد أن التفاوت البدني ليس وحده الذي يقف وراء التفاوت في كم ونوع الإجرام بينهما.

134- ثالثاً : التفسير الاجتماعي :

مال البعض إلى إرجاع اختلاف إجرام المرأة عن إجرام الرجل إلى تباين المركز الاجتماعي لكل منهما أو الدور الذي
يلعبه كل منهما في المجتمع.ويدعم هذا الجانب رأيه بالنتائج الإحصائية التي أثبتت تفاوت نسبة إجرام المرأة عن نسبة إجرام الرجل من دولة لأخرى ومن جماعة لأخرى. وأن النسبتان تميلان للتساوي كلما تقارب المركز والدور الاجتماعي لكل من الرجل والمرأة. يؤكد ذلك تقارب النسبتان في المدن بالمقارنة بالريف ، وفي الدول المتقدمة التي تسودها أفكار التحرر مقارنة بالدول الآخذة في النمو ، وفي المجتمعات الصناعية بالمقارنة بالمجتمعات الزراعية.

ويؤكد صحة هذا التفسير أيضاً أن نسبة إجرام المرأة تزيد في أوقات الحروب ، وذلك لاضطرار المرأة إلى النزول إلى معترك الحياة والقيام بور اجتماعي أكبر لانصراف الرجال للقتال.

فضلاً عن أن بعض الدراسات قد أثبتت أن نسبة إجرام الإناث الذين ينتمون إلى عائلات متصدعة تزيد عن نسبة إجرام الذكور الذين ينتمون لعائلات من ذات النوع ، مما يؤكد بأن المرأة أكثر تأثرا بالظروف والعوامل الاجتماعية إذا ما قورنت بالرجل.

وقد أرجع البعض داخل التيار الاجتماعي اختلاف نسبة الإجرام بين المرأة والرجل إلى اختلاف طريقة التربية والإعداد التي يتلقاها منذ الصغر كل من الأولاد والبنات. فأصول التربية في مجتمعاتنا الشرقية تنمي لدى الفتاه عقيدة الكنف ، والتي مؤداها أن المرأة مكفولة في كافة مراحلها العمرية من الآخرين من الذكور. كما تفرض قواعد
التربية والأصول الاجتماعية على البنات أن يكن دمثات الخلق هادئات الطبع .

عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

المبحث السادس

الأمـــــــــراض

135- تقسيم :

تدل الكثير من البحوث والإحصاءات عن وجود صلة بين الأمراض أياً كان نوعها وبين السلوك الإجرامي. ولإبراز
الأثر الذي يحدثه المرض على السلوك العام للفرد – ومنه السلوك الإجرامي – يجدر بنا أن نستعرض بالدراسة على التوالي أهم الأنماط المرضية التي قد تقف عاملاً وراء السلوك الإجرامي ، ومنها على وجه الخصوص الأمراض العقلية والعصبية والنفسية[1].

المطلب الأول

الأمــراض الــعــقــلــيــة

يقصد بالمرض العقلي إصابة المخ بعاهة تؤثر على الملكات الذهنية للإنسان وجانب الإدراك من شخصيته. وهذه
الإصابة قد تصحب الفرد منذ ولادته ، وقد ترجع إلى عارض نال مادة المخ في فترة لاحقه ، نتيجة امتصاص الجسم لمواد ضارة ناشئة عن الجسم ذاته مع عجزه عن التخلص ، أو عن تناول مواد ضارة كالعقاقير المخدرة والمواد الكحولية.

وتتنوع صور المرض العقلي التي قد تؤثر في السلوك الإجرامي للمريض ، ويمكننا أن نذكر منها : الجنون ، الفصام العقلي المعروف باسم الشيزوفرينيا ، وجنون العقائد الوهمية أو هذيان التفسير المسمى البارانويا ، والذهان الدوري أو ما يسمى بجنون الهوس والاكتئاب.

فالجنون Démence هو اعتلال الملكات الذهنية بحيث تختل الذاكرة ويقل الانتباه ويسوء الحكم على الأمور
وتعجز الإرادة عن ضبط الميول والغرائز. وقد يكون هذا الجنون مطبقاً Démence généralisée (في حالة المجنون المجرم) إذا ما اتخذ طابع الاستمرار وطال كل الملكات الذهنية للفرد ؛ وقد يكون متقطعاً Démence périodique ، إذا اتخذ شكل نوبات يفصل بينها فترات إفاقة. والجنون بصورته الأولى يعد مانعاً في كل التشريعات الجنائية للمسئولية الجنائية يحول دون توقيع العقوبات ويوجب العزل في أماكن علاجية كتدبير احترازي ؛ أما في الصورة الثانية فالمسئولية عن الجريمة تتوقف على ما إذا كانت هذه قد ارتكبت حال الإفاقة أم حال النوبة. فإن ارتكبها في حال الإفاقة صار مجرماً مجنوناً تنعقد مسئوليته الجنائية كاملةً.

وهناك ما يسمى بجنون الدوافع الشاذة الذي ينال من حرية الإرادة دون فقد القدرة على التميز. فالمريض به يأتي أفعالاً شاذة يدركها ويعيها ولكن تنعدم قدرته على كبح غرائزه حيالها. ومن قبيل ذلك جنون السرقة Kleptomanie ، التي قد لا يبررها الحاجة للمال إذ قد تقع من قبل الأثرياء. وهناك جنون الحريق Pyromanie ، الذي يستهوي المريض به مشهد النيران وهي تلتهم أموال الغير ، وجنون لكذب Folie de mensonge المتمثل في الميل الدائم لتغيير الحقيقة.

وهناك ما يعرف بجنون الشيخوخة (الخرف) الذي يبدأ عادة في الظهور بعد بلوغ السبعين من العمر والناجم عن ضمور المخ وتصلب الشرايين. ويتميز بوجود اضطراب في الذاكرة مصحوباً بهذيان وتقلص القدرة على الفهم والتقدير الصبياني للأمور والنقص العاطفي. وأغلب الجرائم لدى المصاب بهذا المرض هي الحريق والسرقات التافهة من المحال التجارية والاعتداءات الجنسية على الأطفال.

وفيما يتصل بالفصام العقلي أو الشيزوفرينيا Schizophrénie فهو مرض ينتشر بين الشباب في الفترة من سن
الثامنة عشرة والخامسة والعشرين ، لذا يسميه البعض “الجنون المبكر”. ومن بين أعراضه اختلال التفكير وبلادة الشعور وبرود الانفعالات. وعادة ما يكون المرض مصحوباً بهذيان أو هلاوس Hallucinations سمعية أو بصرية فيتخيل المصاب به سماع أصوات أو رؤية أشياء أو أشخاص لا وجود لها في دنيا الواقع ، أو يتخيل أن هناك من يضطهده أو يتتبعه. وهذه الأعراض المرضية قد تدفع الشخص المصاب إلى ارتكاب أفعال تتسم بالعنف وبعدم التفكير والتبصر ضد من يعتقد أنه يضطهده أو يتآمر عليه نظرا لإيمانه بمعتقدات وهمية.

ومن أخطر حالات الشيزوفرينيا صور انفصام الشخصية Dédoublement de la personnalité حين يعايش المريض شخصيتان من حيث الواقع ولا يذكر أفعال أحدهما حينما يتقمص الأخرى.

أما جنون العقائد الوهمية أو هذيان التفسير أو البارانويا Paranoïa فعادة ما يصيب الإنسان في منتصف العمر بين
25 و40 سنة. ومن أعراضه أن المصاب به تسيطر عليه أفكار معينة ومعتقدات خاطئة بحيث يستحيل عليه التخلص منها. وتتنوع صور هذا المرض تبعاً لطبيعة هذه المعتقدات الخاطئة ، فهناك بارانويا الاضطهاد حين يسيطر على المريض الشعور بأنه مضطهد من الغير ، وهناك بارانويا العظمة الناشئة عن شعور المريض بأنه أحد العظماء أو الشخصيات التاريخية الهامة. وهناك أخيراً بارانويا الغيرة التى تولد في المريض شعوراً بالأنانية والاستئثار تجعله
يغار بشدة على من يحب أو يتحمس ويتعصب بشدة لموضوع ما. فكثيراً ما يعتقد المريض بهذا النوع الأخير من البارانويا بأنه من حماة العدالة والقانون فيندفعون بهذه الصفة إلى ارتكاب أخطر الجرائم.

ونلحظ هكذا اختلاف هذا المرض عن الفصام العقلي ، إذ أن المريض به لا ينعزل عن الواقع بل يظل محتفظاً بذاكرته ومكونات شخصيته ولا يخضع للهلاوس البصرية أو السمعية. فكل ما هنالك أنه يعيش بمعتقدات خاطئة يفسر على أساسها كل الوقائع التي يصادفها في حياته اليومية.

أما الذهان الدوري Dysthymie فيتمثل في نوبات مرضية متناقضة فيما بينها ، يتأرجح خلالها المريض بين الهوس والاكتئاب. ويتمثل الهوس Manie في شعور المريض بالفرح والنشوة والزهو دون سبب ، مصحوباً هذا الشعور بالضحك والثرثرة دون مراعاة الآداب العامة. وخلال هذه النوبة ينتاب المريض حالة من الهياج الشديد والإثارة تجعله مندفعاً وغضوباً ويقل لديه الضمي الأخلاقي ويختل تكفيره وذاكرته فيندفع إلى ارتكاب أفعال العنف أو أفعال
الاعتداء على العرض وجرائم القتل والسب القذف.

ويعقب هذه الحالة من الهوس حالة اكتئاب سوداوية Sentiment de frustration تعرف بالميلانخوليا Mélancolie يتميز المريض بها – خاصة في فترات الصباح الباكر – بالتشاؤم والقلق والحزن الشديد المبهم وغير المبرر. كما ينتابه حالة تشتت فكري وشعور بالقهر والإهمال من الغير ، وشعور دائم بالذنب والعار وعدم القدرة على التفسير الصحيح للأمور ، مما قد يدفعه إلى الاعتداء على أقرب المحيطين به ، أو الانتحار تخلصا من حالة الشعور الكاذب بالذنب التي تسيطر عليه.

المطلب الثاني

الأمـــراض الــعــصــبــيــة

الأمراض العصبية تشمل كل خلل يصيب الجهاز العصبي للإنسان تجعله غير قادر على ضبط انفعالاته وتوجيه أعضاء جسمه على النحو الطبيعي والمألوف. ويعد لومبروزو هو أول من أشار إلى صلة هذا النوع من الأمراض بالسلوك الإجرامي حينما أشار عام 1897 في الطبعة الثانية من مؤلفه “الإنسان المجرم” إلى حالة المجرم الصرعي.

ويمكن تقسيم الأمراض العصبية إلى خمسة أنواع تشمل الصرع ، والهستريا ، والنورستانيا ، واليقظة النومية ، وعصاب القلق. ويظهر الصرع Épilepsie عادة في صورة تعاقب نوبات تشنجية يفقد خلالها المريض الوعي الكامل وينتابه تصلب في عضلات الجسم. وقد تقصر النوبة الصرعية ، وتسمى حينئذ بالنوبة الصغرى ، وقد تطول فتسمى بالنوبة الكبرى. وقد لا يصاحب الصرع أية نوبات تشنجية وإنما تظهر الأعراض الصرعية في صورة هوس حاد Psychose aigue فيصاب المريض باضطراب في وعيه وشعوره وبصعوبة التفكير والإدراك ويكون عرضة لشرود الذهن والميل العدواني وسهولة الانقياد وحدة الطبع والأنانية المفرطة والهذيان ورؤية أشياء لا وجود لها في الواقع أو سماع أصوات كاذبة وضعف القدرة على التحكم في العاطفة أو الميول الغريزية. وقد يصاب المريض بحالة المشي أثناء النوم Somnambulisme ، فيندفع لارتكاب أفعال انتهاك حرمة ملك الغير وهتك العرض والشروع في القتل. وعادة ما لا يتذكر المريض ارتكابه لأفعال إجرامية بعد إفاقته من النوبة الصرعية.

وتتوقف المسئولية الجنائية لمريض الصرع على ما إذا كان قد ارتكب جريمته حال النوبة الصرعية فتنعدم مسئوليته الجنائية ، أم حال الإفاقة بين النوبات فيسأل جنائياً على أساس توافر ملكتي الإدراك والتمييز.

أما الهستريا Hystérie فهي عبارة عن اختلال في ردود الأفعال إزاء مواقف أو ظروف معينة نتيجة اضطراب في العواطف والميول. وعادة ما لا يفقد المريض بالهستريا ملكة التميز ولكن ينال المرض فقط من حرية الاختيار فيندفع المصاب بلا إرادة نحو ارتكاب الجريمة.

وللهستريا أشكال متنوعة : فقد تتخذ الهستريا صورة سكون وهدوء شديد يبدو معها المريض وكأنه لا يحس بما يدور حوله فلا يتحرك ولا يرد على أحد. وقد تأخذ النوبة الهستيرية صورة نوبة تشنجية شبيهة بتلك التي تحدث أثناء الصرع ، أو صورة بكاء مفرط أو ضحك مفاجئ وغير مبرر. وتظل الهستريا التسلطية أخطر أنواع الهستريا على الإطلاق ، وفيها تسيطر على المريض فكرة وهمية تدفعه إلى أفعال إجرامية ولو تجاه الأعزاء لديه.

بينما تتحصل النورستانيا Neurasthénie في شعور المريض بانحطاط في قواه البدنية مصحوباً باضطرابات معوية وأوجاع في الظهر والكتف ، فضلاً عن شعوره بالتشاؤم والاكتئاب وشدة حساسيته نحو المؤثرات الخارجية كالصوت
والضوء ، فيندفع إلى الجريمة نتيجة عدم قدرة الجهاز العصبي على السيطرة على أعضاء جسمه وردود أفعاله. وقد أرجع فرويد هذا الشعور إلى الإفراط الجنسي.

أما اليقظة النومية Somnambulisme فهي إتيان تصرفات أثناء النوم يعبر بها عما يجول بخاطره حيال المواقف اليومية. وعادة لا يتذكر الشخص ما يرتكبه من أفعال إجرامية بعد الاستيقاظ ، لذا فهذا المرض يفقد الإرادة وحرية
الاختيار ويعد مانعاً من موانع المسئولية الجنائية.

ويتحصل عصاب القلق Névrose
d’angoisse – أو ما يسمى الخوف المرضي Phobie – في الشعور بعدم الاستقرار وسيطرة المخاوف على الشخص فتحول بينه وبين التصرف على نحو طبيعي. ومثاله الخوف من الأماكن المرتفعة أو الخوف من الأماكن المغلقة أو المفتوحة.

المطلب الثالث

الأمراض النفسية

المرض النفسي هو كل خلل يصيب التكوين النفسي والغريزى والعاطفي للشخص فيدفعه إلى الانحراف بميوله ورغباته عن نشاطها الطبيعي المألوف وإلى عدم التكيف مع القيم الأخلاقية والاجتماعية السائدة.

ولعل المرض المعروف بالسيكوباتية Psychopathie يظل أشهر الأمراض النفسية على الإطلاق وأكثرها غموضاً في الدراسات الإجرامية ، حتى أنه قيل بأنه ينبغي النفوذ إلى عقل الباحث لا إلى عقل المجرم لتحديد مظاهر الشخصية السيكوباتية. فالسيكوباتية وفقاً لباحث قد لا تكون بذاتها سيكوباتية من منظور باحث آخر. بل أن غموض هذا المصطلح قد دفع البعض إلى استبداله بتعبيرات أخرى كتعبير الشذوذ أو المرض الاجتماعي Sociopathe.

وبصفة عامة فإن السيكوباتية أو الشخصية الشاذة تعني اضطرابا يعتري الشخصية الإنسانية في بعض العناصر المكونة لها ، يجعل الشخص السيكوباتي يقف موقف العداء أو عدم الاكتراث من القيم والنظم السائدة في المجتمع فيندفع إلى ارتكاب الجرائم رغم النصح والتهديد بالعقاب. فهي نوع من التخلف النفسي أو الجنون الخلقي Folie morale.

وللشخصية السيكوباتية أنماط متنوعة : فهناك السيكوباتي ضعيف الإرادة Psychopathe passif ، الذي يتميز
بسهولة الانقياد إلى الغير وسرعة الاستجابة للغرائز والمؤثرات الخارجية ، والعجز عن الخلق والتفكير. وعادة ما لا يقدم هذا النوع على ارتكاب الجريمة وحده بل عادة ما يشاركه آخرين ويقف دوره عند حد المساهمة التبعية في الجريمة. وغالباً ما تكون جرائم هذا النمط الهلامي الشخصية من النوع البسيط والتي يقف ورائها دوافع
تافهة. وهناك أيضاً السيكوباتي سريع الانفعال Psychopathe agressif، الذي يتصف بسهولة الاستفزاز وسرعة
الانفعال ، والتجاوز في ردود الأفعال ، والمبالغة في تأويل نوايا الغير وإساءة الظن بهم على نحو يتصور فيه مساسا بكرامته. وغالباً ما تتوقف جرائم هذا النوع عند حد السب والقذف والإتلاف والإيذاء البدني.

ومن سمات الشخص السيكوباتي أيضاً تقلب المزاج والشعور بعدم الاستقرار النفسي والمهني والعائلي ، وسرعة الانتقال من حالة النشاط إلى حالة الخمول ومن الانتشاء إلى الاكتئاب. وهذا التقلب في المزاج يدفعهم إلى انتهاك القوانين والتمرد عليها بارتكاب جرائم دون مبرر أو دافع ظاهر ، كالسرقة والدعارة وإدمان المخدرات والخمور والتسول والتشرد.

وأبرزت الدراسات وجود نمط السيكوباتي متبلد المشاعر Psychopathe non émotif الذي يتميز بالقسوة وجمود العواطف والأنانية المفرطة وحب الذات وعدم الاهتمام بمشاعر الآخرين.. وتتسم جرائم هذا النوع بالقسوة والعنف رغم تفاهة الأسباب التي تقف ورائها ، ومنها القتل وهتك العرض بالقوة أو بالتهديد والاغتصاب والسرقة بالإكراه والحريق العمدي.

وهناك نمط الشخص السيكوباتي المتشكك Psychopathe douteur ، وغالباً ما يميل أفراد هذا النمط إلى التخوف من العلاقات الاجتماعية ، فنجدهم منكفئين على أنفسهم ولا يتجاوبون مع الناس ولا يشاطرونهم أحزانهم وأفراحهم. وهكذا تقل أمام هؤلاء فرص ارتكاب الجرائم ، في حين تتسلط عليهم الرغبة في الانتحار
للتخلص من عزلتهم[2].

وآيا ما كان نمط الشخصية السيكوباتية فإن هذا المرض النفسي لا يعد مانعاً من موانع المسئولية الجنائية ، ذلك أن الشخص السيكوباتي يحتفظ بجميع ملكاته العقلية ولديه كامل الحرية في الاختيار.

المبحث السابع

إدمان الخمور والمخدرات

136-تمهيد تقسيم :

في الواقع أنه لم ينل عامل إجرامي إجماع العلماء على صلته أو تهيئته للسلوك الإجرامي قدر ما نال إدمان الخمر والمخدرات[3]. ويحسن لإيضاح الصلة الكمية والنوعية بين هذا العامل وبين الظاهرة الإجرامية أن نبين صلة
الخمور ثم صلة المخدرات بالسلوك الإجرامي ، على أن تقتصر الدراسة فقط على تحليل الدور الذي يمكن أن يلعبه الإدمان عليهما في تهيئة سبيل الجريمة (إجرام السكر والمخدرات) دون التطرق لمعالجة تناول الخمر أو المخدرات كجرائم في ذاتها (جرائم السكر والمخدرات).

فمن المعلوم أن تناول الخمر أو تقديمه قد يكون جريمة في بعض التشريعات ، وقد يكون ذلك جريمة إذا تم في ظروف معينة. فالمشرع المصري يعاقب كل من يوجد في حالة سكر في الطرق العمومية أو في المحلات العامة (م. 385 عقوبات)[4] ،
ويعاقب كل من خالف شروط بيعها[5]. كما يشدد المشرع العقاب على القتل الخطأ والإصابة الخطأ إذا وقعا والشخص تحت تأثير السكر (المادتان 238/2 ، و244/2 عقوبات).

كما أن التشريعات الجنائية ، ومنها المشرع المصري بالقانون 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها ، تعاقب على الكثير من صور الاتصال بالمواد المخدرة ، سواء اتخذ ذلك صورة الجلب أو التصدير أو الإحراز أو الشراء أو البيع أو التعاطي. وعادة ما يلحق التجريم كل أنواع المخدرات التي يحصرها المشرع –وهو الحال بالنسبة للمشرع المصري – في صور جدول ملحق بقانون مكافحة المخدرات[6].

defaultرد: عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

المطلب الأول

إدمان الخمور كعامل إجرامي

ترتبط الخمر ارتباطاً وثيقاً بالسلوك الإجرامي. فقد دلت الإحصاءات في فرنسا على أن إدمان الخمور يقف وراء 66% من جرائم الأشخاص و56.6% من الجرائم الماسة بالعرض. كما دلت الدراسات على أن المدمنين يمثلون 53% من المحكوم عليهم في جرائم القتل ، و76% من مجموع المحكوم عليهم في جرائم الاعتداء على الموظفين العموميين. وتصل النسبة إلى 70% في جرائم الضرب والجرح ، و80% في جرائم التسول والتشرد. وتشير دراسة لمركز Frèsnes بفرنسا أن 85% من جرائم القتل ، و74.5% من جرائم الضرب والجرح ، و65 من جرائم الاغتصاب ، و45% من جرائم الحريق قد ارتكبت تحت تأثير الخمر.

وتتعدد جوانب تفسير الصلة بين إدمان الكحول والظاهرة الإجرامية. فقد يرجع ذلك لما للخمر من تأثير على التكوين العضوي والنفسي للشخص. فتناول المسكرات يحدث هياجاً في الانفعالات ويثير الدوافع الغريزية وينال من القدرات الذهنية ويساعد على الإصابة بكثير من الأمراض والعقلية والنفسية والعصبية ، الأمر الذي يضعف من قدرة السكير على التحكم في أفعاله ويجعله أكثر جرأة وإقداماً على ارتكاب الجرائم ، خاصة التي تتصف بالعنف كالقتل وجرائم الاعتداء على العرض وجرائم الحريق. كما لوحظ أن كثيراً من الأشخاص يشعرون تحت تأثير
الخمر برغبة عارمة في مشاهدة الدماء والرغبة في الشجار والعدوان.

وقد تنبني الصلة على أسس اجتماعية واقتصادية. فلا شك أن الخمر كما تنال من التكوين العضوي والنفسي للفرد تنال أيضاً من الحالة الاجتماعية للمدمن وأسرته. فنتيجة لإدمان الخمر يهمل الفرد أعباءه العائلية نحو زوجته وأولاده ، فيسود التفكك الأسري ويفتقد الأولاد منذ طفولتهم إلى التهذيب والتربية السليمة ، فتندفع الأسرة عضواً بعد عضو في تيار الجريمة. وقد دلت الإحصاءات بفرنسا على أن 95% من الآباء من مرتكبي جريمة هجر العائلة وإساءة معاملة الأطفال كانوا من متعاطي الكحول.

كما أن المدمن غالبا ما ينفق الجانب الأكبر من دخله على الخمر ، مما يتعذر عليه الحصول على المال اللازم لرعاية أسرته والإنفاق عليها ، فيندفع في سبيل إشباعها إلى الإجرام. كما أن إدمانه على الخمر يؤثر على طاقته الإنتاجية في العمل فيسوء إنتاجه ، وغالبا ما يفقد عمله بسبب عدم انتظامه فيه فيتعرض بذلك للبطالة أو التشرد. لذا فكثيراً ما يقدم السكير المدمن على ارتكاب جرائم الاعتداء على الأموال كالسرقة والنصب وجرائم التشرد والتسول.

وقد تكون الصلة بين الخمر والجريمة صلة مرتدة ، وذلك حين لا تنال فقط من قدرات وملكات متعاطيها وإنما تطول أيضاً ذريته. فقد أثبتت الدراسات أن الأجنة تتأثر حال تكوينها بحالة الإدمان التي يكون عليها أحد الأبوين أو كليهما وقت الاتصال الجنسي ، مما يعرضها للإصابة بتشوهات عضوية ونفسية وعصبية تلازمها من بعد ميلادها وقد تدفعها إلى ارتكاب الجريمة يوماً ما. كما لوحظ أن الإدمان على الخمر يؤدي إلى ارتفاع نسبة الكحول في الدم ، وهي خصيصة بيولوجية تنتقل إلى الخلف بطريق الوراثة ، فيميلون بدورهم إلى شرب الخمر والإدمان عليه ويكون بالتالي أكثر عرضة من غيرهم لسلوك سبيل الجريمة.

المطلب الثاني

إدمان المخدرات كعامل إجرامي

لإدمان المخدرات صلة غير منكورة بالظاهرة الإجرامية. وقد تفسر هذه الصلة بما للمخدرات من تأثير على التكوين
العضوي والنفسي للفرد. فهناك أنواع من العقاقير المخدرة مثل الكوكايين Cocaïne والحشيش Cannabis والهروين Héroïne والأمفيتامين Amphétamines قد تسبب اضطرابات عضوية ونفسية وعصبية للفرد ، فتورث من يتعاطاها روح العنف والمغامرة وتوقظ الميول الفطرية والغرائز ، مصحوباً كل هذا بنوبات هذيان وغضب عنيف وانحطاط أخلاقي وأحياناً تخلف عقلي ناشئ عن طول فترات الاستيقاظ. كما أن بعض الأنواع الأخرى مثل الأفيون Opium والمورفين Morphine قد تسبب الخمول وركود الملكات الذهنية وتنمي روح الاستهانة وعدم الاكتراث بالآخرين ، وتدخل من يتناولها في نوبات عصبية وتشنجية إذا قلت نسبة المخدر في الجسم ، الأمر الذي قد
يدفع المدمن إلى ارتكاب الجرائم تلمساً للمخدر.

وقد تجد الصلة بين إدمان المخدرات والسلوك الإجرامي تفسيرها فيما لتناول المخدرات من تأثير على الجانب الاجتماعي للفرد. فالفرد من أجل تعاطيه المخدر قد يرتاد أماكن تضم خليطاً من كافة الطبقات ، وعادة ما يكون من بينهم عتاة المجرمين والخارجين على القانون ، مما يسهل انتقال عدوى الجريمة إليه.

كما أن التصدع الأسري هو المآل لحياة المدمن الزوجية ؛ إذ يكون دائم النزاع مع زوجته وأولاده ، مهملاً ما تفرضه عليه حياة الأسرة من مسئوليات. وعادة ما يطول الانهيار ذريته التي افتقدت النصح والإرشاد وصارت عرضة للانجراف في تيار الانحراف والإجرام نتيجة المثل السيئ الذي يضربه الأب المدمن لأولاده.

ولسنا هنا في حاجة إلى التنبيه إلى ما يؤدي إليه إدمان المخدرات من تدهور في المستوى المالي للمدمن. فعادة لا يقدر المدمن على مواصلة حياته المهنية بذات الكفاءة فيتعرض للبطالة وينعدم دخله ، الأمر الذي قد يدفعه للارتكاب جرائم الأموال من أجل توفير المال اللازم للحصول على المخدر.

على أنه تجب الإشارة في النهاية أن الرابط ليس حتمياً أو مباشراً بين السكر والمخدرات وبين الظاهرة الإجرامية ؛ ذلك أن الأمر يتوقف على وجود استعداد إجرامي سابق وكامن في أعماق الشخصية. فقد ثبت من إحصاء أجراه مركز Vaucresson الفرنسي أن من بين 500 شاب مجرم لم يكن من بينهم سوى 2% ممن ارتكبوا جرائمهم في حالة سكر. وهكذا لا يصبح إدمان الكحول أو المخدرات بذاته عاملاً إجرامياً وإنما هو مجرد مهيأ للسلوك الإجرامي
يوقظ الميل الإجرامي من غفوته ويثير الدوافع الغريزية. ولعل هذا الميل هو الذي يفسر لنا علة عدم ارتكاب الكثير من المدمنين لأية أفعال إجرامية وهم تحت تأثير الكحول أو المخدر.

الفصل الثاني

العوامل الخارجية للظاهرة الإجرامية

137- تعريف وتقسيم:

سبق وأن قلنا أن الظاهرة الإجرامية هي نتاج اجتماع نوعين من العوامل بعضها فردي يتصل بشخص المجرم ، وبعضها خارجي أو اجتماعي يتصل ببيئة هذا الأخير. وهكذا فإنه يقصد بالعوامل الاجتماعية للظاهرة الإجرامية مجمل الظروف التى ترتبط بالبيئة المحيطة بالمجرم ويمكن أن تؤثر فى تكوينه وتوجه نشاطه نحو السلوك الإجرامي.

ويبين من ذلك أن الدراسات الإجرامية لا تعنى بكل ما يحيط بالفرد فى بيئته من ظروف فهى كثيرة ومتنوعة ،
بل تعنى فقط بتلك التى عساها أن تكون ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بالظاهرة الإجرامية. فالبيئة فكرة نسبية تختلف من شخص لأخر بحيث يمكننا القول بأن لكل شخص بيئته الخاصة ، كما تختلف عند الفرد الواحد من
مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى ومن محيط جماعي إلى محيط آخر.

ولابد من التأكيد مسبقاً على أن المبدأ بشأن العوامل الخارجية هو تكاملها ، بحيث تعزى الجريمة في النهاية لتفاعل وتضافر أكثر من عامل. فلا يمكن لعامل ما أن يباشر تأثيره الدائم على الشخص ، فهذا التأثير تخف أو تزداد حدة تأثيره تبعاً لتغير العوامل الإجرامية الأخرى.

وتنقسم العوامل الخارجية إلى نوعين : فهناك العوامل العامة التي تباشر تأثيرها على الفرد والجماعة ، ومنها العوامل الطبيعية والاقتصادية والسياسية والحضارية ؛ وهناك العوامل الخاصة التي تؤثر على الفرد بذاته ، ومنها ما يتصل بحياته العائلية أو المهنية أو مستواه الاقتصادي أو التعليمي. والواقع أنه لا يمكن الفصل بين تلك
العوامل ، فقد ينقلب العامل الخاص إلى عامل عام إذا باشر تأثيراً على المحيطين بالمجرم ذاته. وهكذا فإننا سوف ندرس تلك العوامل دون انتهاج للتقسيم السابق.

ومن جانبنا فإننا سوف نتخير من بين مجمل العوامل الخارجية أهمها ، وهي على التوالي : العوامل الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. ولكل عامل من تلك العوامل سوف نفرد مبحثاً.

المبحث الأول

الــعــوامــل الــطـــبــيــعــيــة

138- تقسيم :

يقصد بالعوامل الطبيعية مجمل الظروف الجغرافية المتصلة بقوى الطبيعة وظواهرها من طقس وحرارة وأمطار ورياح وطبيعة تربة في منطقة معينة. ويمكن تقسيم هذه العوامل من حيث صلتها بالظاهرة الإجرامية إلى ثلاثة
أقسام : عوامل المناخ ، والعوامل الطبوغرافية ، والعوامل الديموغرافية .

المطلب الأول

الـمنـاخ والـسلـوك الإجرامـي

139- تقسيم :

كشفت العديد من الدراسات الإحصائية في كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا عن وجود صلة بين العوامل المناخية وبين حجم الظاهرة الإجرامية ونوعها[1]. وأهم العوامل المناخية التى يمكن أن يكون لها هذه الصلة درجة حرارة الجو واختلافها من بلدان الشمال عن بلدان الجنوب أو بتعاقب فصول السنة في البلد الواحد. وعليه فسوف نحاول أن نعرض لطرق قياس تأثير درجة حرارة الجو على السلوك الإجرامي ، ثم نبين ما قيل من تفسيرات حول تلك الصلة.

140-أولاً : طرق دراسة تأثير درجة الحرارة على السلوك الإجرامي :

للكشف عن صلة درجة حرارة الجو بالظاهرة الإجرامية اتبعت الدراسات أحد أسلوبين : إما المقارنة بين إجرام الشمال والجنوب في الدولة الواحدة ، وإما المقارنة بين إجرام الشمال والجنوب في البلد الواحد ولكن طوال فصول السنة.

141- أ : المقارنة بين إجرام الشمال والجنوب في الدولة الواحدة :

من الملاحظ أن درجة حرارة الجو تنخفض عادة فى شمال البلاد عن جنوبها في البلد الواحد ، وأن الظاهرة الإجرامية تختلف فى حجمها وفى نوعها من الشمال عن الجنوب ، من هنا ربط البعض بين درجة الحرارة وبين السلوك الإجرامي. وقد أشار إلى هذا مونتيسكيو فى كتابة الشهير روح القوانين De l’esprit des lois مقرراً أن عدد الجرائم يتزايد تدريجياً كلما اقتربنا من خط الاستواء. وقد سبق أن أوضحنا أن العالم الفرنسى جيرى ، أحد أنصار المدرسة الجغرافية أو الخرائطية ، استخلص من الإحصائيات الفرنسية بين عام 1825 و1830 ارتفاع معدل وقوع جرائم الأشخاص فى الجنوب (100 جريمة مقابل 48.8 من جريمة أموال) ، وارتفاع معدل وقوع جرائم الاعتداء
على الأموال فى الشمال Infractions contre les
biens (181.5 جريمة مقابل 100 جريمة أشخاص)[2]. كما أوضحنا من قبل أن العالم البلجيكى كتيليه قد خلص من دراسته الإحصائية إلى نتائج قريبة من ذلك وصاغ قانونه الشهير المعروف باسم قانون الحرارة الإجرامي Loi thermique
de la délinquance.

والواقع أنه يساورنا الشك في دقة هذه النتائج خاصة مع تطور كثافة السكان وحركتهم من إقليم للأخر. فدرجة الحرارة ليست هى وحدها التى تميز شمال البلاد عن جنوبه ، فقد تتوافر بينهما مظاهر اختلاف أخرى كثيرة تتصل بالعادات والمعتقدات وازدهار الصناعة والتقدم الحضاري ، تسهم بدورها فى زيادة أو انخفاض حجم الإجرام ونوعه. كما أن الفقيه لوييته Léauté قد انتهى في بعض دراساته إلى خطأ قانون الحرارة الإجرامي وأن جرائم العنف قد ثبت ارتفاعها في مناطق فرنسا الشمالية بنسبة أكبر من جرائم الأموال. من هنا وجب على الباحث أن يستعين بأسلوب المقارنة بين إجرام الشمال والجنوب داخل الدولة الواحدة ولكن على مدار السنة ، بحسبانه أسلوباً ينعزل فيه عامل درجة حرارة الجو عن كل العوامل الأخرى.

[1] لمزيد من التفصيل حول المناخ وعلاقته بالسلوك الإجرامي :

P.
Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 147 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 239
et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 68 et s ; G. Stéfani, G.
Levasseur et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 109.

د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص54 وما بعدها ، د. يسر أنور عليود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص231 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص241 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص147 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص210 ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع
السابق ، ص223 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص230 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص346 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص84 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص239 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص90 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص205 وما بعدها.

[2] الأمر الذي يمكن أن نلحظه في مصر إذ يزيد معدل جرائم الأشخاص في الجنوب في حين يزيد معدل جرائم الأموال في الشمال.

defaultرد: عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

142- ب : المقارنة بين إجرام الشمال والجنوب طوال فصول السنة فى الدولة الواحدة :

وفقاً لهذا الأسلوب يتم تثبيت كل العوامل الجغرافية والاقتصادية والحضارية في المنطقة محل الدراسة ولا يبقى إلا عامل واحد متغير على مدار السنة هو درجة حرارة الجو فيسهل الكشف عن الصلة بينه وبين السلوك الإجرامي حجماً ونوعاً.

وقد لاحظ لاكاساني Lacassagne – وشاركه من بعد إتيان دي جريف ولفتنجول ودكستر – من خلال الإحصاءات بين عامي 1827 و1870 أن هناك تناسب طردي بين جرائم الأشخاص وبين ارتفاع درجة الحرارة وطول النهار ، فهي تزيد في الصيف وتقل في الشتاء. في حين أن هناك تناسباً عكسياً بين جرائم الاعتداء على الأموال وارتفاع درجة الحرارة وطول النهار ، أي أنها تبلغ أقصاها في فصل الشتاء وتقل في فترات الصيف. كما لوحظ أن نسبة جرائم العرض تبلغ ذروتها بحلول الربيع ومقدم الصيف. كما أن جرائم السكر تصل ذروتها خلال شهور الصيف خاصة شهري يوليو وأغسطس.

وتؤكد إحصاءات الأمن العام فى مصر هذه النتائج ، فنسبة جرائم الاعتداء على الأشخاص تبلغ أقصاها فى شهر يوليو وأغسطس (عام 1982 حوالي 97 جناية قتل في هذين الشهرين) وتهبط في شهر ديسمبر (18 جناية قتل عام 1982 في هذ الشهر). كما ترتفع نسبة جرائم الاعتداء على الأموال بين شهري فبراير ومارس (15 جناية في المتوسط من مجموع 126 مبلغ عنها عام 1982) وتهبط في شهور الصيف ، وعلى الأخص شهري مايو ويونيه (5 جنايات في المتوسط فقط) ، في حين أن جرائم العرض ترتفع نسبتها في شهور مارس وإبريل ومايو (185 جناية في المتوسط من مجموع 1667 عام 1982) وتنخفض في شهور الشتاء خلال شهري نوفمبر وديسمبر (46 جناية في المتوسط).

وانتهت إحصاءات عام 1982 أنه قد ارتكب عدد 373 جناية قتل نهاراً مقابل 259 جناية ليلاً. ونحو 171 جناية ضرب مفضي إلى موت نهاراً مقابل 55 ليلاً. ونحو 87 جناية هتك عرض واغتصاب نهاراً مقابل 66 ليلاً. في حين أن جنح السرقة قد بلغ عددها نهاراً نحو
7007 جناية مقابل 7706 ليلاً.

وكانت من قبل قد انتهت الإحصاءات التي قدمها المكتب الاتحادي للتحريات في الولايات المتحدة بين عامي 1935-1940 إلى ذات النتيجة.

143- ثانياً : تفسير الصلة بين المناخ والسلوك الإجرامي :

تعددت الاجتهادات التي قيلت لتفسير الصلة بين العوامل المناخية والسلوك الإجرامي ، ويصادفنا في هذا الصدد ثلاث نظريات : النظرية الطبيعية والنظرية الاجتماعية والنظرية العضوية النفسية.

144- أ : النظرية الطبيعية :

يذهب أنصار هذه النظرية – وعلى رأسهم فيري Ferri وفولدس Foldes ودكستر Dexter – إلي القول بأن الصلة بين المناخ والظاهرة الإجرامية صلة مباشرة. فارتفاع درجة حرارة الجو يزيد من حيوية الإنسان ونشاطه ويوقظ الغرائز اللاخلاقية عنده ويضعف السيطرة عليها في مواجهة المؤثرات الخارجية ، فيصبح قريب الاستثارة سريع
الانفعال وأكثر ميلاً للجنس الآخر ويترتب على ذلك أن يندفع الكثيرون إلى ارتكاب جرائم الاعتداء علي الأشخاص وجرائم الاعتداء على العرض. كما أن ارتفاع الحرارة يمد الجسم بقدر كبير من الطاقة الناتجة عن تناول الغذاء ، وبالتالي تفيض عن حاجة الجسم قوى وطاقات زائدة الأمر الذي قد يدفع لارتكاب الجرائم التي تتطلب جهداً وعنفاً.

كما فسر البعض ارتفاع جرائم الأموال شتاءً بأن بعض جرائم الأموال وخاصة السرقة يحتاج إلي ستر الظلام فكان من الطبيعي أن يرتفع معدل هذه الجرائم شتاء حيث يمكث ضوء النهار قليلا ويخيم الظلام طويلا ، على
العكس من نسبتها صيفاً. وقد فسر دكستر العلاقة بين ارتفاع درجة الرطوبة وانخفاض معدل الجرائم بأن هذا الارتفاع يدفع إلى الخمول بصفة عامة فتضعف الرغبة في الاقتتال إذ يقتضيه ذلك جهداً وطاقة وبالعكس فإن انخفاض درجة الرطوبة يؤدى إلى ازدياد الحيوية الأمر الذى يجعل لدية استعداداً لارتكاب جرائم العنف. كما يفسر دكستر العلاقة بين انخفاض نسبة الجرائم وسكون الرياح بتزايد نسبة ثاني أسيد الكربون في الجو الأمر الذي يضعف من حيوية الجسم.

غير أنه وجه إلى هذه النظرية عدة انتقادات نذكر من بينها :

أنه لو صح ما قيل من أن ارتفاع درجة حرارة الجو يضعف من قدرة الإنسان على مقاومة المؤثرات الخارجية لوجب ارتفاع نسبة جرائم الأموال أيضاً ، فإغراء المال من المؤثرات الخارجية التي لا يقوى الإنسان في منطق هذه النظرية علي مقاومتها ، ولكن الثابت أن نسبة جرائم الأموال لا ترتفع بارتفاع درجة الحرارة بل أنها تقل في شهور الصيف وتزداد في شهور الشتاء.

وليس صحيحا أيضا ما ذهبت إليه هذه النظرية من أن ارتفاع درجة حرارة الجو يزيد من الغريزة الجنسية ويدفع إلي ارتكاب جرائم العرض ، ذلك أن الإحصاءات تكشف عن أن هذه الجرائم تزداد مع اعتدال الجو في فصل الربيع ثم تتدرج في الانخفاض بدخول الصيف حيث ترتفع درجة الحرارة. مؤدى ذلك أن هذه الجرائم لا تنخفض ولا ترتفع في الوقت الذي تفترض فيه هذه النظرية أن غريزة الإنسان الجنسية تبلغ ذروتها.

كما أنه ليس دقيقاً القول بتأثير امتداد فترة الظلام في الشتاء على ارتفاع نسبة جرائم الأموال. فليست كل جرائم السرقة يرتفع معدلها شتاءً ؛ فأكثر السرقات حاجة إلي امتداد الظلام السرقة بالكسر ومع ذلك تثبت الإحصاءات ثبات معدل هذا النوع من السرقات علي مدار السنة ، بل وأحياناً يزيد نهاراً (في إحصاء عام 1982 ارتكبت 71 جناية سرقة نهاراً مقابل 55 جناية ليلاً) ، وأن السرقات البسيطة فقط هي التي يزيد معدلها في الشتاء. كما أن
بعض جرائم الأموال لا يتلاءم ارتكابها في فترات الليل كجرائم النصب ، والتي تفترض وجود اتصال بين الجاني والمجني عليه والاستعانة ببعض الطرق الاحتيالية توصلاً لخداع هذا الأخير. هذا فضلاً عن أن امتداد فترة الظلام لا يسهل جرائم الأموال وحدها بل يسهل كثيراً من الجرائم الأخرى كجرائم الاعتداء على العرض والقتل مع الترصد ، في حين أن الثابت ارتفاع معدل الأولى خلال شهور الربيع والثانية خلال شهور الصيف.

145- ب : النظرية الاجتماعية :

يرى أنصار هذه النظرية أن الصلة بين العوامل المناخية وخاصة درجة الحرارة والسلوك الإجرامي صلة غير مباشر ، وأن دور تلك العوامل يكمن في تحريك عوامل إجرامية أخرى. فارتفاع درجة حرارة الجو صيفاً يزيد من اتصال الأفراد ببعضهم البعض في الأماكن العامة والحدائق والطرقات وتنشط المعاملات بين الأفراد في فصل الصيف مما تتهيأ
معه ظروف الخلاف والشجار مما يدفع لارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص. هذا فضلاً عن أن فصل الصيف يمثل موسم الأجازات الصيفية للكثيرين من الطلاب والعاملين مما يخلق فراغاً في الوقت وتتعطل الطاقات التي كانت تستنفد في الدراسة والعمل ، وقد لا تجد هذه الطاقات متنفساً لها إلا في جرائم الاعتداء علي الأشخاص. كما قد تدفع الرغبة في الخلاص من هذا الفراغ والرغبة في الحد من عطش الصيف من الإقدام على تناول المشروبات
الكحولية وتعاطي المخدرات التي تؤثر ولاشك على السلوكيات العامة للفرد فتدفعه خاصة لارتكاب بعض جرائم العنف. ولعل كل هذا يفسر لنا ارتفاع نسبة جرائم الاعتداء علي الأشخاص صيفاً.

وفيما يتعلق بجرائم الأموال فإن أنصار هذه النظرية يفسرون ارتفاع نسبتها شتاء بأن مطالب الناس واحتياجاتهم للغذاء والكساء والمسكن يزداد شتاءً عنه صيفاً ، فإذا أعوزهم المال واستجلابه بطريق مشروع سعوا إلي إشباع
حاجاتهم ربما بارتكاب جريمة من جرائم الأموال. ومن ناحية أخرى فان فصل الشتاء هو فصل الركود الاقتصادي في المناطق التي تعيش علي الزراعات الموسمية أو بالنسبة لبعض الحرف مما يؤدى إلي ظهور بطالة موسمية مؤقتة قد تدفع بدورها نحو الجريمة. رغم صحة بعض الفروض التي أتت بها النظرية الاجتماعية إلا أنه قد نالها بعض الانتقادات من بينها :

أن تفسير ارتفاع نسبة جرائم الأموال في فصل الشتاء بحجة ازدياد الحاجات الفردية أمر لا يصلح لتفسير ثبات نسبة بعض أنماط جرائم الأموال في شهور الشتاء والصيف. كما أن هذه النظرية تعجز عن تفسير ارتفاع بعض جرائم الأموال خلال أشهر الصيف ، مثل جرائم النشل التي تكثر نتيجة ازدحام الناس في الأسواق والمواصلات الذي يبلغ مداه في شهور الصيف ، وكذا الحال بالنسبة لسرقة المساكن التي يهجرها شاغليها صيفاً بحثاً عن الترويح على الشواطئ.

كما أن هذه النظرية لا تستطيع أن تفسر ارتفاع أو انخفاض معدل جرائم الاعتداء على العرض إذ أن هذه الجرائم لا يرتبط وقوعها بازدياد فرصة تلاقي الناس صيفاً وانحصار هذه الفرصة شتاءً. فالثابت أن هذه الجرائم تزداد في فصل الربيع وتقل مع مقدم الصيف رغم أن الناس يتهيئون خلاله للتلاقي والاجتماع.

146- ج : النظرية العضوية والنفسية :

يرى أنصار هذه النظرية أيضاً أن صلة العوامل المناخية بالسلوك الإجرامي صلة غير مباشرة ، تقتصر على تحريك عوامل إجرامية أخرى قد تدفع إلي ارتكاب الجرائم. ولديهم أن الصلة بين المناخ والسلوك الإجرامي تجد تفسيرها فيما يحدثه المناخ من تأثير علي أعضاء الجسم وأدائها لوظائفها الفسيولوجية وعلي الحالة النفسية للفرد. وقد
انصب تفسير هذه النظرية بصفة أساسية على جرائم الاعتداء علي العرض التي تزداد خاصة في شهور الربيع. ويرجع ذلك إلى أن وظائف الجسم والنفس تمر بدورات تقابل دورات فصول السنة ، فالغدد التناسلية وبالتالي الغريزة الجنسية يصل نشاطها إلي أقصاها في فصل الربيع وهذه سمة عامة تشترك فيها كل الكائنات الحية فتزاوج الحيوان ولقاح النبات يتم في هذا الفصل أيضا.

وهذا بالفعل ما أكده العالم الألماني أشافينيورج حين قام بإحصاء لحالات الحمل الناشئة عن زواج وتلك الناشئة عن علاقات غير مشروعة وثبت له أن هذه لحالات تكثر خلال شهر مارس لتصل إلى أقصاها في شهر مايو ، مما يؤكد أن الاتصال الجنسي الذي يقف وراء الحمل يرتبط بالدورات الفسيولوجية النفسية.

كما أكد دكستر في بيان العلاقة بين جرائم الأشخاص وانخفاض درجة الضغط الجوى أن هذا الانخفاض يعقبه في غالب الأحوال حدوث عواصف مما قد يولد لدى البعض انفعالاً نفسياً يدفعهم إلي ارتكاب جرائم العنف. غير أنه قد يعيب على منطق تلك النظرية عدة أمور منها : أنها قصرت تفسيرها علي جرائم العرض دون غيرها. كما أن فكرة الدورات التي تمر بها وظائف الجسم وان كانت تستند إلي أساس سليم إلا أن هذه النظرية قد بالغت في أهميتها
ونسبت إليها كل التغيير والتطور الذى يطرأ علي الغريزة الجنسية في فصل الربيع. والواقع أن هذه الغريزة لدى الإنسان لا تتحرك فقط في فصل الربيع بل أنها قائمة علي مدار السنة كل ما في الأمر أن حدتها تزداد وتخصب في فصل الربيع. ولا يمكن تفسير اتقاد الغريزة الجنسية وازدياد نسبة جرائم العرض لمجرد وجود تغيرات فسيولوجية ونفسية تحدث في هذا الفصل ، فالحق أنه يشارك ذلك عوامل أخرى ترتبط باعتدال الجو وازدياد الحركة الاجتماعية وظهور النساء بالملابس الخفيفة التي تظهر مفاتنهن وتحرك الإثارة الجنسية لدى من يكون لديه استعداد إجرامي من قبل.

وفي رأينا أنه لا يمكن قبول التفسير العضوى والنفسي للعلاقة بين عوامل المناخ والسلوك الإجرامي إلا في ضوء نظرية الاستعداد الإجرامي التي يرى أنصارها أن العوامل المناخية تؤثر بشكل غير مباشر علي الوظائف العضوية والنفسية للفرد تأثيراً يبدو في حالة المزاج والطاقة والجدية والمقدرة الفكرية ، وقد يحدث تقلب هذه العوامل خللاً لدى من يتميزون بضعف جهازهم العصبي فينحرفون بسلوكهم عن النحو المألوف وربما تجاه ارتكاب الجرائم.

وبصفة عامة فإننا نميل في تفسير الصلة بين العوامل المناخية والسلوك الإجرامي إلى اعتناق مبدأ التفسير التكاملي من خلال ما انتهت إليه النظريات الثلاث مجتمعة علي أن يقتصر تفسير كل نظرية علي طائفة محدده من طوائف الجرائم. فالنظرية الطبيعية تقدم تفسيراً مقبولا لارتفاع وانخفاض جرائم الأشخاص ، في حين تقدم النظرية الاجتماعية تفسيراً منطقياً لارتفاع وانخفاض معدل لجرائم الأموال في فترات معينة من السنة ، كما تصلح النظرية العضوية والنفسية في تفسير التغيرات التي تطرأ على معدل جرائم العرض من شهر لأخر.

defaultرد: عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

المطلب الثاني

العوامل الطبوغرافية والسلوك الإجرامي

147- تمهيد :

تؤكد العديد من الدراسات أن الظاهرة الإجرامية تتأثر في حجمها وفي نوعها وأسلوب ارتكابها بطبيعة المكان الجغرافية من سهول ووديان وخصوبة التربة والقرب من الأنهار ووفرة المياه أو وجود الجبال والمرتفعات والقرب من البحار والمواني والكثافة السكانية. فقد ينطبع المكان بطابع الريف أو بطابع المدينة مما ينعكس بدوره على
السلوك الإجرامي للأفراد.

وتكشف الإحصاءات عند مقارنة إجرام الريف بإجرام المدن عن وجود أمرين : أولهما اختلاف إجرام المدينة عن إجرام
الريف من حيث الكم أو حجم الظاهرة الإجرامية ؛ وثانيهما اختلاف إجرام المدينة عن إجرام الريف من حيث النوع وأسلوب ارتكاب الجرائم[1].

148- أولاً : اختلاف إجرام المدينة عن إجرام الريف كماً :

تشهد الإحصاءات بارتفاع نسبة الإجرام في المدن عنها في الريف أياً كانت فترة القياس. ففي جمهورية مصر العربة تشير إحصاءات الأمن العام سنة 1982 أن عدد الجنايات المرتكبة في محافظة القاهرة بلغ 252 جناية من مجموع جنايات القطر وعددها 1667 جناية ، وفي الإسكندرية 158 جناية ، وسوهاج 156 والغربية 129 ، والشرقية 52 ، والدقهلية 81 ، والإسماعيلية 23 وبور سعيد 16. بينما لا تتعدى النسبة 3 في البحر الأحمر ، و2 في مطروح ، و2 في الوادي الجديد ، وجناية واحدة في سيناء الجنوبية. كما أن الجنح في ذات العام بلغت في القاهرة 10.6% من مجموع 1319097 ، والدقهلية 10.4% ، والإسكندرية 8.1% ، وكفر الشيخ 5.9% ، وأسيوط 4.2% ، والمنيا 3.9% ، والمنوفية 3.6% ، ودمياط 3.2% ، وبني سويف 2.9% ، والإسماعيلية 1.3% والوادي الجديد 0.1% ، وسيناء الجنوبية 0.5% ، وسيناء الشمالية 0.7%. وهذا الارتفاع في نسبة إجرام المدن عن نسبته في الريف يمكن رده إلي عدة عوامل كثيرة متنوعة.

فمن ناحية تختلف الكثافة السكانية بين الريف والمدينة ، ومن المعلوم أنه كلما زادت كثافة السكان كلما ارتفعت نسبة الإجرام. ولما كانت كثافة السكان في المدينة تبلغ درجة أعلي منها في القرية كان من المقبول أن ترتفع نسبة الإجرام في الأولي عن الثانية. وليس المقصود بذلك أن عدد الجرائم المرتكبة في المدينة أكبر من عدد الجرائم المرتكبة في القرية فهذا أمر بديهي ولكن المقصود أن عدد ما يرتكب في المدينة بالنسبة لعدد السكان بها يفوق عدد ما يرتكب في الريف بالنسبة لتعداد سكانه. ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أن التركيز السكاني يزيد من فرص احتكاك الناس ويخلق علاقات جديدة تستوجب تدخل المشرع بصفة مستمرة من أجل وضع الأطر القانونية
المنظمة لها ، الأمر الذي يزيد من فرص مخالفة هذه الأخيرة. لذا فلا عجب أن تكثر في المدينة الجرائم التنظيمية الواقعة بالمخالفة لقوانين المرور والصحة والسكينة أو الجمارك والضرائب…الخ ، الأمر الذي لا مثيل له في الريف حيث تقل فيه الكثافة السكانية.

ومن ناحية أخرى فإن ظاهرة الهجرة من الريف إلي المدينة تسهم في زيادة عدد الجرائم المرتكبة في المدينة. فالمهاجرون في الغالب من الشباب الذين يحدوهم الأمل في تحقيق حياة معيشية أفضل ؛ أمل قد لا يسع المهاجر تحقيقه نتيجة عدم تكيفه مع حياة المدينة لسرعة إيقاعها وحاجتها إلي خبرات ودراية تختلف عن تلك التي تحتاجها حياة الريف ، الأمر الذي قد يدفع المهاجر في بعض الحالات إلي سلوك سبيل الجريمة ليحقق عن طريقة ما فشل في تحقيقه بالسبل المشروعة.

وقد يقول قائل بأن هناك هجره مقابلة في الاتجاه الآخر من المدينة إلي الريف ، ولكن يلاحظ أن هذه الهجرة ليست
بذات حجم الهجرة من الريف إلي المدينة ، علاوة على أن المهاجرين من المدينة إلي الريف يسهل عليهم التوافق مع الحياة في الريف وإذ لم يتوافقوا عادوا إلي المدينة تاركين الريف دون أن يرتكبوا فيه جرائم إذ تقل فيه بصفة عامة فرص السقوط في الجريمة.

وعلاوة على ذلك فإن الأسرة فى الريف تحيا حياة عائلية متماسكة تتميز بالثبات والاستقرار ، ويشعر الفرد أنه جزء من كل ، وأن تصرفه المعيب لا ينسب إليه وحده وإنما ينسب إلى عائلته بأكملها ، الأمر الذي يدفع إلى التزام السلوك القويم المتوافق مع القيم والعادات. كل ذلك على النقيض من حياة المدينة التي يحرص كل فرد فيها على
إثبات ذاتيته فيشعر الفرد بالعزلة ولا يجد له من معين في أوقات الأزمات.

وقد نجد سبباً في ارتفاع نسبة الإجرام في المدينة عنها في الريف في زيادة الأعباء المالية للفرد فى المدينة. فأبناء تلك الأخيرة عادة ما لا تتناسب دخولهم مع احتياجاتهم إلى المسكن والملبس والغذاء وإلى سبل المواصلات والتمتع بما توفره حياة المدن من ألوان الترف والرفاهية ، مما يزيد من عبئ الضغوط المالية ويدفع البعض إلى سلوك سبيل الجريمة. كما أن الحياة فى المدينة تضطر النساء إلى الخروج عزلتهم من أجل إثبات الذات ومساندة الرجل في الأعباء العائلية وقد تسقط بفعل قسوة الحياة ومطالبها في سبيل الجريمة ، أو على الأقل قد تزيد من فرص العدوان عليها من الآخرين. وقد يعترض البعض على تلك الحجة بمقولة أن المرأة تسهم فى الحياة فى الريف ربما بدرجة أكبر من إسهامها فى المدينة ، بيد أن هذا مردود عليه بأن أن المرأة إذا خرجت للعمل فى الريف فهى تخرج لمعاونة الرجل فى العمل تحت إشرافه ورعايته وفي حمايته.

فإذا أضفنا إلى كل ذلك أن المدينة بطبيعتها مهيأة لتعزيز الاتصالات الإجرامية وتكوين العصابات بعيدا عن أعين رجال السلطة الضبط وبعيداً عن فضول الناس ، على الخلاف من حياة القرية حيث يتعذر إخفاء النشاط الحقيقى للفرد مدة طويلة ، أمكن تفسير ازدياد معدل إجرام المدن أو الحضر عن إجرام القرى أو الريف. حقاً قد تتكون فى الريف عصابات السرقة وقطع الطرق والابتزاز وفرض الإتاوات ، ولكن سرعان ما يلفظ أبناء القرية هذه النماذج الإجرامية الشاذة التي تتنافر بطبيعتها مع ما يسود القرية من قيم وعادات ، فيقل نشاطها شيئاً فشيئاً حتى تختفي.

غير أن البعض يؤكد على وجوب النظر بعين الحذر إلى النتائج المستخلصة من الإحصاءات الجنائية فيما يتعلق
بارتفاع معدل إجرام المدن عن إجرام الريف. ويعلل هذا الحذر من جانبهم بعدة أمور :

أن المقارنة بين إجرام الريف وإجرام المدن لا تبدو دقيقة طالما أن هناك عدداً من الجرائم يتخذ طابع السرية ولا
يصل إلي علم السلطات وبالتالي لا يظهر في الإحصاءات ، مثل تعاطي المخدرات والدعارة والقوادة وألعاب القمار

أن عمل سلطات الضبط يتميز بالهمة في تعقب الجرائم الواقعة في المدينة إذا ما قورنت بما يقع في الريف. كما أن من طبيعة أهل الريف أن يلجأوا إلي ذوى السلطة الأدبية من بينهم لحل مشاكلهم. فالمشاجرات وجرائم الاعتداء علي النفس ورد المسروقات تحل عن طريق مجالس الصلح العرفية ، فلا تظهر هذه الجرائم في الإحصاءات الجنائية فلا تعبر بدورها عن واقع إجرام الريف.

أنه عددا مما يرتكب من جرائم في الريف يقيد في إحصاءات الجرائم في المدينة. فقد يحدث أن يفر الجاني من الريف ليختبأ بعيداً عن أعين رجال الضبط في دروب المدينة ، وهكذا تظهر جريمته في إحصاءات المدينة الجنائية
متى قبضعليه فيها أو حوكم في محاكمها.

والواقع أن هذه التحفظات رغم وجاهة بعضها إلا أنه مردود عليها بعدة أمور :

فالقول بأن بعض الجرائم له طابع السرية ينطبق علىجرائم الريف والمدينة ، فهذه الجرائم الخفية كما لا تظهر في سجلات المدينة لا تظهر أيضاً في سجلات الريف وبالتالى يتعذر ترجيح نسبتها هنا علي نسبتها هناك.

كما أن القول بأن الشرطة لا تتعقب الجرائمبذات الهمة التي تتعقبها بها في المدن أو أن أهل الريف يميلون إلي الحل العرفي لمشاكلهم فهو لا يغير من حقيقةالأمر شيئا لأنه إن صح فهو لا ينفي أن جريمة ارتكبت وسجلت في تقارير الشرطة والأمن العام.

وأخيراً فان فرار مرتكبي الجرائم من الريف إلي المدينة يقابله أيضا فرار مرتكبي بعض الجرائم من المدينة إلي الريف ، إذ يسهل بالمثل الاختفاء عن أعين السلطة.

149- ثانياً : اختلاف إجرام المدينة عن إجرام الريف نوعاً وأسلوباً :

تؤكد الإحصاءات أن هناك فارق نوعي بين إجرام المدن وإجرام الريف. فجرائم الريف يغلب عليها العنف واستعمال القوة العضلية ، أما جرائم المدينة فتتميز باللين وتقوم على الحيلة والخداع. غير أن هذا وإن صح في كثير من الأحيان إلا أنه لا يعنى أن للمدينة إجراماً وأسلوب لارتكابه وللريف إجراماً وأسلوب  آخر لارتكابه ، فالظاهرة الإجرامية لا تعترف بالمكان ؛ وكل ما هنالك أن أنماطاً معينة من الجرائم تنتشر فى المدينة بدرجة أكبر من انتشارها فى الريف أو العكس. ويمكن على هذا الأساس أن نفرق بين إجرام المدينة وإجرام الريف بشأن
أنواع محددة من الجرائم.

150- أ : جرائم الأشخاص بين الريف والمدينة :

تكشف الإحصاءات عن أن جرائم الأشخاص ، وخاصة جنايات القتل العمد والضرب المفضى إلى الموت أو العاهة المستديمة ، تقع فى الريف بمعدل أكبر من وقوعها فى المدن. فما يقع منها فى الريف منسوباً إلى عدد سكانه يفوق ما يقع منها فى المدينة منسوباً إلى عدد سكانها. ففي إحصاء عام 1982 بلغت جنايات القتل 85 جناية في محافظة أسيوط من مجموع كلي 632 جناية ، يليها محافظة سوهاج 81 جناية ، بينما لم تتعدى النسبة 29 في محافظة القاهرة و34 في محافظة الإسكندرية. كما ارتفعت جنايات العاهة المستديمة لتبلغ 39 في سوهاج من
مجموع كلي 135 جناية وواحدة في القاهرة وتسع في الإسكندرية ، ولم يبلغ عن شيئ في محافظات بور سعيد والإسماعيلية والسويس.

وربما تجد هذه الظاهرة تفسيرها فى أن سكان الريف أكثر خشونة من حيث الطباع ، وأكثر اعتمادا على القوة العضلية فى الحصول على موارد الرزق وحل مشاكلهم ، لذا يلجأون عادة في ارتكاب جرائمهم إلى استخدام الوسائل البدائية كالعصى والآلات الحادة ؛ في حين أن أهل المدن قد هذبتهم أساليب المدنية الحديثة واستخدام الآلة فصاروا يعتمدون عليها بدلا من القوة العضلية. لذا فإنهم إذا ما ارتكبوا جرائم الأشخاص اختاروا لتنفيذها
وسائل آلية وغالباً ما تكون أسلحة نارية.

كما أن فاعلية دور الشرطة في منع الجرائم يقل في الريف عنه في المدينة وذلك لتباعد المناطق الريفية من قرى وحقول ونجوع وكفور بعضها عن بعض ولعدم كفاية القوات وعدم إمدادها بالوسائل الفنية الحديثة الأمر الذي يزيد من فرص عدوان الأشخاص على بعضهم فى الريف وضيق ذلك فى المدن.

وربما يبرر هذا الارتفاع في معدل جرائم الاعتداء على الأشخاص في الريف عنه في المدن انتشار أنواع خاصة من القتل كجرائم قتل الأطفال حديثى الولادة. وعلة ذلك أن الإجهاض فى الريف ليس ميسوراً وقلما يقترن إجراءه بالستر فلا يكون أمال من حملت سفاحاً إلا أن تقتل جنينها بنفسها ، أما فى المدن فإن الأكثر شيوعاً هو جرائم الإجهاض.

151- ب : جرائم الأموال بين الريف والمدينة :

تؤكد الإحصاءات أن جرائم الأموال تصادف فى المدن مجالا أوسع مما تصادفه فى الريف. فقد بلغت جنايات السرقة في القاهرة وفق إحصاء عام 1982 44 جناية من مجموع 126 جناية ، يليها الإسكندرية 22 جناية ، وبلغ عن جناية واحدة في كل من بورسعيد ودمياط وبني سويف والفيوم وأسيوط.

وفي نطاق الجنح بلغ أكبر عدد لجنح السرقة في القاهرة ليصل إلى 6669 جنحة من مجموع كلي قدره
14713 جنحة ، تلتها الإسكندرية 1932 جنحة ، ثم الجيزة 1204 والشرقية 992 ، بينما لم تتعدى النسبة 63 في بني سويف و53 في الفيوم و75 في سوهاج. ويمكننا أن نعلل ارتفاع معدل جرائم الأموال في الحضر عنه في القرى والمناطق النائية بعدة أمور :

كثرة عدد الأثرياء من أصحاب المتاجر والصناعات في المدن مما يزيد من فرص جرائم الأموال التي تقع بطريق الاحتيال كجرائم النصب وخيانة الأمانة وإصدار الشيك بدون رصيد. هذا فضلاً عن كثرة وقوع جرائم النشل فى المدن وذلك بالنظر إلى ارتفاع معدل الزحام فى الأماكن العامة أو فى وسائل المواصلات.

كما أن جرائم السطو والسرقة تصادف مجالا أوسع فى المدن لانتشار المساكن والمنشآت التي تضم أموال ضخمة كالبنوك والمتاجر. فضلاً عن أن تقدم وسائل التقنية في المدن المتصلة بنظم فتح الخزائن أو وسائل المراقبة والتنصت أو وسائل الانتقال السريعة قد سهل على الجناة ارتكاب مثل هذه الجرائم.

أن انتشار المتاجر في المدن (كمحلات الذهب والمشغولات ومعارض السيارات) يتيح للجناة الفرصة لتصريف وإخفاء ما يتحصلون عليه من جرائمهم. غير أن هناك من جرائم الأموال ما لا يتصور وقوعه إلا فى الريف ومنها جرائم إتلاف المزروعات وحرق المحاصيل وسرقة الماشية والدواب وتسميمها وتبديد الحجوزات الواقعة على الحاصلات الزراعية…الخ.

152- ج : جرائم العرض بين الريف والمدينة :

تشير الإحصاءات إلى زيادة معدل جرائم الاعتداء على العرض كالاغتصاب وهتك العرض والتحريض على الفسق والدعارة والقوادة فى المدن عنها فى الريف. ففي لإحصاء الأمن العام سنة 1982 بلغ عدد الجنايات من هذا النوع من الجرائم في القاهرة إلى 48 جناية من مجموع 153 جناية ، تلتها الغربية 13 جناية ، والإسكندرية 11 جناية. في حين لم يبلغ عن أي جناية من هذا النوع في محافظات بني سويف والمنيا ومطروح وسيناء الجنوبية.

ولعلنا يمكن أن نفسر تلك الزيادة في المدن بالأسباب الآتية :

تأخر سن الزواج فى المدينة عن الريف ، نظراً لما يتطلبه بدء الحياة الزوجية بها من نفقات كبيرة لا تتوافر لفرد إلا بعد سنوات طويلة من تخرجه وانخراطه في الحياة العملية. وهكذا يحاول الشباب إشباع رغباتهم الجنسية بوسائل أخرى غير مشروعة ، قد يكون من بينها ارتكاب جرائم العرض.

ضعف الترابط العائلى والرقابة الأسرية على الصغار والشباب فى المدن ، بخلاف الوضع في الريف الذي
يميزه توافر رقابة اجتماعية شديدة على مسلك الأولاد أياً ما كان سنهم.

تفاقم أزمة المساكن فى المدن الأمر الذي قد يستتبع إقامة أكثر من أسرة فى مسكن واحد ، مما يهيأ من ارتكاب أفعال التحرش الجنسي واللواط وزنا المحارم.

تميز المدن بكثرة أماكن اللهو من سينمات ونوادي للفيديو التي قد تعرض أفلاما تثير الغرائز الجنسية ، وانتشار بيوت الرذيلة وسهولة الحصول على الخمور والمخدرات ، تلك الأمور التي لا تتوافر عادة في الريف ، بل ويكون بشأنها رقابة أسرية فعالة إن هي تواجدت في منطقة ريفية.

153- د : جرائم الاعتداء على المصلحة العامة بين الريف والمدينة :

لسنا في حاجة إلى تبرير ارتفاع معدل جرائم العدوان على المصلحة العامة كجرائم الرشوة والاختلاس والتزوير وجرائم التعدي علي الموظفين العموميين…الخ في المدنعنها في الريف ، إذ تتخذ الوزارات والمصالح الحكومية وغالبية أشخاص القانون العام المدن مقراً لها ، في حين يقتصر الريف على عدد متواضع من وحدات الإدارة المحلية.

وهذا ما كشف عنه إحصاء الأمن العام في مصر عام 1982 إذ بلغت نسبة جنايات الاختلاس 13 جناية في الإسكندرية من مجموع 64 جناية ، تلتها القاهرة 8 جنايات. في حين لم يبلغ عن هذه الجنايات في الشرقية وبني سويف والفيوم ومعظم محافظات الصعيد. والأمر ذاته ينطبق على جنايات الرشوة ، إذ بلغت 19 جناية في القاهرة من مجموع كلي 78 جناية ، و8 في الشرقية ، و6 في الإسكندرية.

154- هـ : الجرائم المصطنعة بين الريف والمدينة :

من الواضح أن المدينة هو المجال الطبيعي لارتكاب ما يسمى بالجرائم المصطنعة أو التنظيمية ، كجرائم المرور والجرائم المضرة بالصحة والسكينة العامة والبيئة والجرائم الواقعة في نطاق علاقات العمل ، وجرائم النقد والجرائم الضريبية والجمركية…الخ. فمتطلبات تنظيم الحياة داخل المدينة فرض على المشرع التدخل
لتجريم أنماط معينة من السلوك قد لا تتناقض مع القيم والمشاعر الأخلاقية بقدر عدوانها على موجبات الحياة الاجتماعية المثلى.

ورغم اختصاص الريف وحده ببعض هذه الأنواع من الجرائم كمخالفات الرى والدورات الزراعية ، أو المخالفات المتصلة بتوريد المحاصيل الزراعية لجهات التسويق إلا أن معدل ارتكابها لا يؤثر على المعدل العام لارتكاب الجرائم المصطنعة في الريف إذا ما قورن بمعدلها في المدينة.

من جماع ما تقدم لا ينبغي الاعتقاد بأن أهل المدينة أكثر ميلاً للإجرام من أهل الريف ، فكا ما هنالك أن العوامل الطبوغرافية قد تحرك عوامل أخرى ذات صلة مباشرة بالظاهرة الإجرامية. يفهم من ذلك أن الصلة بين هذه الأخيرة والعوامل الطبوغرافية ذاتها تظل صلة غير مباشرة. ولا شك أن تقارب المجتمعات الريفية في عصرنا الحالي شيئاً فشيئاً من المجتمعات الحضرية سوف يقارب بين كم ونوع الإجرام في البيئتين مما قد يفقد دراسة العوامل الطبوغرافية أهميتها.

[1] لمزيد من التفصيل حول إجرام الريف والمدن :

P.
Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 151 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 309
et s ; R. Gassin, op. cit., p. 340 ; G. Stéfani, G. Levasseur et R.
Jambu-Merlin, op. cit., p. 111 et s ; Lacassagne, La criminalité comparée
des villes et des campagne, Lyon, 1882 ; Denis Szabo, Crimes et villes,
th. Paris, 1960, spéc. p. 172 et s ; J. Constant, La criminalité dans les
grands ensembles, RSC. 1967, p. 91 ; N. Lahye et autres, La ville et
criminalité, RDPC. 1982, p. 201 ; Ch. Swanson et L. contrôle,La
délinquance en milieu rural : ampleur, prévention, contrôle, RIPC. 1983,
p. 184 ; R. Ottenhof, Le concept de ville moyenne en criminologie, RSC.
1984, p. 369.

د. محمد خيري محمد علي ، الريف والحضر وظاهرة الجريمة ، دراسة نظرية وميدانية ، 1965 ، ص37 ، دراسة في التحضر والجريمة والإقليم المصر ي ، المجلةالجنائية القومية ، 1959 ، ص1 وما بعدها ، د. رؤوف عبيد ، المرجع  السابق ، ص166 وما بعدها ، د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص97 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص237 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص276 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص238 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص240 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص356 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص116 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص248 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص259 وما بعدها.

defaultرد: عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

المطلب الثالث

العوامل الديموغرافية والسلوك الإجرامي

ربط بعض الباحثين فى علم الإجرام بين حجم ونوع الظاهرة الإجرامية وبين العوامل الديموغرافية المتصلة بالتركز السكاني ، بعد أن فقد التميز بين القرية والمدينة أهميته مع ازدياد الزحف العمرانى على الريف وانتشار وسائل الاتصال الحديثة التي قاربت المسافات والثقافات. ولعل ما دفع هؤلاء أيضاً في البحث في العوامل الديموغرافية هو ما لوحظ من اضطراب نتائج المقارنة بين إجرام الريف وإجرام المدينة من دولة إلى أخرى أو في الدولة الواحدة خلال فترات زمنية متعاقبة.

ولقد أشار العالم الأمريكي فولد Vold إلى أن هناك تناسباً طردياً بين معدل الجريمة ونوعها وبين الكثافة السكانية. وأشار إلى ذلك أيضاً العالم البلجيكي دنيس زابو Denis Szabo ، الذي أكد على ضرورة التعويل فى قياس الظاهرة الإجرامية حجماً ونوعاً على الكثافة السكانية. وفي ضوء ذلك قسم هذا العالم المناطق السكانية إلى خمس مناطق هي علة التوالي : المناطق الريفية ، والمناطق الحضرية التى تضمم أهل الريف المشتغلين بالزراعة ، والضواحى والتي تضم تجمعات سكانية مستقلة عن المناطق الحضرية وعن المدينة ومداخلها ، والمدن الصغرى والمتوسطة ، والمدن الكبرى. ولديه أن المناطق قليلة الكثافة هي التي لا يزيد عدد سكناها عن 25.000 نسمة ، وأن المناطق متوسطة الكثافة هي التي يتراوح عدد سكانها بين 25.000 و100.000 نسمة ، وتعد المناطق التي تزيد عن هذا الحد الأخير مدناً كبيرة ذات كثافة عالية[1].

وتكشف الإحصاءات الجنائية في مصر عن وجود ارتباط في كثير من الحالات بين حجم الظاهرة الإجرامية ونوعها وبين معدل الكثافة السكانية. ففي إحصاء عام 1982 استحوذت القاهرة الأعلى كثافة (5.853.000 نسمة) على أكبر عدد من الجنايات ، إذ بلغ المعدل 252 جناية من مجموع 1667 جناية ، تلتها الإسكندرية (2.665.000 نسمة) بمعدل 158 جناية ، إلى أن بلغ المعدل أدنى درجة له في المحافظات النائية قليلة الكثافة السكانية كالبحر الأحمر ومطروح والوادي الجديد.

والواقع أنه يسهل علينا تفسير هذه الرابطة الطردية بين معدل التركز السكاني ومعدل الإجرام ونوعه ، فمع ازدياد الكثافة السكانية تتشابك العلاقات وتتنوع المعاملات ويحتك الأفراد ببعضهم ، وتزداد أماكن السكنى ومراكز النشاط المالي والتجاري والصناعي ، وتزداد أماكن اللهو والمتعة ، مما يؤثر في حجم ونوع الظاهرة الإجرامية.

المبحث
الثاني

الــعــوامــل الاجــتــمــاعــيــة

155- تقسيم :

يقصد بالعوامل الاجتماعية – في معناها الضيق – جملة الصلات أو العلاقات التي تربط الفرد بغيره من الأفراد ، فلعل أهم ما يؤثر في بناء الشخصية وفي مسلك الشخص العام ما يكتسبه من قيم وأخلاق نتاج صلته بمن يختلط معهم في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وعادة ما يقسم علماء الإجرام الأوساط الاجتماعية التي يحيا فيها الفرد إلى ثلاثة أوساط : الوسط المفروض ومثاله بيئة النشأة أو البيئة العائلية ؛ والوسط العرضي ومنه البيئة المدرسية ؛ والوسط المختار كالأسرة الشخصية والبيئة المهنية.

المطلب
الأول

الـــوســـط الـــمـــفـــروض (البيئة العائلية)

156- تمهيد تقسيم :

تمثل البيئة العائلية Le milieu familial أهم الأوساط الاجتماعية المفروضة التي لا حيلة للفرد في اختيارها[2].
ولاشك أن الأسرة تلعب دورا بالغ الخطورة في حياة الفرد ، خاصة في مراحل عمره الأولى التي تتشكل فيها معالم الشخصية[3].

ويتوقف اعتبار البيئة العائلية عاملاً من عوامل الإجرام على توافر نوعين من الخصائص في تلك البيئة : إما خصائص منطوية على قصور في طبيعة الأسرة بذاتها كأفراد ، ومنها علي سبيل المثال إجرام بعض أفراد الأسرة ، التصدع العائلي ، فساد نظام التربية ؛ وإما خصائص تنطوي على قصور في ظروف الأسرة على فرض صلاح أفرادها ، ومن ذلك مثلاً ثقل أعباء الأسرة الاقتصادية وانحدار مستواها الاجتماعي وكثرة عدد أفرادها.

157- أولاً : الخصائص المنطوية على قصور في طبيعة الأسرة :

من بين الخصائص المنطوية على قصور في طبيعة الأسرة ميل أو سقوط بعض أفرادها في طريق الجريمة. فمن المقطوع به أن إجرام بعض أعضاء الأسرة قد يؤثر بالسلب على أعضائها الآخرين من غير المجرمين. هنا يضرب بعض الأفراد المثل السيئ للبعض الآخر ، مثل ينال على الأخص من التكوين النفسي لصغار السن داخل الأسرة. هنا أيضاً تتنازع ثقافتين أحدهما اجتماعية توجب احترام القانون والأخرى لا اجتماعية تحض على مخالفته. ففي وسط يغيب لدى بعض أفراده الوازع الأخلاقي والتعاليم الدينية التى تدعو إلى الفضيلة وتنهى عن الرذيلة يكون عامل التقليد Imitation هو الأقوى. ولعلنا هنا نذكر بما سبق وقال به كل من جابريل تارد وسذرلاند من أن تقليد المثال السيئ والمخالطة الفارقة هي التي تقف وراء تفسير بعض أنماط السلوك الإجرامي.

ويمكننا أن نذكر من بين أوجه القصور أيضاً فساد نظام التربية داخل الأسرة. فالحق أن تربية الأبناء صارت فى الوقت الحاضر أمراً جد خطير ، يحتاج إلى مثابرة واجتهاد من أجل تدعيم القيم الخلقية في نفس الأبناء وتدريبهم
على النقد الذاتي للسلوك.

فعلى الرغم من تزايد الفجوة بين تقاليد الأجيال واختلاف جيل الآباء عن جيل الأبناء ، إلا أنه يجب ان تظل هناك مفاهيم مشتركة بين الجيلين ترتبط بالتعاليم الدينية والقيم الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع. والمتفحص
للحال في وقتنا الراهن يجد أن نقاط الالتقاء والمفاهيم المشتركة التى تربط الأجيال ببعضها قد انحصرت وضعف تأثيرها.

ويزداد الأمر صعوبة إذا ما علمنا أن الأسرة لم تعد وحدها التى تلقن النشء القيم والتقاليد والمفاهيم الاجتماعية. فوسائل الأعلام أصبحت تسهم بدورها مع الآباء فى توجيه النشئ ، وقد يحدث التعارض بين ما تعرضه وسائل الإعلام من قيم وتقاليد وبين ما يبثه الآباء في نفوس أبنائهم. بل قد تعرض وسائل الإعلام لنماذج أسريه ذات مركز اجتماعي ومالي يخالف واقع أسرة بعينها ، هنا يعقد أفراد هذه الأخيرة المقارنات بين المركز الاجتماعى والمالى لأبويه ومركز غيرهما من الأشخاص وفق المعروض في وسائل الإعلام ، مما قد يفضى إلى اهتزاز مكانة الأبوين الأدبية فى الأسرة وتكون توجهاتهما موضع سخرية ورفض من قبل الأبناء.

ولعل الأمر يزداد سوءاً داخل الأسرة إذا ما اتخذت معاملة الآباء لأبنائهم صورة القسوة المفرطة والإهانات المستمرة
والتحقير أو المفاضلة بين الأخوة أو الحرمان التعسفي من الاحتياجات الأساسية ، الأمر الذي قد يفضي إلى نشوء الأبناء محملين بعقد نفسية وحرمان عاطفي يدفعهم إلى هجر منزل الأسرة والالتفاف حول رفقاء السوء أو الانطواء على أنفسهم أو الانحراف والاندفاع في تيار الجريمة تنفيساً عما بداخل النفس من كبت.

ولا يخفى أن التدليل الزائد للأبناء والاستجابة الدائمة لكل رغباتهم والمبالغة فى الخوف عليهم وعدم تبصيرهم بالسلوكيات الخاطئة يعد هو الأخر من قبيل التربية الفاسدة ، ذلك أن هذا الأسلوب ينمي في الطفل الرغبة في عدم الطاعة وعدم الاعتماد على النفس وعدم القدرة على مواجهة المخاطر والمغريات الخارجية ، مما يسهل انقياده من قبل الآخرين تجاه الجريمة.

ومن المؤكد أن أهم أوجه القصور داخل الأسرة التي يمكن أن تشكل عاملاً من عوامل الإجرام ما يسمى بالتصدع الأسري Foyer désuni ، الذي ينم عن انفراط عقد الأسرة وانهيار العلاقات فيما بين أفرادها.

ويتخذ التصدع داخل الأسرة أحد صورتين : إما التصدع المادي ، وإما التصدع المعنوي. والنوع الأول ابتعاد أفراد الأسرة بعضهم عن بعض ، إما لسبب لا دخل لأحد منهم فيه مثل وفاة الأب أو الأم ، وإما لانفصال الأبوين بالطلاق أو الهجر ، أو لسفر عائل الأسرة لأحد البلدان بحثاً عن الرزق ، أو بسبب الحكم بعقوبة سالبة الحرية علي أحد الأبوين. وقد يأخذ هذ التصدع صورة إقامة الطفل عند زوج أمه أو زوجة أبيه ، مما يحرمه من الدور التهذيبي والتقويمي لأحد الأبوين ويعرضه لسوء المعاملة ، ويلج في النهاية في تيار الجريمة.

أما النوع الثاني فيعني أن يسود الأسرة رغم اجتماع أفرادها في معيشة واحدة علاقات مضطربة ناشئة عن الشجار الدائم والإهانات المتبادلة بين الزوجين. وقد يرجع التصدع المعنوي إلى مبالغة الأب في الاهتمام بعمله وشئونه الخاصة إلى حد يطغى على التزاماته نحو أسرته. ولا شك أن عمل الأم خارج المنزل يزيد من حدة هذا التصدع بحسبانها الرقيب على الأبناء والموجه لهم حال انشغال الآباء وانصرافهم لأعمالهم. وأخيراً قد ينشأ التصدع المعنوي نتيجة إفراط أحد الأبوين في تعاطي الخمر أو المخدرات ، فيتجاهل أعباءه العائلية ويتناسى دوره التقويمي والتربوي داخل الأسرة ، وربما يحذو الأبناء حذوه فتكون الجريمة قرينتهم.

ولا شك أن الصلة بين التصدع الأسري والسلوك الإجرامي يتفاوت بحسب مصادر التصدع. فالتصدع المادى والتصدع المعنوى الناتجان عن الطلاق أو الهجر أو حبس رب الأسرة أو انشغاله أقوى ولاشك فى أثره على انحراف الأحداث من التصدع الذى يرجع إلى وفاة العائل أو احتجازه مريضاً في إحدى المستشفيات. ومن المؤكد أن التصدع الأسري يتفاوت في أثره بحسب ما إذا كان الفرد الذي يعاني التصدع في أسرته فتاة أم فتى.

ولقد كشفت الدراسات الإحصائية التى أجريت فى هذا الشأن عن انتشار ظاهرة التصدع العائلى بين أسر الأحداث المجرمين. ففي دراسة أجريت بالولايات المتحدة ثبت أن 47% من بين عينة بلغت 3000 من الجانحين ينتمون إلى أسر متصدعة ، وأن من بين كل سبعة من المجرمين الأحداث يوجد ثلاثة آتون من أسر متصدعة. كما أكدت إحصاءات مركز دراسات وبحوث السجون في فرنسا أن 40% من المجرمين المبتدئين كانت تعوزهم رعاية الأم في مرحلة الطفولة ، وأن 70% من المجرمين العائدين كانوا يعانون من التصدع الأسري. وهو الأمر ذاته الذي يكشف عنه البحث الذي أجراه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عن السرقة عام 1955 إذ تبين أن حالات الطلاق في أسر الجانحين تبلغ 10.7% إلى 11% ، في حين أن النسبة العامة للطلاق في مصر آنذاك لم تتعدى 2.3% في الألف من السكان.

158- ثانياً : الخصائص المنطوية على قصور في ظروف الأسرة :

لا يتعلق الأمر هنا بقصور في دور الأسرة أو انحراف أفرادها وإنما بعوامل أخرى يمكن أن تلعب دوراً في الدفع نحو الجريمة. ويقف هنا ضعف موارد الأسرة الاقتصادية وثقل أعبائها كأحد أهم العوامل الإجرامية في البيئة العائلية. فعجز الأسر عن تدبير ضرورات الحياة من ملبس ومأكل ومسكن قد يدفع الآباء إلى تشغيل أبنائهم فى حرف يدوية بدلاً من استكمال دراستهم التى تستلزم نفقات كبيرة ، ولاشك أن خروج الأبناء إلى العمل في تلك السن المبكرة يعرضهم أكثر لاحتمالات الانحراف. وقد يدفع ضعف المورد الاقتصادي ومن ثم عدم القدرة على إشباع متطلبات الأبناء الأساسية إلى محاولة هؤلاء تدبير ما يلزم من أموال بالطرق غير المشروعة ، كالسرقة البسيطة ، التي تطول في البداية أموال الأهل والأصدقاء ، ثم تستطيل فيما بعد إلى أموال الآخرين ، وتتنوع من بعد مسالكه الإجرامية.

ومن بين أوجه القصور أيضاً المرتبطة بظروف الأسرة تلك المتصلة بطبيعة المسكن. فعادة إذا ضعف المركز المالى والاجتماعى للآباء عاشت الأسر في مساكن تتركز في المناطق غير الصحية والعمارات الجماعية وفي المدن المخصصة لسكن العمال ، وهي مناطق تتميز بقيم خاصة بها وقد تؤثر سلباً على تكوين شخصية الطفل الذي ينشأ فيها. ولقد ثبت في فرنسا أن 90% من الأحداث غير المتآلفين اجتماعياً ينتمون إلى تلك المناطق.

ويرتب أيضاً على ضعف المركز الاجتماعي والمالي للعائلة أن تقيم الأسرة في مسكن ضيق ومزدحم بالأفراد ، الأمر الذي لا يمكن لأبناء من أداء واجباتهم المدرسية والاستذكار ، وقد يترتب على ذلك أن يفشلوا فى دراستهم. كما أن ضيق السكن قد يدفعهم إلى إمضاء أوقات الفراغ فى الشوارع مما يسهل اتصالهم برفقاء السوء ومعتادي الإجرام. كما أن ضيق المسكن قد يسهم فى حدوث اتصالات جنسية غير مشروعة بين الأحداث نتاج عدم الفصل
بين الفتيات والفتيان بالمنزل ، أو يدفعهم إلى الشذوذ الجنسى المتعلق بالميل لذات النوع.

جملة القول أن البيئة العائلية إذا ما اشتملت بذاتها أو في ظروفها على أوجه قصور جاز لها أن تكون عاملاً من عوامل السلوك الإجرامي. غير أن الرابطة بين أوجه القصور المختلفة والجريمة ليس حتمياً ، بل يمكن لأوجه القصور تلك أن تكون فى حالات أخرى حائلا دون سلوك سبيل الإجرام. فإجرام بعض أفراد الأسرة قد يكون سبباً فى تماسك بقية أفرادها ومحاولة إنقاذ سمعة الأسرة. كما أن إتباع الآباء منهجاً خاطئاً فى تربية أبناءهم قد يدفع هؤلاء إلى محاولة تأكيد الذات فيبرعون فى مجال من مجالات الحياة. ذات الأمر يقال لضعف مستوى الأسرة الاقتصادي أو الاجتماعي ، فقد يدفع ذلك في بعض الحالات إلى العمل الجاد والابتكار للنهوض بوضع الأسرة ، ولكم أنجبت أسر فقيرة ممن يسكنون الأحياء المتواضعة عمالقة فى شتى العلوم.

المطلب الثانى

الـــوســـط الـــعـــرضـــي (البيئة
المدرسية)

البيئة المدرسية[4] Le milieu scolaire هي الوسط البيئي التالي بعد الأسرة الذي يصادفه الصغير ويمضي فيه وقتاً يطول أحياناً عما يقضيه بين أفراد أسرته. ولاشك أن هناك صلة تربط بين البيئة المدرسية والظاهرة الإجرامية ، صلة تتوقف على توافر أوجه قصور معينة منها : فشل المدرسة في القيام بدورها التهذيبي ، وفشل المدرسة في القيام بدورها التعليمي ، وأخيراً سوء الصحبة المدرسية[5].

فمن المؤكد أن فشل المدرسة فى القيام بدورها في التهذيب قد يدفع بالحدث نحو الانحراف ويصبح نواة حقيقية لمجرم في المستقبل. فالمدرسة هي المعين الذي يستمد منه النشئ القيم الخلقية والتعاليم الدينية ، وكلما كان المعلم ملماً بأسس التربية الحديثة وعلى درجة كافية من الإعداد النفسي والتربوى وقريباً من نفوس طلابه كلما كان استجابة هؤلاء لما يعرض عليهم من فضائل سهلاً وميسوراً.

وقد يقصر المعلم في الإسهام في حل ما يعن للتلاميذ من مشكلات ولا يعينهم على تجاوزها. فالطفل في تلك السن المبكرة له مشاكله ، التي قد تتعلق بقسوة المعاملة الأسرية ، أو بشعور بالفارق الطبقي وتفوق بعض من زملائه عليه فى المظهر أو الإنفاق. وربما يدفعه ذلك إلى تعويض هذه القسوة أو هذا الفارق الطبقي عن طريق السلوك المنحرف كالسرقة أو التعدى على زملائه أو إتلاف ما يملكون. وعلى المعلم ألا يقصر في التصدى بحزم لأي نمط انحرافي ويسارع بإصلاحه تربوياً ، مستعيناً قدر ما يمكن بصلات يقيمها مع أسرة الطفل كي تتم متابعة الطفل في البيئتين (المدرسة والأسرة) من أجل تنشئة الطفل متماسكاً متحلياً بمكارم الأخلاق وحميد الطباع. ذلك الأمر الذي إن أغفله المعلم دفع بالنشئ لأن يكون صيداً سهلاً وعرضة للسقوط في طريق الجريمة.

ولاشك أن فشل المدرسة فى القيام بدورها التعليمي يكون مدعاة في بعض الأحيان إلى تلمس الحدث سبل الإجرام. فإذا مااكتفى المدرس بأداء شروحه من الناحية الشكلية – وهو ما نلمسه في أوقاتنا الحالية – دون أن يعنى بتلمس أثره فى أذهان التلاميذ ، نمى لدى التلاميذ الشعور بالإهمال تجاه المدرسة فيستشعر الفراغ الذهني فيحاول ملئه في بعض الأحيان بانتهاج سلوكيات منحرفة كالانضمام لرفقاء السوء ومشاركتهم في عادتهم المنحرفة.

وقد ينبع فشل المدرسة في أداء واجبها التعليمي من عدم مراعاة المعلم تفاوت التلاميذ فى قدرتهم العقلية وملكاتهم الذهنية وقدرتهم على الاستيعاب ، وتشدد المعلم فى المعاملة حيال من قاصراً في ذلك من خلال ضربه أو الاستهزاء به أمام زملائه. الأمر الذي قد يدفع التلميذ إلى الهرب من المدرسة وقضاء وقتها في الطرقات وبين
جنبات الحدائق ودور السينما وأماكن اللهو برفقة الفاشلين والعاطلين ، فيكون عرضة للانحراف وسلوك سبيل الجريمة.

ولسنا بحاجة إلى التأكيد على أن سوء الصحبة تعد من بين أوجه القصور في البيئة المدرسية. وتنشأ خطورة هذا العامل من كون الحدث يجتمع بتلك الصحبة السيئة داخل المدرسة أو خارجها عند المدرسيين الخصوصيين بعد فشل المدرسة في دورها التعليمي بعيدا عن أى رقابة أو إشراف من قبل البيئة العائلية. ولاشك أن الحدث في سنه المبكرة يكون أسرع في الاستجابة للمؤثرات الخارجية وأميل إلى تقليد زملاءه خاصة ممن يكبرونه سنناً. كما
أن الطفل في تلك السن يكوناً حريصاً على أن يتبادل مع أفراد الصحبة الخبرات والنصائح التي قد يكون بعضها فاسداً. ومع ضعف رقابة المدرسة على تجمعات الأصدقاء داخلها ، وحرص المدرس الخصوصي على جمع الأموال على حساب الجانب التعليمي والتربوي لمجموعات الطلبة لديه ، تصبح المدرسة ومنازل المدرسيين الخصوصيين أقرب ما تكون إلى معامل تفريخ العصابات الإجرامية.

[2] ويشير الفقه أيضاً إلى البيئة العسكرية كأحد الأوساط المفروضة على الشخص. وقد يعاني الفرد خلالها من اضطرابات نفسية وعضوية نتيجة ما يوجبه النظام في معسكرات الجيش من ضبط وربط ووجوب احترام التدرج الرئاسي ونظام الجزاءات ، تجعله لا يتكيف مع المجتمع المدني مرة أخرى.

P.
Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 327 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 575 et
s ; D. Karanikas, Le service militaire et son influence sur la
criminalité, Annales internationales de criminologie, 1966, p. 363 et s.

د. محمد
زكي أبو عامر ، المرجع السابق ن ص204.

[3] راجع حول
لبيئة العائلية وعلاقتها بالسلوك الإجرامي :

P.
Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 363 et s ; R. Gassin, op. cit., p.
418 ; J. Léauté, op. cit., p. 533 et s ;G. Stéfani, G. Levasseur et
R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 124 , J. Pinatel, L’environnement familial, RSC.
1954, p. 79 et s.

د. سيد عويس ، الأسر المتصدعة وصلتها بجناح الأحداث ، الحلقة الأولى
لمكافحة الجريمة ، القاهرة ، 1961 ، ص179 ، د.
في الجمعة مايو 27, 2011 2:32 pm

defaultرد: عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

المطلب الثالث

الوسط المختار (الأسرة الشخصية وبيئة العمل)

تتنوع الأوساط المختارة التي يكونها الشخص برغبته وإرادته والتي تنال من سلوكه السوي وتدفعه إلى السلوك الإجرامي. فهناك وبخاصة الأسرة الشخصية وبيئة العمل.

فمن المؤكد أن أسرة النشأة التي يكونها الشخص باختيار شريكه في الزواج تلعب دوراً هاماً في الدفع أحياناً نحو
الإجرام[1].
فسوء اختيار الشريك والخلافات الزوجية الناجمة عن الارتباط به قد يدفع الشخص إلى الهروب من هذا الوسط إلى أوساط أخرى يوجد بداخلها عوامل إجرامية ، وأحياناً قد يندفع الشخص إلى ارتكاب جريمة تجاه هذا الشريك السيئ.

وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة كبيرة من المجرمين قد عانوا من فشل الزواج وأن العائدين إلى الإجرام نادراً ما يتزوجون ، كما أن نسبة التفكك الناجم عن الزواج تزيد لدى المجرمين عن نظيرتها لدى غير المجرمين. فتؤكد إحصاءات الأمن العام في مصر عام 1982 أن عدد المتهمين في جنايات قد بلغ 2584 منهم 2501 رجلاً و73 امرأة ، وكانت الحالة المدنية للمتهمين موزعة كالتالي : المتزوجون 2011 ، والمطلقون 16 ، والأرامل 28 ، ومن لم يسبق لهم الزواج 519.

ولا يجب أن يفهم من ذلك أن الزواج بذاته يعد عاملاً إجرامياً ، فالأمر في النهاية يتوقف على توافر أو عدم توافر عوامل نجاح الزواج. فهناك من العوامل التي إذا ما توافرت كلما كان الزواج عاملاً مضاداً للإجرام ، ومن ذلك الانسجام العاطفي بين الزوجين ، والتكافؤ الاجتماعي بينهما ، والقدرة المالية للزوج…الخ..

وتأتي بيئة العمل كأحد أهم الأوساط المختارة التي إذا ما شابها بعض القصور كانت عاملاً من عوامل الانحراف والإجرام[2].
فتشير إحصاءات الأمن العام بمصر في 1982 أن من بين عدد المتهمين في جنايات كان يوجد 1047 عامل زراعي و383 عامل عادي وحرفي و171 موظف والبقية من العاطلين.

ومن أوجه القصور في البيئة المهنية التي إن توافرت كانت دافعة في بعض الأحيان لارتكاب السلوك الإجرامي ضعف الرقابة أو انعدامها من قبل رب العمل ، وضعف الأجور واستغلال رب العمل ، وطبيعة المهنة ، واشتغال الصبية بالأعمال الحرفية ، وغياب التأهيل المهنى.

فمما لاشك فيه أن الرقابة التى يوم بها رب العمل تحول دون وقوع كثير من الجرائم ، فهى تشكل عائقاً نفسياً يمنع الكثيرين من تخطي حاجز الإجرام. فإذا ضعفت الرقابة الحكومية على الموظفين فشت بينهم جرائم الرشوة والاختلاس والاستيلاء على المال العام والعدوان عليه أو الإضرار به ، وكذلك الحال فى مجال العمل الخاص حيث أن انعدام رقابة صاحب العمل قد يدفع إلى ارتكاب جرائم السرقة والتبديد
من جانب بعض العاملين لديه.

كما أن ضعف الأجور واستغلال رب العمل يمثل أحياناً عاملاً في الدفع نحو الجريمة. فمتى كان العاملين – سواءً فى الحكومة أو في القطاع الخاص – لا يتقاضون مرتبات أو أجور تحفظ لهم مستوى معيشي مقبول ، فإن عددا من الجرائم ينتظر أن يقع منهم سواء فى إطار العمل ، كالرشوة والاختلاس والاستيلاء والتربح ، أو خارج هذا الإطار كالسرقة والنصب وخيانة الأمانة وإعطاء الشيك بدون رصيد.

وقد تكون طبيعة بعض المهن بذاتها عاملاً إجرامياً متى كانت تؤدى إلى إكساب من يمتهنها خبرة تشجعه أحياناً على ارتكاب بعض الجرائم أو الاشتراك فيها. فصانع المفاتيح والأقفال قد يكتسب خبرة من عمله تعينه على ارتكاب جرائم سرقة الخزائن أو المحال التجارية ، ولذا فإن المشرع وإن عاقب على تقليد المفاتيح أو التغيير فيها أو صنع آلة ما مع توقع استعمال ذلك فى ارتكاب جريمة ، فإنه قد شدد العقاب على ذلك إذا كان الجانى محترفاً صناعة عمل المفاتيح والأقفال. ومن ذلك أيضاً التشديد فى العقاب على السرقة الواقعة من خدم المنازل أو محترفى نقل الأشياء. كذلك الحال إذا وقع الإجهاض من طبيب أو جراح أو صيدلى أو قابلة.

وقد تكون المهنة سببا فى ارتكاب بعض الجرائم ، كتلك التى تقع ممن رخص لهم القانون الاتصال بالمواد المخدرة إذا تجاوزوا حدود هذا الترخيص ، والاشتغال بمهنة الجزارة أو مجهزي الموتى حين إقدامهم على ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص.

كما أن اشتغال الصبية ببعض الأعمال الحرفية ، إما لفقر أسرهم أو بسبب الفشل فى استكمال دراستهم قد يحيطهم بكثير من عوامل الانحراف. فالصبي في تلك السن المبكرة يبتعد عن رقابة والديه وقتا طويلا من النهار ، يختلط فيه بمن يكبرونه سنا فى العمل ، وقد يكتسب منهم عادات أو خبرات فاسدة. كما أن الصبي عادة ما لا يتقاضى أجراً كافياً يشبع احتياجاته فيندفع إلى استكمال هذا الإشباع بارتكاب السرقات سواء في العمل أو خارجه. كما أن الصبي يستشعر الدونية بين أبناء سنه حي يشاهدهم يواصلون دراستهم وينعمون برعاية وعناية أسرهم فيقوم بالتنفيس عن هذا في صورة سلوك إجرامى ينم عن عداء متواصل لأسرته وللمجتمع بصفة عامة.

وأخيراً فإن غياب التأهيل المهنى قد يكون هو الأخر سبباً من أسباب الجريمة. فغياب التدريب الكافي على استعمال بعض الآلات والماكينات قد يتسبب في وقوع الكثير من إصابات وحوادث العمل ، أو يتسبب في ضعف مهارة العامل ، الأمر الذي قد يؤدي إلى أن يفقد العامل مورد رزقه بفقد العمل ذاته ، أو انخفاض الأجر إذا قلت مهارته على أثر نقص التدريب وغياب برامج رفع الكفاءة ، وفي الحالتين قد لا يجد العامل سبيلاً لإشباع متطلبات حياته وحياة أسرته سوى إتباع السبل غير المشروعة والسقوط في سبيل الجريمة.

يبين من ذلك أن هناك صلة بين بيئة العمل والظاهرة الإجرامية ، غير أنها تلك تظل صلة غير مباشرة. من أجل ذلك عنت غالبية الدول بإصدار تشريعات تنظم جوانب العمل المختلفة بقصد استئصال العوامل الإجرامية التى يمكن أن
تتوافر فى بيئة العمل : كتشريعات العمل والتأمينات الاجتماعية ، والتأمين ضد إصابات العمل ، واللوائح المنظمة لتشغيل الأحداث والنساء ، وتقرير حدود دنيا للمرتبات والأجور…الخ. كما تحرص التشريعات الجنائية في معظم الدول على تقرير جزاءات تهدف إلى قمع الجرائم التي ترتكب بسبب أو بمناسبة الوظيفة
أو العمل.

المبحث الثالث

الــعــوامــل الاقــتــصــاديــة

159- تقسيم :

سبق وأن أشرنا إلى أن البعض قد ربط بين الظاهرة الإجرامية وبين منهج النظام الاقتصادي ذاته ، محاولين القول بحتمية الربط بين ميكانيزم النظام الرأسمالي والدفع نحو الجريمة. ومع ثبوت خطأ هذه الوجهة من النظر مال البعض إلى الربط بين السلوك الإجرامي وبين عدد آخر من الظروف الاقتصادية ، كالتحولات في النظام الاقتصادي ، والفقر ، والبطالة ، والتقلبات الاقتصادية التي تنال من الأسعار والدخول الفردية وقيمة العملة الوطنية ، والانتعاش الاقتصادي.

المطلب
الأول

التحول الاقتصادي والسلوك الإجرامي

لم يكن التحول الاقتصادي الذي شهدته المجتمعات بانتقالها على أثر الثورة الصناعية من اقتصاديات زراعية إلى اقتصاديات قائمة على الآلة خلوا من انعكاسات على كافة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل المجتمع ، ومن ذلك ولا شك الظاهرة الإجرامية ، التي طالها هي الأخرى تحول كمي ونوعي[3].

ومن بين مظاهر هذا التحول ارتفاع نسبة بعض الجرائم التقليدية. فقد كان تحول المجتمعات من الاقتصاد الزراعى إلى الاقتصاد الصناعى مصحوباً بزيادة فى نسبة ارتكاب بعض الجرائم عما كانت عليه من قبل ، ويرجع ذلك إلى تحول نسبة كبيرة من عمال الزراعة في الريف إلى العمل الصناعي أو الآلي في المدن ، الأمر الذي استوجب زيادة الهجرة من الريف إلى المدن حيث تتركز الصناعات. ولقد سبق لنا الإشارة إلى أثر هذه الهجرة عند بيان
الاختلاف الكمي والنوعي بين إجرام المدن وإجرام الريف ، والذي يبدو في زيادة معدل ارتكاب الجرائم التقليدية عاماً ، وعلى الأخص جرائم الأموال وجرائم الاعتداء على العرض.

ولقد صاحب تحول المجتمعات من النمط الزراعي إلى النمط الصناعي تحول في طبيعة الإجرام. فالمجتمعات الزراعية تكاد تقتصر على نمط الإجرام الطبيعي ، في حين يشيع ارتكاب الجرائم المصطنعة في المجتمعات الصناعية. ففى هذه الأخيرة تزداد المصالح وتتشعب ، مما يحمل المشرع على إصدار عدد من القوانين والتنظيمات اللائحية القابلة للانتهاك التى تحمى مصالح العمال وأرباب العمل ، وتشغيل الأحداث والنساء ، وكذلك القوانين المتعلقة بالضرائب بالمنشآت التجارية والصناعية والمحال العامة ، وتلك التى تنظم استخدام الطرق والماكينات…الخ.

ويمكننا أن نلحظ ذات الشئ حين ينتقل المجتمع من نظام اقتصادى رأسمالى إلى نظام اقتصادى اشتراكى. فهذا
الأخير يقوم على مبدأ ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وتدخل هذه الأخيرة فى توجيه الاقتصاد القومى على نحو يكفل تحقيق الكفاية فى الإنتاج والعدالة فى التوزيع. وعادة ما يصحب هذا التحول ازدياد التجريمات المرتبطة بفكرة المال العام ، كجرائم الاختلاس والاستيلاء على المال العام والعدوان عليه أو الإضرار به ؛ أو تلك المرتبطة بفكرة حماية المنتجات الوطنية ، كجرائم التهريب الجمركى والغش التجارى ؛ وفكرة حماية العملة الوطنية ، كجرائم النقد…الخ.

المطلب
الثانى

الـفـقـر
والـسـلـوك الإجرامـي

160-
تقسيم :

يتعين علينا قبل بيان تفسير الصلة بين الفقر
La pauvreté كعامل اقتصادي وبين الظاهرة الإجرامية من الناحية الكمية والنوعية ، أن نبين الطرق المختلفة التي استخدمتها البحوث الإجرامية لقياس أثر الفقر على السلوك الإجرامي[4].

161-
أولاً : طرق قياس أثره الفقر على الظاهرة الإجرامية :

يقصد بالفقر عجز الموارد عن تغطية الاحتياجات الأساسية أو الضرورية للفرد. ولعل هذا التعريف يكشف عن المفهوم النسبي للفقر ، ذلك أن ما يعد من قبيل الاحتياجات الأساسية الضرورية يختلف باختلاف الزمان والمكان سواء داخل المجتمع الواحد أو من مجتمع لأخر. فما يعد داخل المجتمع ضرورياً اليوم ربما كان بالأمس ترفاً ،
كامتلاك وسائل الإعلام المختلفة أو امتلاك السيارات والتليفونات الذي صار اليوم من ضروريات الحياة. وكذلك ما يعد ضرورياً فى مجتمع معين قد يعتبر كمالياً فى مجتمع آخر.

ولقياس أثر الفقر على الظاهرة الإجرامية اتبع الباحثون فى هذا الشأن أسلوبان : إما التحقق من الطبقات الاقتصادية التى ينتمى إليها المجرمين ، وإما التحقق من المهن والأعمال التى يشغلونها.

فتؤكد غالبية الإحصاءات الجنائية أن غالبية المجرمين ينتمون إلى الطبقات الفقيرة ومحدودي الدخل ، فنسبة المجرمين بين أفراد تلك الطبقات تجاوز نسبة أفراد هذه الطبقات إلى تعداد السكان فى مجموعهم. غير أنه يجب الحذر عند إتباع هذا الأسلوب في القياس ، ذلك أن ارتفاع حجم الإجرام فى الأوساط الفقيرة ربما يكون راجعاً إلى أن الفقراء يمثلون الكثرة من أفراد المجتمع فى معظم البلدان ، مما يستوجب من أجل تحديد تأثير الفقر على الإجرام أن يتم تعداد الفقراء وتعداد الأثرياء أو الميسورين ثم الوقوف على نسبة إجرام الأولين إلى تعدادهم ونسبة إجرام الآخرين إلى تعدادهم أيضاً ، وهو أمر ليس من الميسور القيام به. ومن ناحية أخري فإنه يتعذر إيجاد معيار محدد وواضح للفقر لا يقوم على التحكم.

كما تكشف الإحصاءات عن أن هناك رابط بين الظروف الاقتصادية التى يحياها أبناء كل مهنة وبين السلوك الإجرامي لهؤلاء. فتؤكد البحوث الإجرامية ارتفاع نسبة الإجرام بين عمال الزراعة والصناعة وانخفاضها بين أرباب العمل فى هذه المهن. كما كشفت عن عكس ذلك فى المهن التجارية حيث تزيد نسبة إجرام أصحاب المشروعات التجارية على نسبة إجرام العاملين فيها ، وعن انخفاض نسبة الإجرام بصفة عامة لدى أصحاب المهن الحرة. ففي إحصاء 1982 لمصلحة الأمن العام في مصر تبين أن أقل المهن ارتكاباً للجنايات هي مهن الطب والتمريض ورجال القوات المسلحة (13 متهماً) ، ثم رجال التعليم (25 متهماً). وكان المزارعون أكثر مرتكبي جرائم القتل (662 متهماً من بين 1155 متهماً) ، وكان الحرفيون أعلى نسبة بين مرتكبي جنايات الضرب المفضي لموت (54 متهماً من بين 195 متهماً) وجنايات السرقة (57 متهماً من بين 195 متهماً) وجنايات هتك العرض والاغتصاب (61 متهماً من أصل 174 متهماً).

كل هذا يسوغ القول بوجود علاقة بين الفقر وارتكاب الجريمة ، وأنه كلما تدنى دخل الفرد ومستواه الاجتماعي كما زاد معدل جرائمه ومالت إلى العنف.

وقد مال البعض لبيان العلاقة بين الفقر والجريمة إلى دراسة احتراف الإجرام وامتهانه ، على أساس أن بلوغ المجرم درجة الاحتراف يكون بدافع تكسب الرزق من وراء الجريمة. والواقع أن هذا الأسلوب يصادفه صعوبة تحديد عدد محترفي الإجرام بالنسبة إلى عدد المجرمين ككل. فالمجرم المحترف يتميز بمهارة وذكاء تجعل احتمال القبض عليه أقل من احتمال القبض على غيره من المجرمين العاديين ، مما مؤداه أن عدد المحترفين المودعين فى السجون لا يمثل إلا جزءً بسيطا من العدد الحقيقي لهم. كما أن هذا الأسلوب يغفل أن احتراف الإجرام قد يرجع إلى عيب خلقى أو شذوذ نفسى يساهم على نحو أو آخر فى تكوين المجرم المحترف.

غير أن البعض يتمسك بصلاحية هذا الأسلوب في قياس أثر الفقر على الظاهرة الإجرامية قائلين أنه حتى لو كان السلوك الإجرامي يعود لمرض نفسي أو عيب خلقي فإنه يظل للعامل الاقتصادي أثره الغالب لأنه لو فرضنا أن الظروف الاقتصادية كانت أفضل لكان من شأنها أن تعوق أو تعادل تأثير العيوب الخلقية أو النفسية وتحول بينها وبين الدفع للإجرام.

162- ثانياً : تفسير الصلة بين الفقر والظاهرة الإجرامية :

لقد اختلف العلماء في مجال دراسات الجريمة حول تفسير الصلة بين الفقر وبين الظاهرة الإجرامية ، ويمكننا أن نصادف في هذا الصدد ثلاثة أراء :

فهناك من رأى أنه لا توجد للفقر أية صلة سببية بالسلوك الإجرامي ، قائلين بأن هذا الأخير والفقر يرجعان معاً إلى عامل واحد هو الشذود النفسي أو العضوي في تكوين الفرد. فالفقر والإجرام نتيجتان لسبب واحد ، ولا يعد أحدهما سبباً للآخر. بيد أن هذا الرأي مردود عليه بأن نسبة كبيرة من أفراد المجتمع من الفقراء لا يعانون شذوذاً وليسوا من المجرمين ، فى حين نجد أن كثيراً من هؤلاء لا يعانون شذوذاً ولا يشكون الفاقة والعوز.

ولقد تطرف البعض إلى حد القول بأن الفقر هو العامل المباشر الذي يقف وراء الجريمة. ويبين أن مؤيدي هذا الرأي هم من أنصار المدرسة الاشتراكية القائلين بأن الفقر الذي يرجع إلى مساوئ التنظيم الاقتصادي فى المجتمع الرأسمالي هو الذي يقف وراء الظاهرة الإجرامية. فلديهم أن الاقتصاد الحر القائم على تركيز وسائل الإنتاج في يد عدد قليل من الأفراد يتحكمون عن طريقه فى صور النشاط الاقتصادي يؤدي إلى الانتقاص من حقوق العمال فلاهم يحصلون على القيمة الحقيقية لعملهم ولا على النصيب العادل فى ناتج هذا العمل. وهكذا يحدث اختلال فى توزيع الدخل القومى وإثراء قلة على حساب غالبية أفراد المجتمع ، وفى ذلك ما يدفع بعض الفقراء من العمال إلى سبيل الجريمة يعبرون بها عن سخطهم على أصحاب رؤوس الأموال ويحصلون عن طريقها على ما يسد احتياجاتهم التى لا تشبعها الأجور المتواضعة التى يحصلون عليها.

والواقع أن هذا الاتجاه رغم صحة بعض فروضه إلا أنه يتطرف في استخلاص النتائج نظرا لأنه يعطى كل الأهمية للعامل الاقتصادي فى تأثيره على السلوك الإجرامي ، مغفلا بذلك أهمية العوامل الأخرى. فضلاً أن خلل التنظيم الاقتصادي يصيب أيضاً المجتمعات التي تبنت المنهج الاشتراكي ، فلا الفقر اختفي من تلك الأخيرة ولا الجريمة بدورها.

ولقد ذهب نفر من أنصار المدرسة الوضعية إلى القول بأن الفقر ليس سوى عاملا مهيأ يتضافر مع عوامل أخرى فينتج السلوك الإجرامي ؛ فهو ليس العامل الوحيد وراء تشكيل ذلك السلوك. ولدى هذا الرأي أنه يلزم كي يكون الفقر عاملاً إجرامياً أن يصادف شخصاً على قدر من التكوين الإجرامي أو الاستعداد له ، فيكون الفقر بذلك عاملاً مساعداً ومهيئاً للتردى فى سبيل الجريمة. وحجة هذا الرأي تتلخص في أن القول بغير ذلك يوجب أن يرتكب الفقراء جميعهم الجريمة ، وأن يصبح الأثرياء جميعهم من الشرفاء ، وهو أمر يكذبه الواقع تماماً ؛ فكم من الفقراء ينعمون بفقرهم يقاومون المغريات المادية ، وكم من الأغنياء لا يزيدهم الثراء إلا  في جمع المال ولو باللجوء للطرق غير المشروعة.

غير أنه يعيب هذا الرأي أنه يقعد بالباحثين فى علم الإجرام عن تدبير أسباب مكافحة الجريمة عن طريق التصدى للعوامل الاقتصادية الدافعة للإجرام ، ومنها عامل الفقر.

163- ثالثاً : صلة الفقر بالسلوك الإجرامي كماً ونوعاً :

لاشك أنه توجد صلة بين الفقر والسلوك الإجرامي سواء في كم هذا الأخير أو في نوعه.

[1] راجع حول
الموضوع :

J.
Léauté, op. cit., 599 et s ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 384.

د. محمود
نجيب حسني ن المرجع السابق ، ص206 وما بعدها ، د. جلال ثروت ، المرجع السابق ،
ص134 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ،
المرجع السابق ، ص205 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص378 وما
بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص149 وما
بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص286 وما بعدها.

[2] راجع حول
أثر بيئة العمل على الظاهرة الإجرامية :

P.
Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 383 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 579
et s ;G. Stéfani, G. Levasseur et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 262.

د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، 201 وما بعدها ، د. فوزية عبد
الستار ، المرجع السابق ، ص176 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق
، ص206 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص262 وما بعدها ، د.
أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص252 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع
السابق ، ص380 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع
السابق ، ص143 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص266 وما بعدها ،
د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص281 وما بعدها.

defaultرد: عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

164- أ : صلة الفقر بالجريمة من حيث الكم :

قد تكون صلة الفقر بالجريمة من حيث الكم صلة مباشرة وقد تكون صلة غير مباشرة. وتكون الصلة بينهما مباشرة إذا أحدث الفقر ضغطاً اقتصادياً على الفرد يتمثل فى الحرمان من الحاجيات الضرورية. فقد يندفع البعض إلى السلوك الإجرامي بهدف إشباعها. ويكون التأثير غير مباشر إذا لم يصل الفقر إلى هذا الحد من الحرمان ، ولكنه حرك عوامل إجرامية أخرى مما سبق لنا أن تناولناه. فالفقر يؤدى إلى الوهن الجسدي والإصابة بالأمراض مما قد يقعد الشخص عن العمل. كما أن الفقر يدفع بالشخص إلى سكنى الأحياء المزدحمة بالسكان حيث لا تتوافر فيها الشروط الصحية ، وحيث يخالط الفرد فيها كثيرا من النماذج الإجرامية. كما قد يؤدى الفقر والرغبة فى رفع مستوى المعيشة إلى اشتغال الأب والأم خارج المنزل طوال النهار أو السفر بعيداً عن الأسرة مما قد يخلق تصدعاً معنوياً أو مادياً بين أفراد الأسرة. وقد يؤدى الفقر إلى اضطرار الأبناء إلى عدم مواصلة التعليم وترك المدرسة فى سن مبكرة لممارسة حرفة يدوية ويقفون بالتالي على شفا الانحراف.

ومن الإنصاف التأكيد على أن هذه الصلة غير المباشرة وهذه العوامل الإجرامية التى يحركها الفقر لا تترتب عليه وحده وليست من لوازمه. فهى ان صاحبت الفقر فى بعض الأحيان فقد تصاحب الثراء فى أحيان أخرى. فسكنى الأحياء المزدحمة واشتغال الوالدين خارج المنزل وعدم مواصلة الأبناء للتعليم ليست مرتبطة حتماً بسوء الأحوال المادية.

165- ب : صلة الفقر بالجريمة من حيث النوع :

يتعين التأكيد على أن الفقر إذا كان يتجلى بوضوح في نطاق جرائم الأموال ، فإن ذلك ليس معناه أنه لا يباشر تأثيراً في الأنواع الأخرى من الجرائم ، كجرائم الاعتداء على الأشخاص وجرائم الاعتداء على العرض. على أن يلاحظ أن هناك طائفة من الجرائم لا تلعب العوامل الاقتصادية فيها دوراً ملحوظاً ، ومنها الجرائم التى ترجع إلى عوامل فردية داخلية أكثر من رجوعها إلى عوامل خارجية كإجرام الشواذ ، والجرائم التى ترتكب بهدف الانتقام مثل الإتلاف والحريق وتسميم الماشية ، وكذا الحال بالنسبة للجرائم المتعلقة بالأديان.

فالحق أن جرائم المال هى أكثر الجرائم تأثراً بالعوامل الاقتصادية ، ذلك أن الدافع الرئيسي إلى تلك الجرائم هو الضغط الاقتصادي الذى يدفع إلى إتباع الطرق غير المشروعة من أجل إشباع حاجة أساسية من مسكن أو ملبس أو مأكل ، وربما تحقيق مستوى معيشي أفضل[1].

وتتوقف طبيعة جريمة الأموال المرتكبة على عوامل أخرى اجتماعية. فجرائم السرقة المشددة والسطو على المساكن والسرقة بالإكراه يكثر ارتكابها من جانب الطبقات الاجتماعية الدنيا أو من جانب أهل المناطق الريفية ، أما فى المستويات الاجتماعية الأعلى وفى المناطق الحضرية والمدن فإننا نصادف جرائم النصب والغش التجارى والجرائم الواقعة فى محيط الأعمال. كما ترتفع نسبة جرائم التشرد والتسول تحت تأثير عامل الفقر لدى من يعانون شذوذاً عضوياً أو نفسياً.

وعلى الرغم من أن أكثر جرائم المال ترتكب تحت تأثير الفقر ، فإن الدافع إليها قد لا يكون فقراً بل يمكن أن يكون لمجرد إشباع الرغبة فى الانتقام من المجنى عليه ، أو التأثر بمرض فى العقل أو فى النفس ، وقد يكون الدافع هو استغلال حاجة الغير كالجرائم التموينية التي تكثر في فترات الحروب والأزمات الاقتصادية. وفي حالات ليست بالقليلة قد يكون الدافع هو رغبة الشخص في تحقيق المزيد من الرفاهة والرخاء.

وقد يكون الفقر عاملاً إجرامياً في مجال جرائم الاعتداء على الأشخاص. فالتوتر النفسى والعصبى الذى ينتج عن ضيق ذات اليد قد يكون له دخل فى ارتكاب جرائم مثل القتل والضرب والجرح. وقد تكون الخشية من أعباء اقتصادية جديدة سبباً فى جرائم الإجهاض وقتل الأطفال حديثى الولادة ، وقد يصل الأمر أحياناً حد الانتحار. وربما يبرر أيضاً وقوف الفقر وراء هذه النوعية من الجرائم أن الفقر عادة ما يصاحبه انخفاض مستوى الثقافة والتعليم الأمر الذي يجعل من العنف سبيل الأفراد الأول فى حل مشاكلهم.

ويلعب الفقر دوره أيضاً في مجال جرائم الاعتداء على العرض. فالظروف الاقتصادية الصعبة التى الأسرة قد تفرض على أفرادها السكنى في أماكن غير مناسبة مما يزيد من فرص الاختلاط الشاذ والزنا وهتك العرض…الخ. كما أن الأزمة المالية التي تواجه الشباب من أجل الحصول على مسكن والتأهب لبدء حياة زوجية وارتفاع معدل العنوسة لدى الفتيات قد يدفع إلى محاولة إشباع الغريزة الجنسية بالطرق غير المشروعة. فضلاً عن أن الفقر قد يدفع النساء إلى ارتكاب جرائم الدعارة والقوادة بهدف رفع مستوى المعيشة.

المطلب
الثالث

الـبـطـالـة
والـسـلـوك الإجرامـي

تعني البطالة Chômage توقف أو قعود الشخص عن العمل دون أن يكون له مورد رزق ثابت أو وسيلة مشروعة لإشباع احتياجاته الأساسية.
وعادة ما ترجع البطالة إلى اختلال فى التوازن بين عرض اليد العاملة والطلب عليها ، أى حين يكون المعروض منها أكثر من المطلوب. ولعل أكثر ما ساعد على تضخيم حجم البطالة فى الوقت الحاضر هو التوسع التكنولوجى فى استخدام الآلة والأجهزة الحديثة التى توفر عدداً كبيراً من اليد العاملة البشرية.

وقد تكون البطالة أو القعود عن العمل اختيارياً ، متى كان الشخص قادراً على العمل ووجدت فرصته متاحة أمامه ، ويطلق البعض على هذا الفرض مسمى “التبطل” ؛ وقد تكون جبرية وذلك إذا كان القعود راجعاً إلى انعدام فرصة العمل أمام الشخص لأسباب لا دخل له فيها. هذا الفرض الأخير هو الذي يفرق البطالة عن حالة العجز الشخصي عن العمل ، التي تتحصل فى عدم القدرة العمل لأسباب صحية أو عضوية. وهذا الفرض الأخير قلما يعنى الباحثون فى علم الإجرام نظرا لأنه قلما يترتب عليها عوامل إجرامية تدفع إلى التردي في سبيل الجريمة.

ولا شك أن هناك صلة تربط بين البطالة وبين السلوك الإجرامي تظهر في تأثر هذا الأخير كماً ونوعاً بالقعود عن العمل ؛ غير أن تلك الصلة قد تكون مباشرة أو غير مباشرة[2].

وتكون الصلة بينهما مباشرة إذا جرم المشرع – وهو مسلك المشرع المصرى في القانون رقم 98 سنة 1945 والقوانين المعدلة له – حالات القعود الاختياري عن العمل (جرائم البطالة أو التبطل) ، الأمر الذي يسهم فى زيادة عدد الجرائم المرتكبة. ويفسر هذا التجريم برغبة المشرع فى الوقاية من جرائم مستقبلة ، ذلك أن القعود الاختياري عن العمل من جانب الشخص دون أن يكون له مورد للرزق يعني أنه سوف يلجأ لطرق غير مشروعة ومن بينها الإجرام من أجل سد احتياجاته الضرورية.

والواقع أننا لا نرحب بهذا الشكل من أشكال التجريم في تشريعنا ، ذلك أن المشرع لا يجرم هنا فعلاً أو امتناعاً عن فعل ، وإنما ينصب التجريم على حالة عالقة بالشخص تتحصل فى القعود عن العمل رغم توافر فرصته والقدرة عليه وانعدام أى مورد آخر للرزق والعيش ، وهو ما يخالف القواعد العامة في التجريم. غير أن تأثير البطالة في غير ذلك من حالات يبدو تأثيراً غير مباشر على السلوك الإجرامي ، إذ يقتصر دورها على تحريك عوامل إجرامية أخرى تدفع بمن يقعد عن العمل إلى السلوك الإجرامي (إجرام البطالة).

ولعل الفقر أهم العوامل الإجرامية التي تتحرك بفعل البطالة ، فيعمل الفقر أثره سالف البيان في الدفع نحو السلوك الإجرامي. وربما هذا ما يفسر ميل الإجرام الناشئ عن البطالة نحو جرائم الاعتداء على المال ، أو جرائم العرض التي تدر عائداً مالياً كالدعارة أو القوادة أو التحريض على الفسق. وقد دلت دراسة إحصائية في الولايات المتحدة عام 1976 شملت الفترة من 1940 إلى 1973 لبيان أثر البطالة ، تبين أن ارتفاع معدل البطالة بنسبة 1% يقترن به عادة ارتفاع معدل الانتحار بنسبة 4.1% ، وزيادة معدل الإصابة بالأمراض العقلية بنسبة 3.4% ، وارتفاع معدل المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية بنسبة 4% ، وازدياد معدل جرائم القتل بنسبة 5.7%.

ويجب التنويه بأن للبطالة أثر إجرامي غير شخصي ، يظهر حينما لا يقف أثرها على من تصيبه بل يمتد أثرها إلى غيره حتى ممن يعملون. فبطالة البعض تؤدي إلى زيادة عرض اليد العاملة مما يدفع أرباب العمل إلى خفض أجور
من يعملون ، مما يثقل أعباء البعض من هؤلاء فينزلقون نحو الإجرام من أجل زيادة مواردهم.

المطلب
الرابع

التقلبات
الاقتصادية والسلوك الإجرامي

166-
تمهيد وتقسيم :

يقصد بالتقلبات الاقتصادية الأزمات الطارئة التي تنتاب الاقتصاد القومي. وتتصف هذه التقلبات على العكس من التطور الاقتصادي بالسرعة وبكونها عارضة ولا تمكث طويلا ، غير أن أثرها ينعكس علي مجمل نواحي الحياة ومنها بلا شك الظاهرة الإجرامية.

ولعل أهم التقلبات الاقتصادية صلة بالسلوك الإجرامي تقلب الأسعار ، وتقلب الأجور ، وتقلب قيمة العملة[3].

167- أولاً : تقلب الأسعار والسلوك الإجرامي :

قد يصادف الاقتصاد القومي أزمة عارضة تؤثر على معدل الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً ، نتيجة صعوبة تحقيق التناسب بين كمية المعروض من السلع وحجم الطلب عليها ، الأمر الذي يؤثر بدوره على معدل الظاهرة الإجرامية ارتفاعاً وهبوطاً. فلقد كشفت الدراسات الإجرامية التي أجريت في فرنسا وألمانيا وانجلترا عن وجود علاقة بين أسعار السلع الأساسية وبين جرائم الاعتداء علي الأموال ، حيث تميل نسبة هذه الجرائم إلي الارتفاع بارتفاع أسعار هذه السلع ، وتميل إلي الانخفاض بانخفاضها.

فارتفاع أسعار السلع ، وخاصة الأساسي منها ، يؤدي إلي زيادة تكاليف المعيشة بالنسبة لطبقة محدودي الدخل من صغار الموظفين والعمال ، مما قد يدفع بعض أبناء هذه الطبقة إلي اللجوء إلي طرق غير مشروعة للحصول علي المال الكافي للإشباع الاحتياجات الضرورية.

كما أن ارتفاع أسعار السلع قد يؤدي إلي تحريك عوامل إجرامية أخري . فارتفاع الأسعار عادة ما يدفع المستهلك إلى الإقبال على السلع البديلة فينكمش الطلب علي ما ارتفعت أسعاره من سلع ومنتجات ، فيقل تصريف المعروض منه بما يهدد في نهاية الأمر بعض المشروعات بالإفلاس ، فيعمد المنتج إلي الإقلال من الأيدي العاملة لتخفيض النفقة الإنتاجية حتى يصمد أمام المنافسة مما يزيد من نسبة البطالة وما تؤدي إليه من مثالب.

ولا بد من الأخذ في الاعتبار أن ارتفاع الأسعار لا يحدث هذا الأثر السلبي في تحريك مؤشر الجريمة إذا صحب هذا
الارتفاع رفع في معدل الأجور والدخل الفردي ، ومن ثم ثبات القوة الشرائية للأفراد.

وقد يؤدي بالمثل انخفاض الأسعار إلي نتائج إجرامية أخري. فانخفاض الأسعار يرتفع مستوي المعيشة ويمكن عدداً كبيراً من الأفراد من الحصول علي السلع اليومية الضرورية بالطرق المشروعة ، مع بقاء نسبة من الدخل مكتنزة فيندفع الشخص على أثر تلك الوفرة المالية إلى إنفاقها على الملذات والشهوات فتزيد بذلك نسبة جرائم الاعتداء العرض ، وتناول المسكرات والمخدرات التي تضعف إرادته تجاه المؤثرات الخارجية.

كما أن انخفاض الأسعار قد يدفع أرباب الأعمال إلى خفض معدل إنتاجهم ، فيستغنون عن بعض من حجم العمالة فتزداد البطالة التي قد تودي بالفرد إلى السقوط في هوة الجريمة.

غير أن انخفاض الأسعار هذا لن يحدث هو الآخر أثره السلبي ونتائجة الإجرامية إذا واكبه خفض للأجور مما يعمل على ثبات القوة الشرائية ، مع عدم بقاء فائض دخل يثير في الفرد رغباته الآثمة.

168- ثانياً : تقلب الدخول والسلوك الإجرامي :

قد يصيب التقلب الدخول كما يصيب الأسعار. وتدل البحوث في مجال علم الإجرام إلى ارتباط الظاهرة الإجرامية عكسياً في كمها بتقلب الدخول ارتفاعاً وانخفاضاً. فقد لوحظ أن معدل جرائم الاعتداء على الأموال من سرقة ونصب وخيانة أمانة وإعطاء الشيكات بدون رصيد ، ومعدل جرائم العدوان على المال العام من اختلاس واستيلاء وتربح وغدر يرتفع بانخفاض الدخل الفردي.

كما ثبت أن ارتفاع الدخل الفردي يمكن الأفراد من شراء ما يلزمهم من سلع ضرورية وترفيهية ، مع إمكانية تحقيق فائض في الدخل ، يميل البعض إلى إنفاقه علي الشهوات والملذات التى تعد بعض صورها جرائم.

وتصدق هنا ذات الملاحظة التي سبق وأن ذكرناها بشأن أثر ارتفاع أو انخفاض الأسعار على السلوك الإجرامي ، والتي مؤداها أن ارتفاع الدخول أو انخفاضها لن يؤدى إلى الدفع نحو الجريمة إلا مع فرض ثبات معدل الأسعار. أما إذا انخفضت الأسعار بذات نسبة انخفاض الدخل ، أو حدث أن ارتفعت الأسعار مع حدوث ارتفاع في معدل الدخول الفردية فليس من المنتظر أن يطرأ علي معدل الجرائم أي تغير ملحوظ.

كما تجب ملاحظة أن انخفاض الدخل الفردى لا يؤدى إلي ارتفاع معدل جرائم الأموال إلا إذا كان معدل الانخفاض كبيراً بحيث يصل بالأجر إلي الحد الأدنى أو ما دونه بحيث لا يكفي لإشباع الحاجات الضرورية. أما إذا كان الدخل
الفردي من حيث المبدأ مرتفعاً فلن يؤدى تخفيضه البسيط إلي تأثير يذكر علي حركة الإجرام.

ولا يجب أن يغيب عن البال أن انخفاض الدخل لا ينتظر أن يحدث أثراً سلبياً داخل المجتمعات التي تكفل لمواطنيها أو القاطنين على أرضها عن طريق الإعانات المختلفة حداً أدنى من الضمان الاجتماعي ، مما يجعل الفرد في تلك البلدان – رغم انخفاض دخله – يستشعر الأمل في مستوى معيشي أفضل ويتروى قبل الإقدام على أي عمل غير مشروع.

169- ثالثاً : تقلب قيمة النقد والسلوك الإجرامي :

تتعرض قيمة النقد في غالبية دول العالم لتقلبات يومية بين الهبوط والصعود. وهبوط أو انخفاض قيمة النقد يعنى ضعف قوته الشرائية بالقياس إلي النقد الأجنبى ، فكأنه في حقيقة الأمر تخفيض للدخل بدون تخفيضه. أما ارتفاع قيمة النقد فيعنى زيادة قوته الشرائية بالقياس للنقد الأجنبى ، فكأنه زيادة في الدخل بدون زيادته.

وعادة ما يحدث التقلب في قيمة النقد على أثر ظروف سياسة تطرأ كالحروب والانقلابات أو تغير السلطة الحاكمة في بلد ما ، أو نتيجة إجراءات اقتصادية تتخذ على المستوى الوطني كالتأميم وتقييد حركة رؤوس الأموال.

ولا يعنى الباحثون في علم الإجرام بتقلبات النقد الطفيفة شبه اليومية بحسبانها أمراً مألوفاً قلما يحدث أثراً على حياة الأفراد. أما ما يجذب انتباه الدراسات الإجرامية فهى تلك التقلبات التي علي درجة من الأهمية أو الجسامة بحيث تؤثر في مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، كتلك التقلبات التي حدثت في ألمانيا في الفترة ما بين عام 1923 إلي عام 1925. فمن واقع الإحصاءات الجنائية عن تلك الفترة يتضح أن جرائم الأموال ارتفعت معدلاتها بنسبة 250%. كما أن السرقة تضاعفت ثلاثة أمثال ما كانت عليه قبل حدوث التضخم ، وكانت تقع في غالب الأحوال علي أموال منقولة لها قيمة ذاتية ، نظرا لأن النقود قد فقدت قيمتها الحقيقية فعزف الجناة عن سرقتها. كما ارتفع أيضا معدل جريمة إخفاء الأشياء المسروقة إلى ستة أمثال نسبتها قبل الأزمة. أما جريمة النصب فقد ارتفع معدلها بنسبة طفيفة ، ويفسر ذلك بأن النصب من الجرائم التى لا يرتفع معدلها إلا في ظروف الاستقرار الاقتصادي والرخاء.

وقد تزايدت كذلك أبان تلك الأزمة معدلات جرائم الإجهاض ، إزاء خشية الأفراد من الإنجاب في تلك الظروف السيئة وخشية تحمل أعباء اقتصادية جديدة. ودلت الإحصاءات أيضاً عن ارتفاع معدل جرائم الاعتداء على ممثلي السلطة
العامة وذاك تعبير من الأفراد عن حالة السخط والغضب العام تجاه السلطة الحاكمة.

[1] وربما يقف ذات المبرر وراء جرائم الاعتداء على المصلحة العامة كالرشوة والاختلاس والاستيلاء على المال العام والعدوان عليه أو الإضرار به. فكثيرا ما ترتكب هذه الجرائم بدافع الحصول على المال سدا لحاجة أو رغبة فى تحقيق مستوى أعلى للمعيشة.

[2] راجع حول الموضوع : د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص276 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص191 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص281 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص293 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص101 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص289 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص249 وما بعدها.

[3] راجع حول أثر التقلبات الاقتصادية على السلوك الإجرامي :

J.
Léauté, op. cit., p. 292 et s ;G. Stéfani, G. Levasseur et R.
Jambu-Merlin, op. cit., p. 118 et s ; B. Corboz, Récession économique et
criminalité, RICPT. 1975, op. cit., p. 115.

د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، 110 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص260 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص263 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص202 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص214 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ،
المرجع السابق ، ص289 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص284
وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص385 وما بعدها ، د. علي عبد
القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص96 وما بعدها ، د. حسن محمد
ربيع ، المرجع السابق ، ص283 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص231
وما بعدها.

defaultرد: عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

المطلب
الخامس

الانتعاش الاقتصادي والسلوك الإجرامي

170-
تقسيم :

ربما يعتقد أن العوامل الاقتصادية التي تقف وراء الإجرام هى فقط الفقر والبطالة ، غير أن هذا وإن صدق في الكثير من الحالات ، إلا أن الإحصاءات تدل على أن الانتعاش الاقتصادي يمكن أن يدفع هو أيضاً إلى السلوك الإجرامي مثله مثل الفقر والبطالة سواء بسواء.

غير أن السؤال يثور بشأن تفسير هذه الصلة بين الأمرين. كما أنه إذا كانت هناك صلة فما هو اتجاهها الإجرامي ، أي ما هي آثار الانتعاش الاقتصادي على ظاهرة الإجرام كمياً ونوعياً ؟[1]

171- أولاً : تفسير الصلة بين الانتعاش الاقتصادي والظاهرة الإجرامية :

أرجع البعض هذه الصلة إلى ما يؤدى إليه الانتعاش الاقتصادي من نمو فى العلاقات الاجتماعية التى تزداد معها مصالح الناس تشابكاً وتعقيداً. فإذا كان هذا الانتعاش يؤدى إلى رفع مستوى معيشة الأفراد ، فإنه يؤدى فى ذات الوقت إلى نمو واتساع فى العلاقات الاجتماعية. هذه العلاقات وليس ارتفاع مستوى المعيشة ، هى التى ينبغى الاهتمام بها ، بحيث ينسب ارتفاع أو انخفاض معدل الجريمة إليه.

وتأييداً لهذا الرأي ربط عالم الإجرام الإيطالي بوليتي Poletti بين حجم السلوك الإجرامي وبين حجم النشاط التجارى والاقتصادى الشريف ، وعنده أن الزيادة أو النقصان فى حجم الإجرام لا ينبغى قياسه بالمقارنة بين عدد ما يرتكب من جرائم من جهة وتعداد السكان من جهة أخرى ، بل ينبغى أن تكون المقارنة بين حجم النشاط الإجرامي من ناحية وحجم النشاط الاجتماعى المترتب على النشاط التجارى والاقتصادى من إنتاج واستيراد وتصدير من ناحية أخرى. فإذا أسفرت هذه المقارنة عن زيادة فى عدد الجرائم المرتكبة فى وقت معين وعن زيادة مماثلة فى حجم النشاط الاقتصادي الشريف فهذا يعنى أن نسبة الإجرام ظلت ثابتة رغم الزيادة العددية التى تسجلها الإحصاءات. وإذا تبين من هذه المقارنة أن نسبة الزيادة فى عدد الجرائم أقل من نسبة الزيادة فى حجم النشاط الشريف الذي أجرى فى ذات الوقت كان ذلك دليلا على أن الإجرام يتراجع رغم الارتفاع الظاهري في عدد الجرائم من الناحية الإحصائية.

وقد تأكد بوليتي من صدق نظريته عندما طبقها على النشاط الاقتصادي الفرنسي في الفترة بين عام
1826 وعام 1878 ، إذ تأكد أنه في تلك الفترة ذاد معدل الاقتصاد الشريف بنسبة ثلاثة أضعاف ، كما ذاد معدل الإجرام ثلاثة أضعاف ، مما يدل على ثبات الظاهرة الإجرامية رغم ارتفاع معدل الجرائم من الناحية العددية.

بينما يذهب البعض في تفسير صلة الانتعاش الاقتصادي بالسلوك الإجرامي إلى القول بأن الأمر يتوقف على مصادر هذا الانتعاش ، بحيث تبدو الصلة قائمة وممكنة إذا كانت مصادر الانتعاش بذاتها غير مشروعة (كتكوين ثروة من تجارة المخدرات) أو أن تكون مكتسبة دون جهد (كالثروة التي تهبط على الفرد فجأة بالميراث). وكلما نشأ الانتعاش عن تلك المصادر كلما كان الانتعاش مصحوباً بضعف في القيم الدينية والأخلاقية ، مما يحتمل معه أن يكون مصدراً للسلوك الإجرامي. فعادة ما يفرط صاحب الثروة المكتسبة عن طريق غير مشروع أو دون جهد فى المتع والملذات التى تعد جرائم فى كثير من الأحيان أو بالأقل ممهدة لوقوعها.

ولدينا أن الانتعاش الاقتصادي ليس بذاته عاملاً إجرامياً ، فهو على الأكثر عاملاً مساعداً على الإجرام ومهيأ له إذا كان الشخص الذي أصابه الانتعاش والرخاء تكمن بداخله ابتداءً عوامل الاستعداد الإجرامي. فالثروة فى ذاتها – كان
الحال بشأن الفقر – ليست مصدراً للفضيلة أو للإجرام ، فالأمر يتوقف في النهاية على تكوين الفرد الإجرامي.

172- ثانياً : الانتعاش الاقتصادي والسلوك الإجرامي كمياً ونوعياً :

يتجه الباحثون فى علم الإجرام إلى القول بأن للانتعاش الاقتصادي صلة بالسلوك الإجرامي تتجلى فى زيادة نسبة بعض الجرائم وانخفاض البعض الآخر.

فالانتعاش الاقتصادي ييسر معيشة الناس ويزودهم بكثير من وسائل الترف والرفاهية مما يؤدى إلى انخفاض نسبة بعض جرائم المال وأهمها السرقات. غير هذا وإن صدق في غالب الأحوال إلا أن الانتعاش ذاته يثقل نفسية بعض الأفراد بالرغبات فى اقتناء ما تكشف عنه المدنية الحديثة من مخترعات ومبتكرات ، مما يدفعهم أحياناً إلى سلوك سبيل الجريمة – وخاصة السرقات – إشباعاً لتلك الرغبات.

وقد لوحظ وجود ارتفاع نسبي في معدلات بعض جرائم الأموال رغم الانتعاش الاقتصادي ، ومنها جرائم النصب والاحتيال والجرائم الواقعة فى محيط الشركات. وربما يفسر ذلك ما يؤدى إليه الانتعاش الاقتصادي من اتساع فى مجال المعاملات وازدياد حركة رؤوس الأموال والتداول الاقتصادي. كما ثبت ارتفاع نسبة الجرائم المتصلة بمجال التجارة والأعمال والتى تدفع إليها الرغبة فى تحقيق مزيد من الربح مثل جرائم التهرب الضريبى والتهرب الجمركى والغش التجارى…الخ.

أما على مستوى جرائم الاعتداء على الأشخاص ، فالملاحظ أن حالة الرفاهة التى تنشأ عن الانتعاش الاقتصادي تصيب الفرد بحالة من الاستقرار والهدوء النفسى مما يقلل من فرص وقوع جرائم القتل والضرب والجرح. غير أن بعض الباحثين فى علم الإجرام يقولون بإمكانية زيادة معدل هذه الجرائم فى فترات الانتعاش الاقتصادي المفاجئ ، الذي يهز كافة مناحي المجتمع ، وتدفع فجائيته إلى مغالاة الأفراد في تحقيق أكبر قدر من المنافع والأرباح ولو على حساب مصالح الآخرين ، قبل أن يسود الكساد مرة أخرى.

ولسنا هنا في حاجة إلى تكرار ما سبق قوله من أن الاستقرار المالى وتحقيق فائض في الدخول على أثر الانتعاش الاقتصادي يدفع إلى طلب المزيد من المتعة بصورها غير المشروعة فتزيد جرائم الاعتداء على العرض كممارسة الدعارة والقوادة والتحريض على الفسق ، وما يرتبط بذلك من تعاطي الخمور والمخدرات.

المبحث الرابع

الــعــوامــل الــثــقــافــيــة

173-
تمهيد وتقسيم :

يقصد بالعوامل الثقافية مجموعة العوامل الاجتماعية ذات الطابع المعنوي ، أي أنها مجموع القيم الخلقية والروحية والدينية التي يقوم عليها المجتمع. ولقد ربط الباحثين في مجال علم الإجرام منذ أمد بعيد بين بعض العوامل الثقافية والظاهرة الإجرامية ، بحسبان أنها تؤثر سلباً وإيجاباً على تلك الأخيرة.

ولعل أظهر العوامل الثقافية التي نالت اهتمام الباحثين في علاقتها بالسلوك الإجرامي هي التعليم ، والدين ، ووسائل الإعلام. وسوف نخصص لكل عامل من تلك العوامل مطلباً مستقلاً.

المطلب الأول

التعليم والسلوك الإجرامي

لا يقصد بالتعليم L’éduction في مجال الدراسات الإجرامية مجرد تلقين مجموعة من المعلومات عن طريق القراءة والكتابة ، أي ما يسمى عملية محو الأمية ، وإنما المقصود هو مجمل عملية التعليم بما تشمله من تهذيب وتربية وتلقين للقيم الأخلاقية والدينية والتدريب على الطاعة وخلق روح التعاون بين الأفراد[2].

وفي صلة التعليم بالسلوك الإجرامي ، ساد الاعتقاد بأن التعليم يترتب عليه انخفاض معدل الظاهرة الإجرامية وأن الأمية محرك أساسي من محركات الإجرام ، وهكذا ظهرت مقوله فيكتور هيجو Victor Hugo الشهيرة “إن فتح مدرسة يعدل إغلاق سجن”. فالتعليم عامل مضاد للإجرام ، لما يبثه في نفوس الأفراد من قيم ومعارف ودعمه للقدرة الفردية على مواجهة الحياة وحل المشاكل والتبصر بالحقوق والواجبات. كما أن التعليم يبدد الاعتقاد في الخرافات ، مما يحول بين الفرد وبين وقوعه فريسة بين يدي المحتالين والنصابين ، أو دفعه نحو الجريمة تحت تأثير الخرافات التي تسود في بيئته. كما ينمي التعليم قدرات الفرد وخبراته ويدعم مواهبه فيسهل بالتالي من فرص الحصول على العمل الشريف المجزي ، فيقاوم الفرد على أثره الآثار السلبية للفقر والبطالة. وبالجملة فإن هذا الرأي يميل إلى القول بأن الصلة بين التعليم والسلوك الإجرامي علاقة طردية.

وهذا بالفعل ما أثبتته دراسة أجريت على الشباب الجانح في مصر والذين تتراوح أعمارهم بين
15-25 سنة ، والذين أودعوا السجون في الفترة من أول نوفمبر 1962 حتى آخر أكتوبر
1963 ، إذ تبين أن نسبة الأميين بينهم بلغت 76% ، ونسبة من يعرف الكتابة والقراءة
23% ، أما الحاصلون على شهادات فكانت نسبتهم 0.5% ، بينهم 0.3% من حملة الشهادة
الإعدادية و0.2% من حملة الشهادات المتوسطة ، وفرد واحد من حملة الشهادات العليا[3].

كما تؤكد إحصاءات عام 1982 في مصر أن عدد الأميين بين المتهمين في جنايات بلغ 1490 متهماً من أصل 2574 متهماً ، تلاهم فئة الحاصلين على مؤهل ثانوي (136 متهماً) ، والحاصلين على الإعدادية (36 متهماً) ، والحاصلين على مؤهل عال (51 متهماً).

ولا يغير من تلك الحقيقة في رأي أصحاب هذا الاتجاه ما دلت عليه بعض الإحصاءات في فرنسا من أن نسبة الإجرام لم ينالها أي تغير خلال الفترة من 1851 إلى عام 1930 رغم انخفاض معدل الأمية بنسبة 90%. ذلك أن هذا يشهد بفساد أساليب التعليم التي اتبعت طيلة هذه المدة واقتصارها على التلقين المعرفي من كتابة وقراءة دون عناية بغرس القيم الخلقية والمثل العليا في النفوس.

في حين مال أنصار المدرسة الوضعية إلى القول بأن ارتفاع مستوى التعليم لا يفلح في الإقلال من النسبة العامة للإجرام. ذلك أن الجريمة في النهاية هي ثمرة تكوين إجرامي عضوي أو نفسي موروث ، ولا يمكن للتعلم أن يتأصل هذا التكوين الموروث ، بل يمكن للتعليم أن ينمي هذا التكوين الكامن في الفرد بأن يمد هذا الأخير بأفكار وخبرات يستعين بها في إيقاظ هذا الميل الفطري للإجرام. ولعل هذا هو السبب الذي يجعل لومبروزو يعارض فكرة التعليم داخل المؤسسات العقابية.

والواقع أننا لا نفهم إذا ما أخذنا بهذا الرأي علة التعليم عندئذ. فحيث لن يفلح التعليم في الحد من الجريمة ففيما الإقبال على التعلم. فمن المؤكد أن الميل للإجرام الكامن تخف حدته مع ما يقوم به التعلم من دور في تهذيب نفوس الأفراد ودفعها للتمسك بالقيم والمثل العليا وتدعيمه القدرة على ضبط النفس. وكما سبق القول فإن العوامل البيولوجية وحدها لا تكفي للدفع للجريمة متى لم يصادفها عوامل اجتماعية محفزة. فضلاً عن أن الأخذ بهذا الرأي يقعد الباحثين في مجال علم الإجرام والعقاب عن تلمس أسباب مكافحة الجريمة طالما أن الجريمة تظل أمر حتمي ولا مفر منه رغم ارتفاع مستوى التعليم الفردي والعام.

ولدينا أن الرابطة بين التعليم والجريمة ليست صلة حتمية ، فلا الجهل يوقع حتماً في الإجرام ، فكم من الجهلاء شرفاء ، ولا العلم ينأى بالفرد حتماً عن سبل الجريمة ، فكم ممن بلغوا أرقى مراتب العلم قد سقطوا في براثن الإجرام. ولعل هذا هو الذي يفسر استمرار المدارس والسجون جنباً إلى جنب عكس ما كان يأمله فيكتور هيجو.

ونرى من هذه الزاوية أن هناك رابطة مزدوجة تصل بين السلوك الإجرامي والتعليم ، فهذا الأخير قد يمنع من التردي في طريق الجريمة أو التعرض لها ، وأحياناً قد يدفع إلى ارتكابها.

فمن حيث أن التعليم قد يمنع من سلوك سبيل الجريمة أو التعرض لها ، فكما سبق القول فإن التعليم يبصر الفرد بحقوقه فلا يكون عرضة لأن يكون مجنياً عليه في جرائم كثيرة أهما النصب. كما أنه يجعل الشخص أكثر ميلاً إلى حل مشاكله بطرق مهذبة ومشروعة بعيداً عن العنف. كما أن الإيمان بالخرافات لا يجد سبيلاً سهلاً بين المتعلمين ،
مما يحد من فرص الإجرام المرتبط بتلك الخرافات. كما أن الفرد عن طريق التعليم يمكن أن يتجنب خطر البطالة ويرتفع بمستواه الاقتصادي والاجتماعي ، فيتجنب بذلك اللجوء للطرق غير المشروعة للحصول على مورد يعينه على قضاء حاجاته الأساسية.

أما من حيث أن التعليم قد يدفع إلى ارتكاب الجرائم ، فيحدث ذلك إذا صادف التعليم شخصاً ذو ميل إجرامي موروث أو فطري فيحاول أن يستعين بما أكسبه التعليم من خبرات في ابتداع أساليب مبتكرة في ارتكاب وإخفاء جرائمه. ويصدق هذا على الأخص في عصرنا الحالي الذي شاعت فيه جرائم المعلوماتية والجرائم التقليدية (السرقة والنصب والتزوير) الواقعة بالأساليب الكمبيوترية التي تتطلب في شخص مرتكبيها درجة من التعليم تجعله قادراً على التعامل مع الآلة المعجزة المسماة بالحاسب الآلي أو “الكمبيوتر Computer ou Ordinateur”.

وحيث يدفع التعليم إلى ارتكاب الجرائم فالبين أنها غالباً ما تكون من نوع الجرائم القائمة على الحيلة والخداع ، كالنصب وخيانة الأمانة وإعطاء الشيك بدون رصيد والتهرب الضريبي والجمركي والتزوير وتزيف العملة والمسكوكات. وعلى ذلك يغلب بين الأميين جرائم العنف التي تعتمد على القوة العضلية من قتل وضرب وجرح والسرقة بالإكراه والحريق وتسميم الماشية ، وجرائم الشرف والاعتبار كالسب والقذف. وهذا بالفعل ما تؤكده بعض الإحصاءات الفرنسية التي أكدت أن 65.43% من مرتكبي جرائم القتل لم يبلغوا مستوى التعليم الأساسي وأن بين تلك النسبة 10.31% من الأميين. وبلغت تلك النسبة 79% من مرتكبي الجرائم الجنسية ، و69% من مرتكبي جرائم الإيذاء البدني.

وتشير إلى هذا أيضاً الإحصاءات في مصر عام 1982 ، إذ تبين أن الأميين يمثلون 776 متهماً من بين مجموع المتهمين في جنايات القتل (1155 متهماً) ، ويمثلون 203 متهماً من مجموع351 متهماً في جنايات الضرب المفضي لموت ، و140 متهماً من أصل 210 متهماً في جنايات الضرب المفضي لعاهة مستديمة. في حين تقلصت نسبة الأميين بين مرتكبي جرائم الرشوة والتزوير وتقليد الأختام وتزيف العملة ، وكذا في جنح النصب وإصدار الشيكات بدون رصيد.

على أن يؤخذ في الاعتبار أن إجرام الأميين قد يرجع إلى عامل آخر ارتبط بالأمية ، كوجود عاهة في العقل أو مرض نفسي أو فقر أو تصدع أسري حال بين الفرد وبين التعلم. هنا لا تظهر الأمية كامل إجرامي ، بل إن الإجرام والأمية هنا نتيجتان لعامل واحد.

المطلب الثاني

الــديــن والــســلــوك الإجرامــي

يعبر الدين Religion عن مجموعة المعتقدات التي تستمد قوتها من مصدر غيبي وتتصل بفكرة الألوهية وصفات الإله وكيفية عبادته ، وما يتفرع عن هذا من قواعد تنظم السلوك الاجتماعي للفرد[4].

وبصفة عامة يتعين الحذر حال دراسة صلة الدين بالسلوك الإجرامي. ذلك أنه يخشى أن تتأثر النتائج التي يتوصل إليها الباحث في علم الإجرام بمعتقداته الدينية الخاصة ، أو تتأثر بتعريفه الخاص للدين وما إذا كان يشمل كافة العقائد السماوي منها وغير السماوي ، أم يقتصر على نوع واحد من ذلك. كما يخشى أن يخلط الباحث في هذا المجال بين “الدين” “والديانة”. فهذه الأخيرة هي مجرد انتماء شخص إلى دين معين وممارسته شعائره دون أن يعني ذلك بالضرورة تمسك هذا الشخص بتعاليم هذا الدين. فرغم أن أداء الشعائر ركن أساسي في جميع الديانات إلا أن ذلك لا يقوم دليلاً على التدين ، الذي هو أمر باطني داخلي لا سبيل إلى تلميه وقياسه. وهكذا قد تأتي نتائج الأبحاث الإجرامية في هذا الشأن مشوبة بالقصور وعدم الدقة إذا انعقدت المقارنة بين إجرام المنتمين إلى دين معين بالمنتمين إلى دين آخر.

ويمكن بصفة عامة أن نؤكد على أن الدين ، بما يحمله من حض على مغالبة الشهوات وتهذي  الغرائز وتزكية النفوس والإعلاء من وضرورة التمسك بالقيم والمثل السامية التي منها التراحم والترابط بين البشر وحب الخير للآخرين ، يحول بين الإنسان وبين الخطيئة ، ومنها التردي في سبيل الجريمة. وهكذا يظهر الدين في صورة “المضاد الحيوي” المانع من تحريك عوامل الإجرام. لذا يخشى – على حد قول جابريل تارد – إذا ما تراجع دور الدين أن ينضب المعين الذي تستقي منه الأجيال الجديدة ما يعينها على مقاومة الميول الإجرامية[5].

هذا الدور الوقائي للدين ينتج أثره كلما تداخلت دائرة الدين مع دائرة قانون العقوبات دون أن تتعارض الدائرتان ، بحيث يصبح هذا الأخير صورة معبرة عن ضمير المجتمع ، ويكون الباعث على الالتزام بأحكام القانون الجنائي هو التمسك بما تدعو إليه الأديان من فضائل.

غير أن هذا لا يمنع أن الدين قد يبدو في بعض حالاته عاملاً من عوامل الإجرام ، ويحدث ذلك في حالتين : الأولى حال وجود تعارض بين أحكام الدين وأحكام القانون الجنائي بصدد أمر ما ، أو حال وجود فهم خاطئ للدين يقف وراء السلوك الفردي.

فقد تنفصل قواعد الدين عن قواعد قانون العقوبات ويكون أمام الفرد قاعدتين من قواعد السلوك ، بحيث يعتبر التمسك بما تحض عليه الأديان جريمة في نظر المشرع لمخالفة الفرد قاعدة قانونية تسمو في نظره على قواعد الدين. فبعض الدول – مثل تركيا وروسيا – قد أقامت نظاماً علمانياً يفصل بين الدين والدولة ، بحيث يعتبر التمسك ببعض المظاهر الدينية (كتعدد الأزواج وفقاً لما يسمح به الدين الإسلامي مثلاً) جريمة.

وبالطبع لا يهتم الباحث في علم الإجرام بحالة التعارض بين الدين والقانون إذا ما كان القانون يبيح أمراً تحظره الأديان ، ذلك أن علم الإجرام كما قلنا لا يهيم إلا بالمفهوم القانوني للجريمة دون المفهوم الأخلاقي.ويحدث هذا الشكل إذا ما اتبع المشرع سياسة الحد أو القسط في التجريم Décriminalisation التي بمقتضاها يرفع التجريم عن أفعال تتعارض في أصلها مع ما تقضي به الأديان ، وهو ما حدث حينما رفع المشرع في بعض الدول التجريم عن الزنا واللواط والإجهاض وتناول الخمور وبعض أنواع المخدرات ، وأباح أيضاً نمط القتل الرحيم أو بدافع الشفقة Euthanasie.

كما أن الفهم الخاطئ لتعاليم الدين قد يكون سبباً وراء ارتكاب بعض الجرائم ، كالاعتقاد الخاطئ لدى البعض أن الدين الإسلامي يسمح للزوج في جميع الحالات أن يضرب زوجته ، أو يحظر الانخراط في الجندية متى كانت لا تستهدف إقامة الدولة الإسلامية ، أو يسمح بسلب الأموال المملوكة لمعتنقي الديانات الأخرى. ومن ذلك أيضاً اعتقاد البعض خطأً أن الدين المسيحي يبيح شرب الخمور والتي بدورها تعد عاملاً إجرامياً.

والواقع أن تعاليم الدين – أياً ما كان – لا يمكن أن تكون بذاتها عاملاً إجرامياً ، مما مؤداه أن أبناء طائفة دينية معينة لا يكونون بناءً على انتمائهم الديني أكثر ميلاً عن غيرهم من أبناء الطوائف الدينية الأخرى في الاتجاه نحو الجريمة. لهذا فإن الدراسات التي انتهت عند مقارنتها في الدولة الواحدة بين إجرام عدد من الطوائف الدينية إلى تزايد إجرام طائفة على طائفة أخرى ، لا يمكن فهمها إلا بالرجوع للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها أبناء كل طائفة ، بحسبان أن تلك الظروف – وليس انتمائهم الديني في ذاته – هي التي تقف وراء ارتفاع نسبة الإجرام.

وعلى هذا فإن الدراسة التي أجريت في هولندا وألمانيا والتي كشفت عن ارتفاع معدل الإجرام بين الكاثوليك إذا ما قورنوا بالبروتستانت ، وانخفاض معد الإجرام العام بين اليهود إذا ما قورنوا بهاتين الطائفتين ، لا يمكن فهما إلا في ضوء التحليل السابق.

وبالفعل فقد ثبت أن ارتفاع نسبة إجرام الكاثوليك لا يعود إلى كونهم هكذا ، ولكن لسكناهم في مناطق ذات حظ أقل من التطور بالمقارنة بالبروتستانت. كما أن هؤلاء الآخرون يحتلون في العادة المراكز الاقتصادية والاجتماعية العليا داخل البلدان الأوروبية إذا ما قورنوا بالكاثوليك. كما أن المذهب البروتستانتي ينتشر في المناطق الشمالية من أوروبا ، وهى مناطق تتميز بالنشاط والإقبال على العمل والقدرة على ضبط النفس ، مما يجعلهم أقل عرضة من سكان المناطق الجنوبية ذات الأغلبية الكاثوليكية في ارتكاب الجرائم.

كما أن انخفاض إجرام أبناء الديانة اليهودية لا يعود لكونهم يهود ، وإنما لطبيعة التنظيم العائلي والعنصري لديهم الذي يقوم على الترابط. فضلاً عن أن الإحساس العام لدى اليهود بكونهم أقلية يدفعهم دائما إلى احترام القواعد القانونية السائدة في البلدان التي يقطنوها كي يعطون انطباعاً حسناً عن عنصرهم الذي ينتمون إليه.

المطلب الثالث

وسائل الإعلام والسلوك الإجرامي

174-
تمهيد وتقسيم :

يقصد بوسائل الإعلام Moyens de communication مجموع أساليب الاتصال والأخبار التي تصل الأفراد ببعضهم وتساهم في نشر الثقافة وتنمية المعارف لدى الأفراد واحاطتهم بالمشكلات المختلفة داخلياً وعالمياً.

ولا شك أن وسائل الإعلام بمختلف أنواعها المقروء منها (الصحف والمجلات والكتب) أو المسموع (الإذاعة) أو المرئي (السينما والمسرح والتليفزيون) تساهم في تقارب الزمن بين الدول والمناطق على اتساعها بحيث صرنا نقول أن العالم أصبح قرية صغيرة.

وفيما يتعلق بصلة وسائل الإعلام بالظاهرة الإجرامية ، فيمكن القول أن تلك الصلة تظهر في جانبيها الإيجابي والسلبي ، على التفصيل التالي[6] :

175- أولاً : الدور الايجابي لوسائل الإعلام والظاهرة الإجرامية :

من المؤكد أن لوسائل الإعلام – خاصة الصحافة المكتوبة – دور ايجابي في مكافحة الظاهرة الإجرامية ، يظهر في مساعدتها في الكشف عن الجرائم وتعقب مرتكبيها حينما يتم نشر أوصاف الجناة تمكيناً للجمهور من التعرف عليهم. كما أن نشر أخبار الجريمة يثير مشاعر الجمهور نحو المطالبة بتحقيق العدالة تجاه الجناة.

فضلاً عن أن وسائل الإعلام المختلفة تلعب دوراً وقائياً من ناحيتين : الأولى حينما يؤدي نشر أخبار الجريمة من تحذير المجني عليهم المحتملين من الوقوع فريسة للطرق الاحتيالية التي يلجأ إليها المجرمون ؛ والثاني حينما يؤدي نشر أخبار الجرائم من تهدئة ميول المجرمين المحتملين فتنزع ما بداخلهم من أفكار إجرامية تراودهم. ففي بعض الأحيان يكون سماع أخبار الجريمة بمثابة المتنفس أو البديل للرغبات الإجرامية المكبوتة لدي الأفراد.

هذا بالإضافة إلى أن نشر أخبار الجريمة يساهم في تحقيق الردع العام من خلال تخويف الأفراد من سوء العاقبة إذا ما سقطوا في طريق الإجرام. كما أن هذا النشر يكون هو البديل عن التطبيق الفعلي لمبدأ علانية المحاكمات الجنائية ، وعن طريقها يتأكد الأفراد من حسن سير مرفق القضاء وإدارة العدالة الجنائية.

176- ثانياً : الدور السلبي لوسائل الإعلام والظاهرة الإجرامية :

رغم الدور الايجابي الذي تلعبه وسائل الإعلام في التصدي للظاهرة الإجرامية ، إلا أن الباحثين في علم الإجرام قد أوضحوا أن لها دور سلبي يظهر في زيادة معدل السلوك الإجرامي ، خاصة لدى المراهقين والأحداث والشواذ ، بحسبان هؤلاء لا يقدرون على استيعاب أو تحليل المادة الإعلامية المقدمة إليهم ، فضلاً عن روح التقليد التي تتملكهم والميل إلى التفاخر بالرذيلة ومخالفة القواعد القانونية والقيم المجتمعية رغبة منهم في تأكيد الذات.

ويظهر الدور السلبي لوسائل الإعلام في علاقتها بالظاهرة الإجرامية من أكثر من جانب : فمن ناحية يؤدي تكرار نشر أخبار الجريمة إلى تسهيل ارتكاب الجرائم ، إما بتمكين المجرمين المحتملين من الاستفادة من الوسائل التي لجأ إليها المجرمون المقبوض عليهم وتفادي ما شاب استخدامها من قصور ، وإما بإضعاف قوة المقاومة عن طريق خلق نوع من اللامبالاة لدى الجمهور والرأي العام تجاه الجريمة فلا تعود تثير لديه أي سخط اجتماعي ، فيشيع التساهل تجاه المجرمين ، فيندفع البعض إلى تقليد هؤلاء أو معاودة نشاطه الإجرامي مرة أخرى.

كما أن نشر الأخبار المتعلقة بالجرائم فيه ما قد يمس بحسن سير العدالة الجنائية. ذلك أن وسائل الإعلام بتصديها لوقائع الجريمة وهي قيد التحقيق أو المحاكمة قد تصدر أحكام مسبقة حول أشخاصها تمس بقرينة البراءة التي يتمتع بها هؤلاء ، مما يعرقل الأجهزة الجنائية من شرطة ومحققين ومحلفين وقضاة في تكوين عقيدة حرة حول المتهمين. ويزداد هذا الخطر إذا ما علمنا أن المساحات المخصصة للجرائم في وس

عوامل الظاهره الاجراميه للدكتور احمد لطفى السيد

المبحث الخامس

الــعــوامــل الــســيــاســيــة

177- تمهيد وتقسيم :

يقصد بالعوامل السياسية مجمل الظروف التي تتعلق بتنظيم علاقات الدولة مع الدول الأخرى ، أو تنظيم علاقات الدولة ممثلة في سلطتها الحاكمة بالشعب ، أو تتعلق بتنظيم الإطار الجنائي الكفيل بمكافحة الظاهرة الإجرامية[1].

وقد يعترض هذه الأنواع من التنظيمات بعض أوجه الخلل يدخل في إطار العوامل السياسية. فقد يحدث قلق بين الدولة في علاقاتها بالدول الأخرى ، يصل ذروته حينما تخوض الدولة حرباً تشنها أو تفرض عليها تخلق بذاتها أو تتخلف عنها عوامل إجرامية (سياسة خارجية). كما قد تحدث قلاقل في شكل ثورات على نظام الحكم الاستبدادي. فضلاً عن أن الدولة قد تتبع داخلياً في مكافحاتها للظاهرة الإجرامية سياسة جنائية غير رشيدة أو غير قائمة على أسس علمية ، ويكون هذا من جانبها بمثابة خلق للمزيد من الإجرام أو تهيئة لعوامل الإجرام (سياسة داخلية). وسوف نعرض على التوالي لهذه الأنماط المختلفة من العوامل السياسية ، محددين في البدء علاقة السياسة الخارجية (الحروب أو النزاعات المسلحة الدولية) ، يليها علاقة السياسة الداخلية (الثورات والاضطرابات ، والسياسة الجنائية) بالسلوك الإجرامي.

المطلب الأول

السياسة الخارجية والسلوك
الإجرامي

(الـــحـــروب)

178- تقسيم :

من المؤكد أن الحروب Guerres بما تجلبه من تغيرات في كافة مناحي الحياة داخل الدولة يكون لها تأثير على الظاهرة الإجرامية سواء من الناحية الكمية أم من الناحية النوعية[2].

179- أولاً : الحروب والظاهرة الإجرامية كمياً :

على المستوى الكمي خلص الباحثون إلى أن نسبة الإجرام تنخفض بصفة عامة فى الفترة السابقة على الحرب ، كما يستمر هذا الانخفاض فترة من الزمن عقب بدء القتال. وكثيراً ما يرجع الباحثون هذا الانخفاض إلى ظروف التعبئة العامة للرجال والشباب واستعدادهم لمعارك القتال ، وهم الفئة الأكثر بين المجرمين ، وإلى تهيئة الشعور القومى تجاه دفع خطر محدق بالبلاد وتجاه نصرة الوطن ضد الأعداء. فالشعور بالتضامن الاجتماعي تجاه الخطر المحدق بالبلاد يصهر المجرمين وغير المجرمين في بوتقة واحدة ، فيحجم المجرمين عن تنفيذ مشروعاتهم الإجرامية[3]. ويرجع البعض أيضاً هذا الانخفاض إلى استدعاء بعض المجرمين للسلاح فلا تظهر جرائمهم في الإحصاءات ، فضلاً عن التفكك الذي يصيب جهاز الشرطة والمحاكم لظروف الاستدعاء للحرب فيقل معدل القبض على المجرمين فلا تظهر جرائمهم ضمن الإحصاءات الجنائية. كما أن ظروف الحرب تخلق فائضاً في عروض العمل ذات الأجر المرتفع من جانب الصناعات التي تخدم المجهود الحربي فتقل أو تنعدم البطالة.

ومن ناحية أخرى لاحظ الباحثون أن معدل الإجرام يأخذ فى التصاعد عقب بدء القتال بفترة من الزمن إلى أن يصل إلى مداه قبل انتهاء الحرب أو بعد ذلك بزمن ما.

ويعلل الباحثون ارتفاع معدل الإجرام أثناء الحرب ذاتها بعدة أسباب : فمن ناحية تكثر فرص ارتكاب الجرائم نظراً لكثرة القوانين التي تنطوي على حظر لبعض الأنشطة التي كانت معتادة قبل الحرب ، مثل القوانين التي تتعلق بالتسعيرة وتوزيع المواد الغذائية ورقابة النقد. كما تكثر الجرائم المرتبطة بالسوق السوداء Marché noir
والجاسوسية والخيانة.

كما أن ظروف الحرب تخلق أحيانا تفككاً اجتماعياً ناشئ عن وفاة أو إصابة أو أسر عائل الأسرة ، كما أنه يصاحب تلك الظروف نقص في توجيه الآباء لأبنائهم أو هجرهم فلا يستطيعون مقاومة مغريات الإجرام. هذا فضلاً عن أن الحرب حينما تؤدي للاحتلال أراضي الدولة تخلق جروحاً معنوية لدى الشعب تؤدي إلى فقد التوازن وكره للحياة واستسهال الموت بعد أن أصبح شائعاً. ولقد لوحظ أبان الحرب العالمية الثانية ارتفاع معدل الجريمة في السنوات الأولى من الحرب في كل من انجلترا وفرنسا ، وفي سنوات 1942-1943 في كل من بلجيكا والدنمرك والنرويج وهولندا ، نتيجة ما حققه الألمان من انتصارات في تلك الفترة.

وحينما تضع الحرب أوزارها يعود معدل الإجرام إلى الارتفاع مرة ثانية حتى يصير أعلى مما كان عليه قبل الحرب. وهذا الارتفاع يرجع إلى عدة أسباب : فغالباً ما تؤدى الحروب إلى تدهور اقتصاد البلاد ، وذلك نتيجة ضخامة الأنفاق العسكرى ، وتوقف الإنتاج أثناء الحرب ، فضلاً عما تعانيه المنشاَت والمشروعات المتبقية بعد الحرب من نقص الأيدى العاملة نتيجة موت وإصابة الكثيرين فى القتال وهم فى الغالب من الذكور ذوى المهارات والخبرات الفنية.
وعلى أثر ذلك تزداد الهوة اتساعاً بين الطبقات ، فقلة من الشعب تجني ثمرة الحروب بينما يعانى الكثرة من الفقر ، بما يخلفه هذا الأخير من أثار سلبية سبق تناولها.

ويلاحظ أيضاً ما لنقص السلع الغذائية فى فترة الحروب وما بعدها بفعل توقف الإنتاج المدني ، من آثار اقتصادية
واجتماعية هامة. فمن الأفراد من يتقن التلاعب فى الأسواق ليكدس هذه السلع ثم يبيعها بسعر أعلى مما تحدده السلطات ، الأمر الذى يدفع بالكثير إلى سلوك سبيل الجريمة لسد احتياجاتهم أو للتعبير عن سخطهم على هؤلاء الأفراد أو على سياسة الدولة عامة. وإذا عمدت الدولة إلى فرض قوانين تواجه بها مثل هذه الحالات كقوانين التموين والتسعيرة الجبرية كان ذلك فتحاً للباب أمام إجرام جديد ، حيث تزداد فرصة انتهاك تلك القوانين.

وكثيراً ما يترتب على الحروب ظهور اضطرابات عصبية ونفسية لدى كثير من الأفراد عقب تسريحهم من الخدمة العسكرية نتيجة ما واجهوه من أهوال أثناء القتال. ولا يخفى أن تسريح هؤلاء وقد فقدوا عملهم السابق أو أصبح متعذراً الحصول على عمل في تلك الظروف يدفع بالبعض منهم إلى تأليف عصابات للسطو والسرقة وقطع الطريق ، خاصة وأنهم قد تشربوا بروح العنف والشراسة خلال المعارك وتلقوا تدريباً عسكرياً واكتسبوا لياقة
بدنية تسهل عليهم ارتكاب الجرائم.

كما أن فى أعقاب الحروب تضعف قبضة السلطة العامة على زمام الأمور فى البلاد ، إذ تكون منشغلة بإصلاح ما أفسدته الحرب وبإعادة تنظيم شئونها مما يشجع الأفراد ذوى التكوين الإجرامي أو الاستعداد الكامن للإجرام على أن يطلقوا نزعاتهم وميولهم الإجرامية بلا ضوابط فى كل اتجاه.

180- ثانياً : الحروب والظاهرة الإجرامية نوعياً :

علي المستوى النوعي من الملاحظ أن الحرب لا تحدث أثرها على السلوك الإجرامي بالنسبة لكل طوائف الجرائم وكل فئات الشعب بكيفية واحدة.

فقد تبين أن هناك جرائم ترتفع معدلاتها عن غيرها. ففي نطاق جرائم الأموال تكثر السرقات خاصة المقترنة بعنف حيث تنتقل عدوى العنف من الحرب إلى الحياة العادية. وتبعاً لذلك تزيد معدلات جرائم إخفاء الأشياء المتحصلة من سرقات. في حين يقل معدل جرائم النصب وخيانة الأمانة والغش التجاري. وفي نطاق جرائم الأشخاص فقد لوحظ ميل معدلاتها نحو التراجع على أثر الحرب ، حيث تعد هذه الأخيرة متنفساً للميول العدوانية. وهو ما يصدق بشأن الجرائم الجنسية حيث تفرض الحرب جواً مليئاً بالإحباط والاكتئاب واضمحلال في القوى البدنية.

وعلى النقيض من ذلك فإن هناك جرائم ترتفع معدلاتها على أثر الحروب منها الجاسوسية والخيانة وجرائم النقد والجرائم التي تقع بالمخالفة لقوانين التسعيرة والتموين. وكثيراً ما تقع جرائم سياسية فى أعقاب الحروب ، يعبر بها البعض عن سخطهم على الحكومة فى سياستها أثناء الحرب.

ومن الملاحظ أيضاً في هذا الصدد أن الحروب يختلف تأثيرها الإجرامي باختلاف طوائف المجرمين.

فتدل الإحصاءات الجنائية على أن نسبة جرائم الأحداث تميل إلى الارتفاع أبان الحروب ويعلل ذلك بانتقال عدوى العنف من الجنود إلى الصغار على أثر إعجاب هؤلاء بالجنود وتقليدهم لأفعال الحرب من خلال صنع نماذج لأسلحتها يلهون بها. ومن شأن هذا أن يوجههم إلى العنف الذى يمكن أن يترسخ فى طباعهم ويدفعهم في وقت ما إلى ارتكاب جرائم الأشخاص. فضلاً عن أن الصعوبات الاقتصادية المترتبة على الحرب تكون أشد وطأة على الأحداث فيتجهون إلى ارتكاب جرائم الأموال ، وخاصة السرقات البسيطة. ولا يخفى ما يمكن أن يترتب على الحروب من تصدع عائلى يكون بذاته عاملاً إجرامياً سبق وأن تناولناه.

وتكشف الإحصاءات عن ارتفاع معدل إجرام النساء أبان الحروب. ويعود ذلك إلى اضطرارهن للنزول للعمل لتدبير
احتياجات الأسرة فتكثر السرقات والجرائم الجنسية منهن. فضلاً عن ارتفاع معدلات الإجهاض وقتل الأطفال حديثي الولادة نتيجة خشية المرأة من صغارها فيما بعد يعانون ويلات الحرب.

وعلى العكس من الفئتين السابقتين فإن معدل إجرام البالغين من الذكور ينقص بشكل ملحوظ في فترات الحروب. ويفسر ذلك استدعاء الكثير من الشباب في صفوف الخدمة العسكرية ، فضلاً عن انشغال الرجال بتدبير جماعات المقاومة إذا ما تعلق الأمر باحتلال أراضي الدولة.

المطلب
الثاني

السياسة
الداخلية والسلوك الإجرامي

181- أولاً : الثورات والاضطرابات الداخلية والظاهرة الإجرامية :

الثورات Les révolutions والاضطرابات الداخلية (كالحروبالأهلية) تحدث ولا شك تغيراً على الظاهرة الإجرامية[4] ،
وإن كانت حدته أخف من ذلك الذي لوحظ على أثر الحروب. كما أن معدل الإجرام يرتفع منذ بداية الثورة ، على عكس ما لاحظناه بشان معدل الإجرام مع بداية الحروب الذي يميل غالباً للانخفاض.

والثورات التي نعنيها هي الثورات الاجتماعية التقليدية التي حدثت في القرن التاسع عشر في أوربا ، وكذا التي حدثت في القرن العشرين في بعض الدول. فالملاحظ أن معدل الإجرام يزيد خلال تلك الفترات على أثر تفكك السلطة السياسية وتغير نظام الحكم وقلة كفاءة الأجهزة الأمنية والقضائية في تعقب المجرمين ، فتعم الفوضى نتيجة ذلك وتكثر جرائم السرقة والسطو (وربما لوحظ ذلك مؤخراً أبان دخول القوات الأمريكية في العراق من أجل إسقاط النظام العراقي السابق).

ولقد أكد لومبروزو في أبحاث له[5] أن التأثيرات الإجرامية للثورات تكون اقل حدة منها عن الاضطرابات الداخلية وحركات التمرد العسكري. ذلك أن هذه الأخيرة تكون فجائية ومندفعة وقصيرة الأمد ولا يعقبها تغيرات أو أثار على المستوى السياسي الداخلي ، في حين أن الثانية تقوم بها فئات الشعب بأكمله وتسبقها مراحل تحضيرية بطيئة وتعقبها نتائج ممتدة في الزمن.

ولقد كشفت الإحصاءات الفرنسية التي شملت اضطرابات عام 1830 و1848 ، والحركات الفوضوية عام 1893 ، وكذا الاضطرابات التي امتدت من 1934 إلى 1936 ، عن ارتفاع ملحوظ في معد الإجرام العام ، وكانت أكثر الجرائم هي الجرائم السياسية وأعمال العنف والاعتداء على ممثلي السلطة العامة.

وتشير الإحصاءات الجنائية في كثير من الدول أن أكثر الفترات ارتفاعاً في معدل الإجرام هي الفترة التالية مباشرة للاستيلاء على السلطة وتولي زمام البلاد (وهنا يظهر من جديد النموذج العراقي) ، إذ تنعقد المحاكمات لتصفية رموز النظام السابق والمتعاونين معهم من أفراد الشعب.

أما من حيث نوع الإجرام فالملاحظ أن ظروف الثورات والانقلابات والاضطرابات الداخلية تؤثر في نوع الإجرام ، فتكثر معدلات الجرائم السياسية من تمرد وعصيان وأعمال العنف والإرهاب ضد ممثلي السلطة ومنشئات الدولة ، وأعمال التصفية الجسدية من قبل السلطة الحاكمة ضد معارضيها. وتكثر كذلك أعمال خطف الشخصيات العامة واختطاف الطائرات ، وتزداد معدلات جرائم الصحافة. كما تكثر في أعقاب القلاقل الجرائم الانتخابية حين تجبر السلطة الحاكمة على أن تنزل على رأي الشعب فتجري تغيرات في هيكلها عن طريق الاقتراع العام.

والملاحظ على فئات المجرمين أنهم عادة من الشباب الذكور ، وذلك للوضع المتحفظ الذي تبديه المرأة وميلها إلى الانتظار والترقب في مثل تلك الظروف.

ويجب التنويه على أن الوضع النهائي للفرد مرتكب مثل هذه الأفعال يتوقف على نجاح الثورة أو فشلها. فإن نجحت الأخيرة عد من الأبطال وربما صار عضواً بارزاً في السلطة الحاكمة الجديدة ، وتلى ذلك صدور عفو شامل كما ارتكب من أفعال أبان فترة التحضير للثورة أو الانقلاب بحسبان أنها كانت أفعال كفاح ضد الطغيان والسلطة الغاشمة. ولعل هذا ما دفع المدرسة الوضعية لعدم الاعتراف بفكرة “المجرمين السياسيين” ، وعدم إدراج المجرمين من هذا النوع ضمن المجرمين الحقيقيين ، على أساس أنها رأت فيهم أشخاصاً عاطفيين تحركهم مشاعر وبواعث نبيلة وسامية.

182- ثانياً : السياسة الجنائية والظاهرة الإجرامية :

إن نجاح السياسة الجنائية التي تتبعها أجهزة الدولة المختلفة بهدف مكافحة الظاهرة الإجرامية يعد أحد العوامل التي يمكن أن تؤثر على تلك الأخيرة في كمها ونوعها[6].

ومن المعلوم أن للسياسة الجنائية درجات ثلاث ، تبدأ بالمستوى التشريعي حال إعداد القاعدة الجنائية في شقيها الموضوعي المتعلق بالتجريم والعقاب والإجرائي المتعلق بإجراءات الضبط والتحقيق والمحاكمة ، مروراً بمرحلة التطبيق القضائي لتلك القاعدة الجنائية ، وانتهاءً بتحديد أساليب المعاملة العقابية حال التنفيذ الفعلي للجزاء الجنائي داخل المؤسسات العقابية.

وقد تخفق السياسة الجنائية التى تضعها الدولة لمكافحة الجريمة في أي مرحلة من تلك المراحل ، أي الفشل حال إعداد القوانين الجنائية التى تسنها السلطة التشريعية ، أو الفشل في تطبيق تلك القوانين من قبل السلطة القضائية ، أو الإخفاق في تنفيذ ما عسى تقضي به هذه الأخيرة من جزاءات بالطرق التي تقتضيها المعاملة العقابية السليمة.

فعلى المستوى التشريعي ، وبعيداً عن أي إخفاق ، قد يتدخل المشرع باستحداث تجريمات جديدة لم تكن معروفة من قبل ، مما يؤدي بالضرورة إلى وجود حالات انتهاك ترفع بدورها من المعدل العام للإجرام. ويظهر هذا على وجه الخصوص في الكثير من القوانين الاستثنائية المنظمة للتعامل في النقد أو الاستيراد والتصدير أو توزيع السلع التموينية.

غير أن السياسة الجنائية على المستوى التشريعي قد يصيبها العوار ، يحدث ذلك حينما تفتقر القوانين الجنائية (قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية) إلى الأسس العلمية ، كأن لا يسبقها دراسات كافية اجتماعية وقانونية وعدم عرضها على الجمهور والمتخصصين لإبداء الرأي ، فتأتي هذه القوانين غير معبرة عن رأي عام يتقبلها ويتفهم ضرورتها. ولطالما يشهد المطبخ التشريعي إعداد بعض القوانين على عجل لمواجهة مواقف طارئة أو لتحقيق أغراض السلطة الحاكمة في تدعيم سيطرتها وفي محاربة خصومها.

ومن مظاهر العوار على المستوى التشريعي أيضاً أن تنظم الدولة قوانينها الجنائية فيما يتعلق بالتجريم أو الجزاء أو الإجراءات الجنائية بشكل مغالى فيه. فقد تقرر النصوص حماية واهية لمصالح حيوية ، أو أن تتجاهل حاجة المجتمع لتجريمات في مجال بعينه. وقد تقرر جزاءات قاسية لا تتناسب مع الاعتداء الواقع على المصلحة المحمية ، وقد تصاغ النصوص بصورة تقلل فرص تفريد العقوبات ، كأن تجعل أكثر العقوبات ذات حد واحد ، أو تقلل من نظام الخيرة بين أكثر من عقوبة بحيث لا يكون للقاضى نصيب من حرية التقدير حسب ظروف كل واقعة أو شخصية
كل متهم. وقد تتقرر إجراءات لا تضمن رد فعل سريع من الأجهزة المعنية إزاء ما يقع من جرائم ، وبطريقة لا تكفل التوصل إلى الجناة الحقيقيين. ولا شك أن كل هذا القصور يسهم بدوره فى استهانة الأفراد بنظام الدولة ككل وبالقانون الجنائى على وجه الخصوص.

ولعل أهم المراحل الجنائية التي يتوقف عليها نجاح السياسة الجنائية في مكافحة الجريمة هي مرحلة جمع الاستدلالات والتي تقوم عليها سلطة الضبط القضائى. ولاشك أن قصور وعدم فاعلية عمل مأموري الضبط القضائي في البحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات اللازمة للتحقيق فى الدعوى يرفع من معدل الإجرام العام في المجتمع. وقد ينشأ هذا القصور نتيجة عدم تنظيم جهاز الشرطة على نحو علمى سليم ، وعدم تدريب العاملين به تدريباً كافياً ، وافتقاره هذا الجهاز إلى الإمكانيات المادية والقوى البشرية الكافية التي تواكب أنماط الإجرام التقليدي منه والمستحدث. ومن المؤكد أن عجز جهاز الضبطية القضائية عن أداء رسالته في منع الجريمة يشجع على مزيد من الإجرام نتيجة استهانة الأفراد به.

كما تكشف بعض الإحصاءات عن أن لطبيعة ومقدار الجزاء الذي يطبقه القاضي أثره على حركة الإجرام داخل المجتمع. فتشدد القضاة يؤدي إلى تفعيل نظاما الردع الخاص والعام ، فلا يعاود الجاني جرائمه مرة أخرى ، ولا يقلده الآخرون في نشاطه. في حين أن ميل القضاة إلى “تسعير العقاب” والنزول بالعقوبات إلى حدها الأدنى يسمح بتبجح الجناة ومن لديهم ميول إجرامية على النظام الجنائي في المجتمع. والحق أن الظاهرة الإجرامية في معدلها لا ترتبط كثيراً بالجسامة الذاتية للعقوبة بقدر ما ترتبط بكونها تتميز بطابعي السرعة واليقين في تطبيقها. فحينما يتيقن الشخص ذو الميول الإجرامية أنه لن يفلت من العقاب وأن توقيع هذا الأخير سوف يتم في مدة قصيرة فإنه لن يدخل إلى طور التنفيذ ، حتى ولو كان العقاب المحتمل معتدل الجسامة.

وأخيراً فإن السياسة الجنائية في مكافحة الجريمة قد يصيبها العوار في مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي ، وذلك حينما تتبع المؤسسات العقابية نظم من المعاملة تجعل من السجن مدرسة للجريمة وأداة تفسد أكثر مما تصلح ، فتنتقل داخله عدوى الجريمة من المحترف إلى المبتدئ ، ومن ذوي الخطورة الإجرامية إلى المجرمين العرضيين فينقلبون بدورهم أساتذة في الإجرام ويعاودون من ثم نشاطهم الإجرامي في أعقاب الإفراج عنهم.

من هنا وجب الاهتمام بكل ما يتعلق بالتفريد التنفيذي للجزاءات الجنائية عقوبات كانت أم تدابير ، وكفالة إتباع أسلوب علمي يضمن تأهيل المجرم وإصلاحه وتهذيبه وإعادة اندماجه في المجتمع مرة أخرى. ويستوجب بيان الكيفية التي يتم بها هذا الأمر أن ندلف إلى الجزء الثاني من هذا المؤلف المتعلق بالحق في العقاب.

“اللهم اجعل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم ، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل”

المنصورة
في

28/6/2003

[1] ومن العوامل السياسية أيضاً طبيعة النظام السياسي للدولة. فلقد ربط البعض بين طبيعة التجريم في دولة وكون النظام السياسي للدولة يتبع النظام الجمهوري أم النظام الملكي ، يتبع نظام الحزب الواحد أم نظام تعدد الأحزاب ، يتبع النظام الرئاسي أم النيابي…الخ. وفي رأينا أن هذه مسألة أكثر دخولاً فى دراسة فلسفة قانون العقوبات من دخولها فى نطاق البحث فى علم الإجرام ، لذا فقد أبعدناها من نطاق دراستنا.

[2] راجع في
صلة الحروب بالجريمة :

P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 171 et s ; R. Gassin, op.
cit., p. 326 ; J. Léauté, op. cit., p. 254 et s.

د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص218 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص323 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص408 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص109 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص253 وما بعدها.

[3] ولعل غياب هذا الشعور بالتضامن هو الذي يفسر ارتفاع معدل الجرائم في الإحصاءات الأمريكية أبان حرب فيتنام ، وذلك عكس ما تبرزه الإحصاءات الجنائية المصرية في الأيام الأولى من حرب أكتوبر 1973.

[4] راجع حول الموضوع :

P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 173 et s ; R. Gassin, op.
cit., p. 328 ; J. Léauté, op. cit., p. 270 et s ; M. Hamadam, Délinquance
juvénile et guerre civile au Liban de 1975 à 1981, th. Nanterre, 1984.

د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص217 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص408 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح
الشاذلي ، المرجع السابق ، ص113 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ،
ص257 وما بعدها.

[5] راجع في
عرض لنتائج تلك الأبحاث

J. Léauté, op. cit., p. 271 et s.

[6] راجع
لمزيد من التفصيل :