صلاحية صاحب العمل في التعديل الإنفرادي لعقد العمل
تعديل عقد الشغل احتل حيزا كبيرا من اهتمامات الفقه والقضاء في سنوات الأخيرة الاهتمام يرجع إلى كون هذا التعديل ليس أمرا اختياريا، وإنما هو أمر مفروض على المقاولة في سباق الدائم عن تكييف قوة الشغل مع محيطها الاقتصادي والاجتماعي، من أجل مواجهة التحديات التي يفرضها اقتصاد السوق المرتكز على حرية المنافسة والمبادرة الحرة
ولما كان عقد الشغل سواء المحدد المدة منه أو غير المحدد المدة يعد عقد كسائر العقود، فإنه يخضع بالتالي، للأحكام العامة للتعاقد والتي من أسسها قاعدة العقد شريعة المتعاقدين. هذه القاعدة يتأدى مفهومها في كون العقد بمجرد إبرامه تكون له قوة ملزمة، بحيث تصبح أحكامه في القواعد التي تحكم العلاقة بين أطرافه. وبعبارة أخرى، تقوم بنود هذا العقد مقام القانون بالنسبة لأطرافه، فلا يستطيع أحدهما أن يستقل بتعديله أو تغييره، ما لم يتم الإنفاق على ذلك بالتراضي باستثناء الحالة التي يخول فيها العقد هذا الحق لأحد الطرفين أو في الحالات التي يجيز فيها المشرع لأحد أطراف العقد تغيير بنوده، دون الحاجة لرضى الطرف الأخر، وهذا ما جسدته المادة 23 من ق ل ع التي تنص على أنه: ” الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون”
وتطبيق هذا المبدأ على عقود الشغل ينتهي بنا إلى منع المشغل من إدخال اي تعديل بارادته المنفردة على عقد الشغل، وهكذا يلاحظ بأن هناك مصلحتين مختلفتين تتجاذبين موضوع تعديل عقد الشغل، فالأجير يتمسك بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين ويرفض كل تعديل يتم إدخاله من قبل الشغل على العقد ما لم يوافق عليه، خاصة إذا كان يمس بحقوقه أو يحمله بالتزامات إضافية، اما المشغل فهو يرى بدوره أن من حقه القيام بإدخال تعديلات على عقد الشغل، وذلك استجابة لما قد تستلزمه الظروف الاقتصادية والتغيرات الهيكلية وجوب إعادة تنظيم العمل بالمقاولة وفق ما تقتضيه مصلحة الشغل وازدهار المؤسسة
ويبدو أن هذه الاعتبارات، هي التي دفعت بالفقه والقضاء، إلى التدخل للاجل التوفيق بين المصلحتين المعارضتين، وذلك بمحاولة رسم الحدود الممكن في إطارها تعديل عقد الشغل، بها يسمح للمقاولة التكيف الظروف المالية والاقتصادية المحيطة بها، ويوفر في ذات الوقت حماية فعالة للأجير من استغلال المشغل لسلطته في الادارة و التنظيم قصد الاعتداء على حقوقه الأساسية والمساس بها، وذات علاوة على رسم مسطرة صارمةتطبع تفصيل التعديل المدخل على عقد الشغل, مبدئيا يمكن القول التعديلات التي قد تمس عقد الشغل تتخذ شكلين رئيسيين فهي إما تعديلات تمس المزايا المالية المقررة للأجير, و إما التعديلات المتعلقة بظروف أداء الأجير للشغل الذي يتحمل بإنجازه طبقا لعقد الشغل.
فإلى أي حد يمكن القول أن النطاق الذي رسمه الفقه و القضاء لحدود سلطة المشغل في تعديل العقد كفيل بتوفير حماية شاملة للأجير من تعسف المشغل؟
على ضوء هذا الإشكال الرئيسي، فإننا سنقوم بمعالجة موضوع تعديل عقد الشغل وفق التقسيم التالي :
المحتويات
1- تعديلات عقد الشغل الماسة بالمزايا المالية:
يعتبر الأجير عنصرا اساسيا في عقد الشغل, الأمر الذي يجعل تحديده خاضعا لاتفاق طرفي العقد ولا يمكن تعديله إلا بنفس الاتفاق المشترط لتحديده بداية، وإذا كان قيام الشغل بزيادة أجر الأجبر لا يطرح أي مشاكل مادام هذا الأخير لن يتردد في قبولة لأنه يتفق وغرضه من الشغل، على اعتبار أن الأجر من المسائل الأساسية أو العناصر الجوهرية لعقد الشغل التي لا يمكن للشغل أن يتفل بتعديلها، ما لم تكن هناك موافقة صريحة من الأجير المعني.
على ان الإشكال قد يثور بصدد بعض التعديلات التي قد يقوم الشغل في إطار سلطته التنظيمية، بإدخالها على طبيعة العمل داخل المؤسسة والتي تؤثر بشكل غير مباشر على أجر الأجير وتؤدي إلى التخفيف منه، مثل إنقاص ساعات العمل أو تعديل طريقة احتساب الأجر أو إلغاء بعض المزايا العينية التي يتمتع بها الأجير، فهل هذه التعديلات تعتبر من قبيل العناصر الجوهرية للعقد، والتي يمنع على المشغل المساس بها أو تغييرها، ما لم تكن هناك موافقة صريحة من الأجير، أم أن هذه العناصر تدخل في تذعداد مستلزمات إنجاز العمل، والتي يملك المشغل سلطة تغيرها وذلك بمقتضى ماله من سلطة التنظيم الإدارة داخل المؤسسة
اولا: تعديل طريقة احتساب الأجر
إذا تضمن عقد الشغل طريقة احتساب الأجر، فإنه يحكمها بحسب الأصل مبدأ العقد شريعة التعاقدين، بحيث لا يجوز للمشغل أن يستقل بتعديلها إلا بموافقة الأجير، وعلى خلاف المشرع المغربي الذي لم ينص صراحة على هذا الملتقى في مدونة الشغل الجديدة، فإن المشرع المصري كان صريحا في المادة 37 من قانون العمل في اشتراط موافقة الأجر الكتابية على كل تحويل لطريقة احتساب الأجر من الشهر إلى اليوم أو الساعة أو الأسبوع.
غير أنه لما كان من شأن هذا المبدأ أن يغل يد رئيس المقاولة عن التكيف مع الظروف الاقتصادية والمالية التي تمر منها المقاولة، فإن القضاء، وخاصة في كل مصر وفرنسا، قد حاول التلطيف شيئا ما من هذا المبدأ وذلك بتخويل المشغل في إطار سلطه التنظيمية الحق في تعديل طريقة احتساب الأجر المتفق عليها، سواء من اليوم إلى الشهر، أو من الشهر إلى القطعة، شرط عدم المساس بالاجر
ثانيا: تخفيض ساعات العمل
قد تضطر بعض الظروف المالية التي تمر منها المقاولة أو الأزمات الاقتصادية المحيطة بالمشغل الى تقليص ساعات العمل بالنسبة لبعض أو سائر العمال، وذلك وفق ما تتطلبه حاجيات المقاولة. فهل يبقى مثل هذا التعديل مشروعا لكونه يهدف إلى سلامة المقاولة مع محيطها الاقتصادي، أم أنه يعتبر بمثابة تعديل لعنصر جوهري في عقد الشغل يتطلب موافقة الأجير لأعماله.
الملاحظ في هذا الشأن أن تختفي الفترة الزمنية المخصصة لعمل الأجير قد يكون عاملا إيجابيا بالنسبة للأجير بحيث سيخفف عليه من أعباء الشغل، ويقلص من المجهودات المتطلبة منه لأداء التزامه بالعمل على أن هذا التخفيض لا يخلوا من انعكاسات فإذا كان الأمر يطرح أي إشكال بالنسبة للأجراء التي يتقاضون أجورهم بصفة دورية كالشهر مثلا، أو الاسبوع بصرف النظر عن عدد الساعات التي قضوها في انجاز الشغل، فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للأجراء الذين يحدد مبلغ الأجور المخصص لهم على ضوء عدد الساعات التي قضوها في إنجاز العمل، ذلك أن التخفيف من ساعات العمل في هذه الحالة الأخيرة، لابد وأن يلحقه بتخفيف في قيمة الأجر الذي سيحصل عليه الأجبر في آخر المطاف، فهل يمكن للمشغل إجراء تعديل من هذا القبيل على مدة الشغل بدعوى سلطته في تنظيم الشغل داخل المؤسسة بالرغم من انعكاساته السلبية على الأجير
نظرا لما يمثله تخفيض ساعات العمل من تخفيض غير مباشر للأجر، وأمام الأهمية المعيشية التي يمثلها الأجر بالنسبة للأجير، فإن الاجتهاد القضائي المغربي قد عمل على تكريس حماية كافية للأجير من التعديل الانفرادي من قبل المشغل لساعات العمل، بحيث يلزم لسريان مثل هذا التعديل موافقة الأجير، ففي هذا الإطار ذهب المجلس الأعلى سابقا في قرار له إلى أن: “المشغل الذي يلتزم بمقتضى عقد شغل بتوفير ساعات عمل محددة لا يمكن تخفيضها لاحقا إلا بموافقة الأجير لما لهذا التخفيض من أثر على الأجر الذي هو عنصر اساسي في عقد الشغل.
ثالثا: المساس بالمزايا العينية
كثيرا ما يتم الاتفاق في عقد الشغل أو يجري العرف على أن يحصل الأجير بالإضافة إلى المقابل النقدي، على ميزات معينة كما هو الحال في شأن اجراء الفنادق وبوابي العبارات السكنية من حصولهم، بالاضافة الى المقابل النقدي على المسكن وحصول عمال السكك الحديدية على تذاكر مجانية، فهل تعتبر هذه المزايا بمثالية أجر، وبالتالي يمنع على المشغل تعديلها أو إلغاؤها,
يذهب الفقه والقضاء إلى أن الميزة العينية لا تعتبر أجرا إلا بتوفر شرطين:
1- أن تكون عن العمل وليس تبرعا، وذلك استنادا إلى أن الأجر هو ما يتقاضاها الأجير لقاء عمله
2- أن تصرف هذه الميزة العينية للأجير باعتبارها مقابلا للعمل، وليس أداة من أدوات العمل، وتطبيقا لذلك يعتبر من أدوات العمل وليس مقابلا للعمل الملابس الممنوحة للاجراء قصد توحيد الزي، وكذلك السيارة الممنوحة للأجير لأداء عمل يتطلب التنقل أما إذا كان استخدام الأجير السيارة في تنقلاته الشخصية عندئذ يعتبر قيمة هذا الانتفاع بمثابة أجر، وقد أضيفي هذا الصدد بأن النسخ الصحفية المجانية التي تصرفها الإدارة إلى محرريها هي من قبل ما يستلزمه أداء العمل، ومن ثم لا يجوز اعتبارها جزءا من الأجر يترتب على ذلك أنه إذا نقل الأجيرمن دار صحفية إلى المطبعة، فليس له حق مكتسب في الحصول على نسخ مجانية من مطبوعاتها
وعلى هذا الأساس، فمتى توافر في الميزة العينية المقررة للأجير الشرطان الواردان أعلاه، فإنها تعني بمثابة اجر ويترتب على ذلك التزام صاحب العمل بادائها، ما دام العقد الذي يربطه بالأجير ساريا, ولا جوز له تعديلها بإرادته المنفردة أو الانتقاص منها.
أما في الحالة التي يخلو فيها العقد من التزام المشغل باداء ملحقات الأجر، وليس هناك عرف يقضی بتحويلها للأجير أو كان النظام الداخلي للمؤسسة ينص صراحة على عدم احتساب هذه الملحقات ضمن عناصر الأجر، فإن قيام المشغل بمنح عماله بعض هذه الملحقات، لا يعدو في هذه الحالة أن يكون سوى تبرع منه يجوز له العدول عنه بتصرف انفرادي منه دون موافقة الأجراء.
وتأسيسا على ذلك فقد قضت محكمة النقض المصرية بأن الأصل في المنحة انها تبرع، ولا تصبح التزامات يضاف إلى الأجر إلا إذا كان المشغل ملزما بأداتها ولما كانت لائحة الشركة تنص عليها بوصفها تبرعا مما یجوز معه لها أن تقوم بتعديلها أو إلغاءها.
2-تعديلات عقد الشغل الماسة بظروف العمل:
من المتفق عليها فقها وقضاء أن للمشغل الحق في تنظيم العمل داخل المؤسسة باعتباره المالك لها والمسؤول عن إدارتها، وبالتالي يجوز له في إطار سلطته التنظيمية اتخاذ جميع التدابير والإجراءات التي يراها فورية لتحسين المردودية داخل المؤسسة، أو للتكيف مع الأوضاع والظروف الاقتصادية المحيطة بها کما لو راى لأزمة اقتصادية ظهر أثرها عليه أو كارثة مالية توشك أن تنزل به، تضييق دائرة نشاطه او تقليص نفقاته.
والتعديلات التي يقوم بها المشغل في إطار سلطة الإدارة والتنظيم، قد تنصب بالأساس إما على زمان ومكان إنجاز العمل.
أولا: تعديل عقد الشغل فيما يتعلق بمكان إنجاز الشغل
متى تضمن عقد الشغل تحديد مكان إنجازه فإنه يتعين على الأطراف إنجاز الشغل في المكان المعين في العقد و لا يجوز لأي طرف الانفراد بتعديله إلا بموافقة الطراف الآخر
هذا وعلى خلاف الحالة التي يتضمن فيها عقد الشغل شرطا يخول للمشغل نقل الأجير من مكان إلى آخر تبعا لحاجيات المقاولة أو كانت الأعراف المهنية تقضي ذلك, فإن الإشكال يبقى حول مدى تخوي المشغل إمكانية من هذا القبيل في حال خلو العقد من مثل هذا الشرطوذلك في إطار سلطته التنظيمية؟
الأصل أن تحديد مكان تنفيذ الشغل لا يحول دون الشغل وتغيير ذلك بمقتضی سلطته التنظيمية في الإدارة و الإشراف طبقا لحاجة وظروف الإنتاج, وبما يراه كفيلا لتحقيق مصلحة العمل بغير قصد الإساءة إلى العامل طالما أن التغيير الذي يجريه ليس فيه ما يتعارض مع القانون.
غير أنه لما كان من شأن هذا المقتضى أن يطلق الحبل على الغارب في نقل الأجير من مكانلأخر وما يترتب عن ذلك من ضرر للأجير , فإن القضاء يشترط لصحة تغيير مكان العمل الا يكون هذا التعديل جوهريا وهو ما يطرح مشكل تحديد ما يعتبر تعديلا جوهريا لمكان العمل من عدمه.
أما في الحالة التي يكون فيها التعديل الوارد على مكان تنفيذ عقد الشغل من شأنه ان يحمل الأجير تكاليف إضافية، فإنه يشترط موافقة الأجير على هذا النقل، ولا إعتبر ذلك تعديلا تعسفيا للعقد لا ينتج اي أثر، وهو ما سبق أن أقره المجلس الأعلى سابقا في إحدي قراراته التي جاء فيها ” نقل الأجبر من مدينة الى مدينة أخرى ودون استفادته من هذا النقل… يعتبر تعديلا تعسفيا من طرف المشغل، وبالتالي فإن امتناع الأجير عن الالتحاق بمقر العمل الجديد لا يعتبر خطأ فادحا منه يستوجب طرده.
ثانيا: تعديل عقد الشغل فيما يتعلق بزمان أداء الشغل
يتخذ تعديل زمان إنجاز الشغل صورتين: الأولى تتمثل في التغيير من ساعات العمل زيادة أو نقصان والثانية تتمثل في إعادة تنظيم ساعات العمل بغير المساس بقدرها. فبالنسبة للصورة الأولى فانقاص ساعات العمل قد يتم عن طريق تخفيض أو إلغاء ساعات العمل الإضافية دون المساس بالساعات الأصلية للعمل، وهذا ما يملكه المشغل بمقتضی سلطته التنظيمية لمواجهة المتغيرات الاقتصادية و تحقيق المصلحة العمل، ولا يعتبر ذلك تعديلا جوهريا في زمان العمل ما لم يتضمن العقد اتفاق بحد أدنى من الساعات الإضافية
أما بالنسبة للنزول عن الحد الأدنى المقرر قانونا، فالرأي الراجح أن للمشغل النزول عنه استجابة لطلبات المشروع، شرط عدم المساس بأجر الأجير، وذلك استنادا على مقتضيات المادة 185 من مدونة الشغل
أما بالنسبة لزيادة ساعات العمل، فالمقصود منها الوصول بساعات العمل إلى الحد الأقصى المقرر قانونا بعد أن كان العمل قد جرى في المقاولة على تشغيل الأجير لساعات أقل من تلك المحددة في القانون، وهذا ما استقر القضاء على اعتباره تعديلا جوهريا، مما يدخل في السلطة التنظيمية للمشغل ، ولا يجوز اللاجراء المطالبة باجور إضافية عن الفرق بين عدد الساعات التي كانوا يشتغلونها والحد الأدني في المقرر قانونا.
کما قد يتخذ أيضا شكل اللجوء إلى ساعات إضافية، وهو ما يملك المشغل حق إجراءه شرط أن يدفع للأجراء تعويضا عن هذه الساعات. إذ تنص المادة 196 من مدونة الشغل على أنه: “يمكن، إذا تحتم على المقاولات أن تواجه اشغالا تقتضيها مصلحة وطنية، أو زيادة استثنائية في حجم الشغل، تشغيل اجراءها خارج مدة الشغل العادية، وفق الشروط التي ستحدد بنص تنظيمي، شرط أن تدفع لهم بالإضافة إلى أجورهم، تعويضا عن الساعات الإضافية”
أما الصورة الثانية تتخذ شكل إعادة تنظيم مواعيد الشغل بغير المساس بقدرها، وهو ما يدخل في إطار السلطة التنظيمية، حيث أن الفقرة الثانية من المادة 184 من مدونة الشغل، تخول للمشغل توزيع المدة السنوية للشغل على السنة حسب حاجيات المقاولة شريطة ألا تتجاوز مدة العمل العادية عشر ساعات في اليوم …