الإيجاب الممتد وإمكانية استخدامه بديلاً عن الوعد في التمويلات المصرفية الإسلامية
د. موسى آدم عيسى
شرع الله سبحانه وتعالى المعاملات بين الناس، وربط ذلك بعدم أكل أموال الناس بالباطل، وأن تكون كافة المعاملات والعقود برضا الطرفين، يقول الحق عز وجل (یا أیها الذین آمنوا لا تأكلوا أموالكم بینكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) النساء 29 ومن أجل ذلك حرمت الشريعة الإسلامية بيوع الغرر لما تتضمنه من جهالة بالمبيع (في مقداره أو في نوعه أو في صفاته) أو الثمن أو الآجل. كما يقتضي الرضا حرية الإرادة للطرفين لإجراء التعاقد دون إكراه أو غصب أو خديعة. وقد اتفق الفقهاء على أن التعبير عن الرضا يكون بالإيجاب والقبول.
وسوف نتناول في هذه الدراسة تعريف العقد في اللغة وفي الشرع، وأحكام وصور الموالاة والتراخي بين الإيجاب والقبول، وكذلك الإيجاب الممتد وصوره في الحياة، كما نتناول موضوع التعاقد بين غائبين وتطبيقات الإيجاب الممتد في المعاملات المصرفية الإسلامية وهل يمكن استخدام الإيجاب الممتد بديلًا عن الوعد في المرابحات والاعتماد المستندي والإجارة، وكذلك استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد بالصرف والمشاركة المتناقصة وكذلك الإجارة المنتهية بالتمليك.
العقد في اللغة:
يقصد بالعقد الجمع بين أطراف الشيء وتقويتها، يقال: عقد طرفي الحبل إذا وصل أحدهما بالآخر بعقدة تمسكها فأحكم وصلها. ويطلق على الضمان والعهد، يقال: عاقدته على كذا، إذا عاهدته عليه. ويطلق على الوجوب؛ يقال: عقد البيع إذا أوجبه، وجميع هذه المعاني تدور حول معنى الربط والشد(1).
العقد في الشرع:
يقصد بالعقد في الشرع أحد معنيين، معنى عام ومعنى خا؛
أما المعنى العام فيقصد به كل التزام تعهد الإنسان بالوفاء به سواء أكان في مقابل التزام آخر كالبيع والشراء ونحوه أم لا، كالنذر والطلاق واليمين، وسواء أكان التزامًا دينيًّا كأداء الفرائض والواجبات أم التزامًا دنيويًّا، يقول أبوبكر الجصاص: «العقد هو ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو، أو ما يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه، فسمي البيع والنكاح وسائر عقود المعاوضات عقوداً لأن كل واحد من طرفي العقد ألزم نفسه الوفاء به، وسمي اليمين على المستقبل عقداً لأن الحالف ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من الفعل أو الترك، وكذلك العهد والأمانة لأن معطيهما قد ألزم نفسه الوفاء بهما، وكذا كل ما شرط الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد، وكذلك النذور وما جرى مجرى ذلك»(2).
العقد هو كل التزام تعهد الإنسان بالوفاء به سواء أكان في مقابل التزام آخر -كالبيع والشراء ونحوه- أم لا
أما المعنى الخاص للعقد فهو الالتزام الذي لا يتحقق إلا من طرفين. وهذا المعنى هو المراد عند إطلاق الفقهاء بلفظ العقد، فهم يعنون به صيغة الإيجاب والقبول الصادرة من متعاقدين، وهذا هو المعنى الشائع في كتب الفقهاء، فهو بذلك «ربط أجزاء التصرف بالإيجاب والقبول»(3)، يقول الإمام الزركشي: العقد هو «ارتباط الإيجاب بالقبول الالتزامي»(4)، أي الذي ينشأ عنه التزام. وعرفه ابن عابدين بقوله: «العقد مجموع إيجاب أحد المتكلمين مع قبول الآخر»(5).
وعرف بعض المعاصرين العقد بأنه: «ارتباط الصيغة القولية أو الفعلية الصادرة من المتعاقدين على وجه مشروع يظهر أثره في محل العقد»(6).
2- الرضا أساس المعاملات:
شرع الله سبحانه وتعالى المعاملات بين الناس، وربط ذلك بعدم أكل أموال الغير بالباطل، وأن تكون برضا الطرفين، يقول الحق عز وجل (یا أیها الذین آمنوا لا تأكلوا أموالكم بینكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) النساء 29، والرضا يقتضي العلم بما هو مرضي عنه، ولأجل هذا حرمت الشريعة بيوع الغرر لما تتضمنه من جهالة بالمبيع (سواء مقداره أو نوعه أو صفاته) أو الثمن أو الاجل. كما يقتضي الرضا حرية الإرادة للطرفين لإجراء التعاقد دون إكراه أو غصب أو خديعة.
واتفق الفقهاء على أن التعبير عن الرضا يكون بالإيجاب والقبول .
2/1 – الإيجاب:
والإيجاب يعني اللزوم، جاء في لسان العرب: «وَجَبَ الشيءُ يَجِبُ وأوجَبَهُ هو، وأوجبه، واستوجبه أي استحقه. يقال: وجب الشيء وجوباً إذا ثبت، ولزم، ووجب البيع يجب جِبَةً، وأوجبْتُ البيعَ فوجب. وقال اللحياني: وجبَ البيع جِبَةً ووجوباً، وقد أوجب لك البيع وأوجبه هو إيجاباً؛ واستوجب الشيء: استحقه. والموجِبة: الكبيرة التي يُستوجَب بها العذاب؛ وأوجب الرجل إذا عمل عملاً يوجب له الجنة أو النار(7).
أما في الشرع فقد عرفه صاحب البحر الرائق من الحنفية بقوله: «الإيجاب هو اللفظ الصادر أولاً من أحد المتخاطبين مع صلاحية اللفظ لذلك رجلاً كان أو امرأة(8)، ويقول ابن عابدين: الإيجاب هو «إثبات الفعل الخاص والدال على الرضا، سواء وقع من البائع أو من المشتري فيقول: اشتريت منك هذا بألف، والقبول الفعل الثاني»(9)، يقول الكمال ابن الهمام: «البيع ليس إلا الإيجاب والقبول لأنهما ركناه»(10).
فالإيجاب وفقاً للحنفية هو العرض الأول الذي يعبر به الشخص الصادر منه على وجه جازم عن إرادته في إبرام عقد معين.
العقد ينعقد بالتقاء الإيجاب والقبول الواقعان على محل معين
أما جمهور الفقهاء فلا يشترط عندهم أن يكون الإيجاب هو الذي يصدر أولاً، وإنما يكون الإيجاب ممن يملك المبيع سواء صدر أولاً أو آخراً.
فالإيجاب عند الجمهور هو ما صدر من البائع، والمؤجر، أو الزوجة، أو وليها، سواء صدر أولاً أو آخراً، لأنهم هم الذين سيمَلّكون المشتري السلعة المبيعة، والمستأجر منفعة العين، والزوج العصمة.. وهكذا(11). جاء في حاشية العدوي: «الإيجاب من البائع، والقبول من المشتري… ولما كان البائع هو المبتدىء في الأصل عُد مثبتاً للبيع، وإن كان الإثبات إنما يحصل من الجانبين»(12). وفي المغني لابن قدامة: «فالإيجاب أن يقول: بعتك أم ملّكتك أو لفظاً يدل عليهما»(13).
2/2 – القبول:
في اللغة هو الرضا والإجابة كما في مختار الصحاح: «من قبل الشيء قبولاً وقُبولاً: أخذه عن طيب خاطر، يقال: قبِل الهدية ونحوها، وقبلت الخبر: صدقته، وقبلت الشيء قبولاً: إذا رضيته، وقبل العمل: رضيه، والقبول: الرضا بالشيء وميل النفس إليه، وقبل الله الدعاء: استجابه»(14).
والإيجاب يتلوه قبول المتعاقد الآخر، ولكن ليس من الضروري أن يأتي الإيجاب سابقاً على القبول، فقد يتم العقد بتلاقي تعبيرين متزامنين عن إرادتين متطابقتين.
3 – مجلس العقد – تعريفه ومذاهب الفقهاء فيه:
ينعقد العقد بالتقاء الإيجاب والقبول الواقعان على محل معين، ويطلق الفقهاء على الحالة التي يلتقي فيها الإيجاب بالقبول مجلس العقد، وإن كان هناك سؤال يثور في هذا الصدد: هل يعني الفقهاء بمجلس العقد وحدة المكان أم وحدة الزمان؟
فالمجلس بالفتح يشير إلى المكان، جاء في لسان العرب: «والمجلس بفتح اللام المصدر، والمجلس موضع الجلوس، وهو من الظروف غير المتعدِّي إليها الفعل بغير في». وفي المعجم الوسيط: المجلس: مكان الجلوس. والطائفة من الناس تخصَّص للنظر فيما يناط بها من أعمال. ومنه مجلس الشعب، ومجلس العموم، ومجلس الأعيان، والمجلس الحِسبي».
أما المجلس في استخدام الفقهاء فالذي يفهم من بعض أقوالهم أنهم يشيرون بمجلس العقد إلى المكان الذي يضم المتعاقدين، وإلى هذا يذهب أغلب الحنفية(15)، أو حالة انعقاد العقد باعتبار ذلك هو الأغلب، جاء في المادة 181 من مجلة الأحكام العدلية «مجلس العقد هو الاجتماع الواقع لعقد البيع».
ولعل كثيراً من الفقهاء المعاصرين يميلون إلى تفسير مجلس العقد بالحالة التي ينعقد فيها العقد وليس إلى مكانه فقط، لذا نجد من عرّف مجلس العقد بأنه: «الحال الذي يكون فيه المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد ومنشغلين به»(16)، أي حال اتحاد الكلام في موضوع العقد.
وحيث إن العقد يقوم على الإيجاب والقبول من حيث إنهما يعبران عن الرضا الذي هو أساس التبادل؛ فالأصل أن يقترن الإيجاب بالقبول دونما فاصل زمني مؤثر. إلا أن الواقع يتطلب أحياناً من الموجب أو من القابل أن يتروى قبل أن يقبل بالبيع، ولهذا مالَ كثير من المعاصرين إلى تعريف مجلس العقد بأنه «الفترة الزمنية الفاصلة ما بين الإيجاب والقبول والتي تتحدد خلالها المدة التي يبقى فيها الإيجاب صالحاً لاقترانه بالقبول»(17).
ويذهب جمهور الفقهاء: الحنفية والشافعية والحنابلة، أن للموجب خيار الرجوع عن إيجابه إلى أن يصدر القبول أو ينفض المجلس، وخالف المالكية حيث لم يجيزوا للموجب حق الرجوع(18).
ويكون للطرف المخاطب بالإيجاب خيار القبول لحين انفضاض المجلس، فهو غير ملزم بالقبول.
لو رجع أحد المتبايعين عن البيع بعد الإيجاب وقبل القبول بطل الإيجاب
والإيجاب قد يتصل بالقبول في مكان وزمان واحد في حال التعاقد بين حاضرين، وقد يمتد مجلس العقد بين الحاضرين فيختلف المكان والزمان، ولكن مادام أنهما قد ظلا متلازمين فيمتد مجلس العقد بتلازمهما حتى وإن اختلف الزمان أو المكان، كأن يكونا ماشيين في الطريق وقد يختلف زمان الإيجاب عن زمان القبول في حال التعاقد بين متباعدين، وقد ناقش الفقهاء حالات اتصال الإيجاب بالقبول، ومتى يكون الإيجاب لازماً للموجب، وهذا ما سنناقشه في الفقرة التالية.
4 – الموالاة (التراضي) بين الإيجاب والقبول – أحكامها وصورها:
4/1 – في حال التعاقد بين حاضرين:
ينظر بعض الفقهاء المعاصرين إلى مجلس العقد باعتباره وحدة زمنية تبدأ من وقت صدور الإيجاب وتستمر طوال المدة التي يظل فيها العاقدان منصرفين إلى التعاقد، دون ظهور إعراض من أحدهما عن التعاقد، وتنتهي بالتفرق، وهو مغادرة أحد العاقدين للمكان الذي حصل فيه العقد(19). والسؤال هو: ما طول هذه الفترة؟ وهل يضر إذا حدث تراخي بين الإيجاب والقبول؟
في هذا الصدد نجد أن الفقهاء على مذهبين:
المذهب الأول: يشترط الفورية في اتصال الإيجاب بالقبول، ويتبنى هذا الرأي المذهب الشافعي وبعض الحنابلة. يقول النووي في الروضة: « يشترط ألا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول، وأن لا يتخللهما كلام أجنبي عن العقد، فإن طال، أو تخلل، لم ينعقد، سواء تفرقا عن المجلس أم لا، ولو مات المشتري بين الإيجاب والقبول ووارِثه حاضر فقَبل، فالأصح المنع»(20). وجاء في مغني المحتاج: «ويضر تخلل كلام أجنبي ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول ولو لم يتفرقا عن المجلس، لأن فيه إعراضاً عن القبول»(21).
المذهب الثاني: مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة الذين يجيزون التراخي في القبول كما يقضي العرف، وإعطاء فرصة للموجه إليه الإيجاب تمكّنه من النظر والتروي، مما لا يستغنى عنه في إبرام العقود، وفي هذا يقول الكاساني: «فإن اختلف المجلس لا ينعقد حتى لو أوجب أحدهما البيع فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس ثم قبل لا ينعقد؛ لأن القياس أن لا يتأخر أحد الشرطين عن الآخر في المجلس، والتأخر لمكان الضرورة وأن تندفع بالفور، ولنا (أي الحنفية) أن في ترك اعتبار الفور ضرورة، لأن القابل يحتاج إلى التأمل، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل، وعلى هذا إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابتين أو دابة واحدة في محمل واحد، فإن خرج الإيجاب والقبول منهما متصلين انعقد، وإن كان بينهما فصل وسكوت – وإن قَلّ – لا ينعقد، لأن المجلس يتبدل بالمشي والسير»(22). ويلخص الحطاب موقف المذهب المالكي بقوله: «والذي تحصل عندي من كلام أهل المذهب أنه إذا أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتفاقاً، وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقاً. وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عما كانا فيه حتى لا يكون كلامه جواباً للكلام السابق»(23). ويقول الدسوقي: «لا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرجا من البيع لغيره عرفاً، وللبائع إلزام المشتري ولو طال الزمان»(24).
وأما فقهاء الحنابلة فهم يتفقون مع المالكية والحنفية في عدم اشتراط الفورية، ولكنهم «يأخذون في الوقت نفسه بخيار المجلس على معناه الصحيح المتفق مع ظاهر الحديث الصحيح وهو )البيعان بالخيار مالم يتفرقا(، فالحنابلة هم أوسع المذاهب في هذه المسألة لأنهم يسمحون بالتروي قبل إتمام العقد ولا يشترطون صدور القبول فور صدور الإيجاب، وفي الوقت نفسه يسمحون بالتروي بعد انعقاد العقد فعلا فيسمحون لكل من العاقدين – طبقاً للنص – بفسخ العقد مادام المجلس لم ينفض(25).
ونصت المادة (182) من مجلة الأحكام العدلية على إثبات الخيار للمتبايعين: «المتبايعان بالخيار بعد الإيجاب إلى آخر المجلس، مثلاً: لو أوجب أحد المتبايعين البيع في مجلس البيع بأن قال: بَعت هذا المال أو اشتريت ولم يقل الآخر على الفور اشتريت أو بعت بل قال ذلك متراخياً قبل انتهاء المجلس ينعقد البيع وإن طالت تلك المدة»(26).
الإيجاب ينتهي إذا كان القبول غير مطابق للإيجاب بأن زاد القابل أو عدَّل فيه
ولعل ما ذهب إليه جمهور الفقهاء هو الراجح وهو الذي عليه العمل، وقد رجحه مجمع الفقه الإسلامي الدولي في قراره رقم 53 (3/6) ونصه: «التعاقد بين الحاضرَين يشترط له اتحاد المجلس – عدا الوصية والإيصاء والوكالة – وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والموالاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف»(27).
ولخصت مجلة الأحكام العدلية في المادتين (183 – 184) خلاصة المذهب الحنفي، إذ نصت في المادتين على مايلي: «لو صدر من أحد العاقدين بعد الإيجاب وقبل القبول قول أو فعل يدل على الإعراض بطل الإيجاب، ولا عبرة بالقبول الواقع بعد ذلك؛ مثلاً: لو قال أحد المتبايعين: بعت واشتريت واشتغل الآخر قبل القبول بأمر آخر أو بكلام أجنبي لا تعلق له بعقد البيع بطل الإيجاب ولا عبرة بالقبول الواقع بعده ولو قبل انفضاض المجلس».
المادة (184): «لو رجع أحد المتبايعين عن البيع بعد الإيجاب وقبل القبول بطل الإيجاب، فلو قبل الآخر بعد ذلك في المجلس لا ينعقد البيع؛ مثلاً: لو قال البائع: بعت هذا المتاع بكذا وقبل أن يقول المشتري قبلت رجع البائع ثم قبل المشتري بعد ذلك لا ينعقد البيع»(28).
والذي يفهم من نصوص الفقهاء على اختلاف يسير بينهم أن الإيجاب ينتهي في الحالات الآتية»(29):
(أ) إذا عدل الموجب عن إيجابه في مجلس العقد قبل أن يقترن به قبول.
(ب) إذا رفض من وُجه إليه الإيجاب صراحة أو ضمناً كأن ينشغل بغيره.
(ج) إذا كان القبول غير مطابق للإيجاب بأن زاد القابل أو عدَّل فيه.
(د) إذا انتهت المدة المحددة للإيجاب دون قبول بأن افترق الموجب والقابل عرفاً كما يقول ابن قدامة «والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعاداتهم فيما يعدونه تفرقاً، لأن الشارع علق عليه حكماً ولم يبينه، فدل أنه أراد ما يعرفه الناس(30).
4 – الإيجاب الممتد:
الأصل أن الإيجاب ينتهي إما بقبول من وُجه له في مجلس العقد أو برفضه؛ بيد أن الإيجاب قد يكون موجهاً إلى شخص بعيد مكاناً، أو أن الموجب يرغب في امتداد إيجابه زماناً. وفي ضوء هذا المفهوم يمكن تعريف الإيجاب الممتد على النحو التالي:
4/1 – الإيجاب الممتد: هو الإيجاب الجازم الصادر من الموجب والممتد لما بعد مجلس العقد والمتعلق بمحل معين (عين أو منفعة) يملكه الموجب أو له حق التصرف فيه، والموجه إلى شخص محدد أو إلى مجموعة أشخاص بحيث ينعقد العقد على المحل بمجرد قبول من وجه له الإيجاب.
ومن خلال التعريف السابق يشترط في الإيجاب الممتد الشروط الآتية:
(أ) أن يكون الإيجاب جازماً: أي باتاً وغير معلق على شرط أو مضافاً إلى المستقبل.
(ب) أن يتعلق الإيجاب بمحل معين: وهذا الشرط قصد به أن الإيجاب يجب أن يكون صادراً ممن يملك محلاً قابلاً للبيع أو الأجرة.
(ج) يشترط تحديد من يوجه له الإيجاب سواء أكان شخصاً بعينه أو فئة من الناس أو لكل الناس.
(د) يشترط أن يكون للإيجاب الممتد أجل، طويلاً كان أم قصيراً.
4/2 – الفرق بين الإيجاب الممتد وبين العقد المعلق والعقد المضاف إلى المستقبل:
العقد المعلق(31) هو العقد الذي يتم «إنشاؤه بصيغة تفيد ارتباط وجوده بأمر آخر معلق عليه، وهو المسمى بالشرط الجعلي»(32). والعقد المعلق على شرط نحو قول القائل: أبيعك سيارتي إن اشترى لي والدي سيارة جديدة، فهو عقد معلق على شرط، وبذلك فهو يختلف عن الإيجاب الممتد الذي هو شطر العقد ولا يكتمل العقد إلا بقبول الطرف القابل للإيجاب، وبذلك فهما يختلفان.
والأمر نفسه ينطبق على البيع المضاف إلى المستقبل نحو قول القائل: أبيعك سيارتي الشهر القادم.
4/4 – الفرق بين الإيجاب الممتد والوعد الملزم:
الوعد كما عرفه بعض الفقهاء: «تصرف شرعي قولي يتم بالإرادة المنفردة، قوامه تعهد شخص بلفظ الإخبار بأن يسدي لغيره معروفاً مجاناً دون مقابل في المستقبل(33). والوعد في رأي جمهور الفقهاء ملزم ديانة وغير ملزم قضاء، بينما ذهب بعض الفقهاء إلى لزوم الوعد بالشراء إن كان على سبب ودخل الموعود…، وهو ما رجحه مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
العقد المعلق هو الذي يتم إنشاؤه بصيغة تفيد ارتباط وجوده بأمر آخر معلق عليه
5 – التعاقد بين غائبين:
إذا كان مجلس العقد هو الفيصل في الحكم على حق الموجب في الرجوع عن إيجابه أم لا، وهو ما تمت مناقشته في الفقرة السابقة، فإن الحياة العملية تشهد العديد من الصور التي يتم من خلالها التعبير عن إرادة التعاقد، فقد يكون ذلك من خلال اللفظ، أو الإشارة للأخرس، والرسالة والرسول في الماضي، ومثل الهاتف والفاكس والبريد الإلكتروني وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة. ومن الأهمية بمكان بيان الحكم الشرعي في الحالات التي لا يجمع الموجب فيها والقابل مجلس واحد، كأن يكونا متباعدين ويجري التواصل بينهما بإحدى طرق التواصل المذكورة.
4/2/1 – التعبير عن الإرادة العقدية:
التعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأية صيغة تدل عرفاً على إنشاء العقد، سواء بالقول أو الفعل أو بالإشارة أو الكتابة.
اللفظ : هو الأداة الطبيعية الأصلية في التعبير عن الإرادة الخفية، حيث إن الناس عادة يتخاطبون بالكلام الذي هو أداة التعبير والتخاطب مستخدمين في ذلك أداة اللغة المتعارفة بينهم للتعبير عن رضاهم أو رفضهم للتعاقد.
كما يجوز التعبير عن الرضا بالإشارة لمن لا يستطيع الكلام، يقول ابن قدامة: «وإن خرس أحدهما قامت إشارته مقام لفظه»(34)، وفي روضة الطالبين: «يصح بيع الأخرس بالإشارة أو الكتابة»(35)، ويقول الحطاب: «وعلم أيضاً أنه ينعقد بكل قول يدل على الرضا وبالإشارة الدالة على ذلك، وهي أولى من المعاطاة، لأنها يطلق عليها كلام»(36).
ويقول الشيخ مصطفى الزرقا: «إن النطق باللسان ليس طريقاً لظهور الإرادة العقدية بصورة جازمة في النظر الفقهي، بل النطق هو الأصل في البيان، ولكن قد تقوم مقامه كل وسيلة اختيارية أو اضطرارية مما يمكن أن يعبر عن الإرادة الجازمة تعبيراً كاملاً مفيداً»(37). وينعقد بين الغائبين عند بلوغ الإيجاب لمن وُجه له وقبوله ذلك الإيجاب، ويعد ذلك هو وقت انعقاد العقد، ولا يشترط أن يكون القبول قد وصل إلى علم الموجب(38).
وقد يتم التعبير عن الإرادة عن طريق الوسائل الحديثة والتي تشمل:
(أ) الوسائل الحديثة لنقل الصوت كالهاتف والراديو.
(ب) الوسائل الحديثة لنقل الكتابة كالبرقية والفاكس ورسائل الجوال.
(ج) الوسائل الحديثة لنقل الصوت والصورة مباشرة كالإنترنت.
وتعاقد الأطراف في حالة تفرقهم من حيث الزمان والمكان عن طريق الرسول أو الكتابة أو التلكس وما شابه يثير تساؤلاً عما إذا كان مثل هذا التعاقد يعتبر تعاقداً بين غائبين في مجلس عقد حكمي، ومن ثم تجري عليه أحكام مجلس العقد؛ أم تطبق عليه أحكام مجلس العقد الحقيقي؟ وخاصة في الحالات التي يكون فيها المتعاقدان متباعدين من حيث المكان والأبدان؛ حتى وإن كانا متعاصرين من حيث الزمان، وقد يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل زمني ومكاني، وذلك في الحالات التي يكون الإيجاب فيها مرسلاً عبر كتاب أو رسول يحتاج إلى زمن ليصل إلى القابل.
وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التعاقد عن طريق الكتابة، وكما جاء في الفتاوى الهندية: «والكتاب كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة»(39). يقول الكاساني: «وأما الكتابة فهي أن يكتب الرجل إلى رجل: أما بعد، فقد بعت عبدي فلاناً منك بكذا، فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه: اشتريت؛ لأن خطاب الغائب كتابه، فكأنه حضر بنفسه، وخاطب بالإيجاب، وقبل الآخر في المجلس»(40)، ويقول في موطن آخر: «وأما الكتابة فهي أن يكتب الرجل إلى رجل: أما بعد فقد بعت كذا منك، فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه: اشتريت – أي انعقد العقد – لأن كتاب الغائب كتابة، فكأنه حضر بنفسه وخاطب بالإيجاب وقبل الآخر في المجلس»(41). ويقول النووي: «وحكم الكتب على القرطاس والرق واللوح والأرض والنقش على الحجر والخشب واحد، ولا أثر لرسم الأحرف على الماء والهواء، قال بعض الأصحاب تفريعاً على صحة البيع بالمكاتبة: لو قال بعت داري لفلان وهو غائب؛ فلما بلغه الخبر قال: قبلت، انعقد العقد، لأن النطق أقوى من الكتب»(42).
ويعتبر مجلس وصول الرسول أو الكتاب هو مجلس العقد، فيلزم أن يقبل به، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل انتهى مفعول الإيجاب، وكذا الأمر في حال الرسالة، فالمعتبر هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة، ويثبت الفقهاء للموجب حق الرجوع قبل صدور الإيجاب من الطرف الموجه له؛ يقول…: «ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله، سواء علم الآخر أو لم يعلم، حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع»(43).
وقد صدرت عدة قرارات مجمعية تتعلق بالتعاقد بين المتباعدين، من ذلك القرار الصادر عن ندوة مجمع الفقه الإسلامي بالهند في هذا الخصوص، والذي جاء فيه مايلي:
«أولاً – المراد من المجلس الحال التي يشتغل فيها العاقدان بإجراء التعاقد، والقصد من اتحاد المجلس أن يتصل الإيجاب بالقبول في وقت واحد، ومن اختلاف المجلس أن لا يتصل الإيجاب بالقبول في وقت واحد.
ثانياً – (أ) يصح الإيجاب والقبول في البيع عن طريق الهاتف ومؤتمر الفيديو، وإذا كان العاقدان على شبكة الإنترنت في وقت واحد؛ ويُظهر الطرف الآخر قبوله بعد الإيجاب بالفور انعقد البيع، ويعتبر مجلس العاقدين في هذه الصورة متحداً.
(ب) إذا أجاب أحد في البيع على الإنترنت ولم يكن الطرف الآخر متواجداً على الإنترنت وقت الإيجاب، وبعد وقت تسلم الإيجاب، فهذه إحدى صور البيع بالكتابة، وعندما يقرأ الإيجاب يلزمه إظهار القبول في حينه»(44).
والأمر نفسه ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي؛ إذ نص في الفقرة الثانية من قراره رقم (54/3/6) لسنة 1990م بشأن إجراء العقد بآلات الاتصال الحديثة على أنه: «2- إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقداً بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء»(45).
6 – صور الإيجاب الممتد في الحياة اليومية:
للإيجاب الممتد تطبيقات كثيرة في الحياة اليومية، ومن أمثلة ذلك:
– عروض السلع في المحلات التجارية والتي يسجل عليها ثمن السلعة، فذلك إيجاب موجه إلى العموم، إذ يحق لكل من يدخل المحل أن يقبل شراء السلعة بثمنها المرقوم فيها.
– عروض السلع على شبكة الإنترنت، إذ تنتشر على شبكة الإنترنت ملايين السلع المعروضة والمحدد ثمنها، ولكل من يرغب تسديد الثمن واستحقاق السلعة التي ترسل له عن طريق شركات التوصيل.
– ماكينات البيع المباشر والتي يوجد بداخلها أصناف من السلع مع تحديد ثمنها، ويحق لأي شخص إدخال النقود في المكان المخصص لذلك وتسلم سلعته من الماكينة.
– التخفيضات الموسمية الموجهة للجميع أو إلى فئة محددة.
والأمثلة على ذلك تكاد لا تحصى.
المراجع
(1) لسان العرب، القاموس المحيط، معجم مقاييس اللغة.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2/294-295.
(3) مختار الصحاح، دار الكتاب العربي، محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي، بيروت، بلا سنة طبع، 1/45. وانظر العقود والشروط والخيارات، أحمد إبراهيم بك، بحث منشور في مجلة القانون والاقتصاد، السنة الرابعة، العدد الأول، 1934م، ص644.
(4) المنثور في القواعد 2/397.
(5) رد المحتار على الدر المختار 3/1.
(6) نظرية العقد وتطبيقاتها المعاصرة، د. باسل محمود عبدالله الحافي ص19.
(7) لسان العرب 1/793.
(8) البحر الرائق 3/87.
(9) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 4/506.
(10) فتح القدير 5/75.
(11) المجموع للنووي 7/165، المغني لابن قدامة 3/561.
(12) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني، ج2، ص129. وانظر عند الشافعية والحنابلة: روضة الطالبين للنووي، ج3، ص328، الغرر البهية لزكريا الأنصاري، ج2، ص287، الفروع وتصحيح الفروع للمرداوي، ج6، 121. الإنصاف للمرداوي ج4، ص259.
(13) شرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2، ص5. المغني لابن قدامة 6/7.
(14) مختار الصحاح 217.
(15) حتى إنهم يبطلون العقد إذا تحرك المتعاقدان من مكانهما. انظر: بدائع الصنائع للكاساني 6/2993.
(16) المدخل الفقهي العام للشيخ الزرقا 1/348. الفقه الإسلامي وأدلته 4/106.
(17) مجلس العقد، لمحمدعبدالله صديق
(18) فتح القدير لابن الهمام 5/78، الروضة للنووي 3/339، كشاف القناع للبهوتي 3/147.
(19) الخيار وأثره في العقود، د. عبدالستار أبو غدة، ط2، ج1، مطبعة مقهوي، الكويت 1985م، ص118.
(20) روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي، إشراف زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، ط3، 3/342.
(21) مغني المحتاج للشربيني 2/5-6. وانظر كشاف القناع للبهوتي 3/148.
(22) بدائع الصنائع للكاساني 5/137.
(23) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، للحطاب، دار الفكر 4/240-241.
(24) الدسوقي 4/5.
(25) العقد في الفقه الإسلامي (دراسة مقارنة بالقانون الوضعي تكشف تفصيلاً عن تفوق التشريع الإسلامي)، د. حسني محمد www.alukah.net
(26) مجلة الأحكام العدلية، المادة 182.
(27) قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي، قرار رقم 53 (3/6).
(28) مجلة الأحكام العدلية.
(29) مواهب الجليل 4/240-242. روضة الطالبين 3/338-339. الهداية 3/17.
(30) المغني لابن قدامة 6/12.
(31) يختلف الفقهاء حول جواز العقد المعلق، إذ يذهب الجمهور إلى منعه لأن البيع يقتضي نقل الملكية، ووجود الشرط يكون مانعاً من ذلك فضلاً عن وجود الغرر – يتضمن التعليق غرراً، فالتصرف المعلق مرتبط في وجوده بالشرط المعلق الذي يمكن أن يقع أو لا يقع، وهذا معنى الغرر. بينما يذهب شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى جوازه. قال ابن القيم: «تعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف» إعلام الموقعين 3/399.
(32) المدخل الفقهي العام للزرقا 1/564.
(33) الوفاء بالوعد في الفقه الإسلامي للدكتور نزيه حماد، مجلة المجمع 2/9083.
(34) المغني 6/14.
(35) روضة الطالبين 3/343.
(36) مواهب الجليل 4/229.
(37) المدخل الفقهي العام 2/326.
(38) حاشية رد المحتار على الدر المختار 4/14.
(39) الفتاوى الهندية، نظام ومجموعة من علماء الهند 3/9.
(40) علاء الدين الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. المصدر السابق ج5، ص138.
(41) بدائع الصنائع 6/2994.
(42) المجموع شرح المهذب 9/197.
(43) فتح القدير 5/79.
(44) قرارات مجمع الفقه الإسلامي بالهند، قرار رقم 54 (3/13).
(45) قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي، قرار رقم 45 (3/6).
شرع الله سبحانه وتعالى المعاملات بين الناس، وربط ذلك بعدم أكل أموال الناس بالباطل، وأن تكون برضا الطرفين، يقول الحق سبحانه (یا أیها الذین آمنوا لا تأكلوا أموالكم بینكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) النساء 29، والرضا يقتضي العلم بما هو مرضي عنه، ومن أجل ذلك حرمت الشريعة بيوع الغرر لما تتضمنه من جهالة بالمبيع (سواء مقداره أو نوعه أو صفاته) أو الثمن أو الأجل. كما يقتضي الرضا حرية الإرادة للطرفين لإجراء التعاقد دون إكراه أو غصب أو خديعة.
وقد اتفق الفقهاء على أن التعبير عن الرضا يكون بالإيجاب والقبول. وقد تناولنا في الحلقة السابقة تعريف العقد في اللغة وفي الشرع، وكيف أن الرضا أساس المعاملات وأن الرضا يكون بالإيجاب والقبول، كما تناولنا مجلس العقد ومذاهب الفقهاء فيه، والرضا بين الإيجاب والقبول، والإيجاب الممتد والفرق بينه وبين العقد المعلق والعقد المضاف إلى المستقبل، وصور الإيجاب في الحياة اليومية.
وسوف نتناول في هذه الحلقة استخدام الإيجاب الممتد في الصيغ المتداولة في المعاملات المصرفية الإسلامية.
7 – استخدام الإيجاب الممتد في الصيغ المصرفية:
7/1 – استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد بالشراء:
تم تضمين الوعد في عدد من المنتجات المصرفية الإسلامية منها: المرابحة والإجارة والاعتمادات المستندية بالمرابحة، تم تضمينها مخرج شرعي لتغطية المخاطر التي يتعرض لها البنك والتي تنشأ في حالات قيام البنك بشراء السلعة دون أن يكون هناك التزام تعاقدي على العميل. وبعد الشراء يطلب البنك من العميل التوقيع على عقد البيع أو على عقد الإجارة، ومادام لا يوجد التزام على العميل فله قبول الشراء مرابحة أو قبول التوقيع على عقد الإجارة، وله الامتناع عن ذلك، وفي حال الامتناع عن التوقيع يتعرض البنك لما يسمى بالمخاطر السعرية وهي عبارة عن الخسائر التي تنشأ نتيجة إعادة بيع السلعة في السوق بسعر أقل من تكلفتها.
وفي حال تطبيق الوعد الملزم بالشراء يلتزم العميل بموجب الوعد بتعويض البنك عن الخسائر الفعلية الناشئة عن عملية إعادة البيع طبقاً لقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن المرابحة للآمر بالشراء والذي ينص على الآتي:
«ثانياً – الوعد: وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد، ويكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
لا يمكن من الناحية الشرعية والعملية استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد بالشراء سواء أكان من طرف واحد أم من طرفين
ثالثاً – المواعدة : وهي التي تصدر من الطرفين، وتجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعد، كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لاتجوز؛ لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان لما ليس عنده»(1).
ووفقاً لتعريف الإيجاب الممتد الذي اخترناه في البحث وهو «الإيجاب الجازم الصادر من الموجب والممتد لما بعد مجلس العقد والمتعلق بمحل معين (عين أو منفعة) يملكه الموجب أو له حق التصرف فيه، والموجه إلى شخص محدد أو إلى مجموعة أشخاص بحيث ينعقد العقد على المحل بمجرد قبول من وجه له الإيجاب»، يتبين لنا أن استخدام الإيجاب الممتد غير ممكن من الناحية الشرعية وغير مجد من الناحية العملية، وذلك للآتي:
– فمن الناحية الشرعية؛ يشترط أن يكون البنك مالكاً للسلعة قبل أن يصدر الإيجاب للعميل، إذ لا يجوز للبنك أن يصدر إيجاباً على سلعة لا يملكها حتى لا يقع في النهي عن بيع ما لا يملك.
– أما من الناحية العملية؛ فإن البنك إذا اشترى السلعة أولاً ثم أصدر الإيجاب الممتد فإنه بذلك يكون عرضة للمخاطر السعرية في حالة عدم قبول العميل الإيجاب الموجه له بالبيع أو الإيجار.
وهذا التخريج ينطبق على كل الحالات التي يكون البنك غير مالك للسلعة وإنما يشتريها بناء على طلب العميل سواء أكانت مرابحة شخصية أم تجارية أم اعتمادات مستندية بالمرابحة.
7/2 – استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد بالشراء في الصرف:
تظهر الحاجة إلى الحماية من تقلبات أسعار الصرف بالنسبة للمستوردين الذين يقومون بفتح اعتمادات مستندية بالعملة الأجنبية وذلك لاستيراد بضائع معينة، وكذلك لمديري المحافظ التي تحتوي أصولاً بعملات أجنبية. وتعتبر التغيرات في سعر صرف العملات من أكثر أنواع المخاطر التي تتعرض لها الشركات والمؤسسات، وذلك من حيث إن الشركة التي يكون عليها التزام بعملة أجنبية واجب السداد في أجَل لاحق تكون في حاجة إلى تثبيت سعر تلك العملة في يوم السداد، بحيث تكون قادرة على معرفة كم المبلغ بالعملة المحلية الذي تسدده للوفاء بالعملة الأجنبية، كما يتعرض أصحاب المصانع – على سبيل المثال – لمخاطر تقلبات تكلفة المواد الأولية التي يستخدمونها في الإنتاج، لهذا يستخدم الوعد بديلاً لعمليات الشراء المستقبلية التي تدخل فيها المصانع وذلك على النحو المستخدم في الوغد بالصرف، حيث يعد البنك العميل الوعد ببيع السلعة التي يرغب فيها وفق سعر محدد يتفق عليه الطرفان، وفي الأجل المحدد يكون العميل الموعود بالخيار إن شاء طالب البنك بالتنفيذ وإن شاء لم يطالبه وذلك طبقاً لسعر السلعة يوم التنفيذ.
الخيار الممتد لا يصلح من الناحية العملية أن يكون بديلاً عن الوعد في الصرف سواء لأغراض التحوط أو غيره
والسؤال هو: هل يمكن استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد بالشراء سواء أكان من طرف واحد أم من طرفين؟ والإجابة المباشرة على ذلك أنه غير ممكن من الناحية الشرعية والعملية. فالمتبع من الناحية العملية أن البنك عندما يعد العميل بالصرف في أجل لاحق يطلب من العميل تسديد رسم على الوعد بالصرف إذا كان الوعد من طرف واحد (العميل)، وهو رسم غير مسترد، بحيث إذا لم يرغب العميل في التنفيذ يكون الرسم المسدد عوضاً عما يتعرض له من مخاطر أو أضرار، وهو اتجاه أفتت به بعض الهيئات الشرعية(2).
أما إن كان التحوط يجري عن طريق تبادل الوعود بين البنك والعميل؛ فوفقاً لهذه الصيغة تتم عملية وعود ملزمة متبادلة بين البنك والعميل، بحيث يعد البنك العميل وعداً مستقلاً بأن يبيع عليه اليورو (عملة1) بسعر 1يورو مقابل 6 ريالات، في حال كون سعر اليورو في السوق في تاريخ التنفيذ أكثر من 6 ريالات، وفي المقابل يعد العميل البنك بأن يبيع عليه الريال السعودي (عملة2) مقابل اليورو بسعر 1يورو يساوي 6 ريالات في حال كان سعر اليورو في تاريخ التنفيذ أقل من 6 ريالات، ويكون لكل من البنك والعميل الخيار في تاريخ التنفيذ (الاستحقاق) مطالبة الطرف الآخر بتنفيذ وعده أو إعفائه منه.
وقد تم إجازة هذه الصيغة باعتبار أنها من قبيل الوعدين المتقابلين اللذين لا يقعان على نفس المحل، ومن ثم فهي ليست من قبيل المواعدة المنهي عنها في الصرف(3).
فهل يصلح الإيجاب الممتد في هاتين الصيغتين بديلاً عن الوعد بالصرف المستخدم عادة في منتجات التحوط؟
لا يظهر أن هناك مانعاً من الناحية الشرعية أن يصدر البنك إيجاباً بالبيع لعملة معينة وبسعر معين في حال كان المصرف يملك تلك العملة التي يصدر الإيجاب لها، ولكن من الناحية العملية تقف في طريق تنفيذها عدة عقبات منها:
(أ) في حال الوعد بالصرف من طرف واحد – الذي عادة يكون هو البنك – يطلب البنك من العميل رسماً غير مسترد لمقابلة مخاطر عدم تنفيذ الوعد أو مقابل التزام البنك بالبيع على العميل. وفي حال الإيجاب الممتد إذا اشترط البنك على العميل تسديد رسم على الإيجاب فإن ذلك الرسم يكون من قبيل العربون، والعربون يدفع عند العقد المكتمل فيه الإيجاب والقبول، ويكون للمشتري خيار الفسخ خلال مدة محددة على أنه إن أمضى العقد يتم احتساب العربون جزءاً من الثمن، وإن لم يمض العقد فللبائع حق عدم إعادته له. وهذه الصورة غير جائزة؛ لأن عقد الصرف لايجوز فيه الخيار، ويجب أن يقع باتاً(4).
وتأسيساً على ما تقدم فإن الخيار الممتد لا يصلح من الناحية العملية أن يكون بديلاً عن الوعد في الصرف سواء لأغراض التحوط أو غيره.
(ب) وهل يصلح الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد من طرفين؟ بمعنى أن يصدر البنك إيجاباً باتاً يبيع فيه على العميل اليورو (عملة1) بسعر 1يورو مقابل 5 ريالات، في حال كون سعر اليورو في السوق في تاريخ التنفيذ أكثر من 5 ريالات، وفي المقابل يصدر العميل للبنك إيجاباً بأن يبيع على البنك الريال السعودي (عملة2) مقابل اليورو بسعر 1يورو يساوي 5 ريالات في حال كان سعر اليورو في تاريخ التنفيذ أقل من 5 ريالات.
هذه الصورة أرى أنها جائزة شرعاً وممكنة من الناحية العملية في حال أن كلا الطرفين يملك العملة التي يصدر إيجاباً ببيعها، ذلك أن الإيجاب من طرف واحد ليس بيعاً وإنما هو التزام بالبيع لا يكتمل العقد فيه إلا بالقبول من الطرف القابل، وإذا جاز صدور الإيجاب الممتد من طرف واحد فإنه يجوز أن يصدر من طرفين مادام الإيجابان لا يقعان على محل واحد، ومادام كلا الطرفين المصدرين للإيجاب مالك للعين محل الإيجاب.
استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد بالشراء سواء في المرابحة أو في الاعتمادات المستندية بالمرابحة أو في عقد الإجارة غير جائز شرعاً
7/3 – استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد في المشاركة المتناقصة:
المشاركة المتناقصة عقد يعطي البنك فيها الحق للشريك في الحلول محله في الملكية، دفعة واحدة أو على دفعات، حسبما تقتضيه الشروط المتفق عليها، وطبيعة العملية، على أساس إجراء ترتيب منتظم، وذلك من خلال تجنيب جزء من الدخل المتحصل كقسط لسداد مبلغ حصة البنك في المشاركة، وعند اكتمال سداد حصة البنك تؤول العين لصالح العميل.
وفي العادة يعد البنك العميل ببيعه حصته في المشاركة أو جزءاً منها بثمن متفق عليه إذا رغب العميل في ذلك.
والمشاركة المتناقصة ربما تكون من أكثر أنواع صيغ التمويل الإسلامي التي يمكن أن يستخدم فيها الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد، ذلك أن البنك في المشاركة المتناقصة مالك لحصته وله أن يصدر إيجاباً ممتداً لصالح العميل محدداً بمدة أو مفتوحاً، بحيث يكون للعميل فيه حق قبول شراء حصة البنك بالثمن المحدد خلال التاريخ المحدد أو متى أراد ذلك.
وميزة الإيجاب الممتد عن الوعد في هذه الحالة أنه يقلل الإجراءات على البنك، فبمجرد قبول العميل للشراء ينعقد العقد بين الطرفين خلافاً للوعد الذي يتطلب من البنك والعميل التوقيع على عقد بيع جديد عند تنفيذ الوعد، حيث إن الوعد ليس عقداً.
7/4 – استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد في الإجارة مع الوعد بالتمليك:
الإجارة مع الوعد بالتمليك – أو المنتهية بالتمليك – هي نوع إجارة يقترن بها الوعد بتمليك العين المؤجرة للمستأجر في نهاية مدة الإجارة أو أثنائها، ويتم التمليك إما بالهبة على شرط سداد الأقساط الإيجارية أو بالوعد بالبيع بثمن رمزي أو حقيقي(5).
استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد في المشاركة المتناقصة وفي إنهاء عقد الإجارة جائز من الناحية الشرعية
في الإجارة مع الوعد بالتمليك يقوم البنك في العادة بحساب تكلفة شراء الأصل والأرباح التي يطلبها خلال مرحلة التمويل، ويعد البنك العميل بتمليكه العين المؤجرة إذا استوفى العميل شروطاً معينة.
ويمكن في هذه الصيغة أن يضع البنك جدولاً يحدد فيه الثمن الذي يبيع به العين على العميل، بحيث يكون ذلك مغطياً للتكلفة زائداً الأرباح. ويمكن أن يصدر البنك إيجاباً مفتوحاً وممتداً يلتزم فيه البنك ببيع السلعة على العميل وفق الثمن المحدد إذا استوفى العميل شروط الإجارة.
وكما هو الحال في المشاركة المتناقصة، فإن استخدام الإيجاب الممتد أفضل – في نظري – من استخدام الوعد بالبيع، وذلك من حيث اختصار الإجراءات، إذ لا يتطلب نقل الملكية في هذه الحالة توقيع عقد جديد، فضلاً أنه لا توجد مخاطرة على البنك أو العميل.
الخلاصة
1- الإيجاب الممتد هو: الإيجاب الجازم الصادر من الموجب والممتد لما بعد مجلس العقد والمتعلق بمحل معين (عين أو منفعة) يملكه الموجب أو له حق التصرف فيه، والموجه إلى شخص محدد أو إلى مجموعة أشخاص، بحيث ينعقد العقد على المحل بمجرد قبول من وجه له الإيجاب.
2- يشترط في الإيجاب الممتد الشروط التالية:
(أ) أن يكون الإيجاب جازماً: أي غير معلق ولا مضاف إلى المستقبل.
(ب) أن يتعلق الإيجاب بمحل معين.
(ج) تحديد من يوجه له الإيجاب، سواء أكان شخصاً بعينه أم فئة من الناس أو لكل الناس.
(د) يشترط أن يكون للإيجاب الممتد أجل، طويلاً كان أم قصيراً.
3- يحق للموجب الرجوع عن إيجابه قبل قبول الطرف القابل.
4- يختلف الإيجاب الممتد عن العقد المعلق والعقد المضاف إلى المستقبل في أن العقد المعلق عقد مكتمل التقى فيه الإيجاب بالقبول ولكنه معلق على شرط، والأمر نفسه بالنسبه للعقد المضاف، بينما الإيجاب الممتد هو شطر العقد، ولا يكتمل العقد إلا بقبول الطرف القابل للإيجاب.
5- استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد بالشراء سواء في المرابحة أو في الاعتمادات المستندية بالمرابحة أو في عقد الإجارة وسائر الحالات التي لا يكون البنك فيها مالكاً للسلعة غير جائز من الناحية الشرعية، لأن من شروط الإيجاب الممتد أن يصدر على سلعة مملوكة للموجب، كما أنه غير مُجْدٍ من الناحية العملية لأنه لا يحمي البنك من المخاطر.
6- استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد بالصرف جائز من الناحية الشرعية، سواء صدر الإيجاب من طرف واحد أو من طرفين، بشرط أن يكون من صدر منه الإيجاب مالكاً للعملة محل الإيجاب.
7- استخدام الإيجاب الممتد بديلاً عن الوعد في المشاركة المتناقصة وفي إنهاء عقد الإجارة جائز من الناحية الشرعية ومُجْد من الناحية العملية من حيث تقليل الإجراءات في كلتا الحالتين.
المراجع
(1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرار رقم 40 (2/5)، بشأن الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء.
(2) قرار الهيئة الشرعية بالبنك الأهلي التجاري 150/1، بتاريخ 1432هـ.
(3) المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، المعيار 49، وانظر قرارات الهيئة الشرعية للبنك الأهلي التجاري، قرار رقم 130/3.
(4) انظر: المعيار الشرعي رقم 53.
(5) ينظر: المعيار الشرعي رقم 9، الإجارة والإجارة المنتهية بالتمليك
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك
دراسة قانونية حول الإيجاب الممتد للعقد ومدى إمكانية جعله بديلاً عن الوعد في المعاملات المصرفية
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك