أثر الفقه الإسلامي في التأسيس للتواصل الإنساني
الدكتور سعد الدين صالح دداش، قسم الدراسات الإسلامية، كلية الشريعة، جامعة قطر.
مقدمة
أرسى الإسلام قواعد وأصول المعاملات التي تنظم العلاقات الإنسانية، سواء فيما بين المسلمين أنفسهم، أو فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم والشعوب، وأناط هذه العلاقة بقدسية النصوص الشرعية ومقاصدها الجلية،كما تضمنت كتب الفقهاء على اختلاف مذاهبهم مسائل تناولت هذه العلاقة؛ فمن استطلع أبواب الفقه الإسلامي يمكنه اكتشاف تلك المعالم الهادية التي تؤسس وتؤصل للتواصل الإنساني، فمن خلال حصر واستقراء النصوص والآثار المتعلقة بتعامل المسلمين مع غيرهم وموقف الفقهاء منها، نقف على نماذج عالية ووقائع شاهدة، سنحاول من خلالها اكتشاف المنهج الإسلامي القويم في مدّ جسور التواصل الإنساني مع الآخر، وهذا وقد اقتضت طبيعة الموضوع تقسيمه إلى الخطة الآتية:
الفصل الأول: التواصل الإنساني مفهومه أنواعه وضوابطه
المبحث الأول: مفهوم التواصل وأركانه وبيان أهميته
المطلب الأول: مفهوم التواصل
أولا: التواصل في اللغة: وردت كلمة التواصل في اللغة بعدة معاني[1]منها: الاقتران والاتصال والصلة والترابط والالتئام والجمع والإبلاغ والانتهاء والإعلام،[2]والتواصل ضد التصارم، وتوصّل إليه أي تلطّف في الوصول إليه[3]، أما في اللغة الأجنبية فكلمةcommunication تعني إقامة علاقة وتراسل وترابط وإرسال وتبادل وإخبار وإعلام[4]. وهذا يعني أن هناك تشابها في الدلالة والمعنى بين مفهوم التواصل في العربية والتواصل باللغة الانجليزية.
ثانيا: التواصل اصطلاحا هو”عملية نقل الأفكار والتجارب وتبادل المعارف والمشاعر بين الذوات والأفراد والجماعات”.[5]
ونعني بالتواصل في دراستنا ذلك التفاعل بين المسلم وغيره عبراستعمال حواس في سياقات اجتماعية معينة؛يهدف إلى الإبلاغ والتأثير في الغير عن وعي أو غير وعي في إيصال رسالة الحق وتبليغه إياها.
والحقيقة أن التواصل هو جوهر العلاقات الإنسانية ومحقق وجودها وتطورها، يتضمن كل رموز الذهن مع وسائل تبليغها عبر المجال وتعزيزها في الزمان، ويتضمن أيضا تعابير الوجه وهيئات الجسم والحركات ونبرة الصوت والكلمات والكتابات والمطبوعات والبرق “التلغراف” والهاتف “التلفون” ويشمل كافة الاختراعات في هذا المجال عبر المكان والزمان.
المطلب الثاني: أركان التواصل وبيان أهميته
الفرع الأول: أركان التواصل، وهي ثلاثة أركان:
1 –الركن الأول: التعارف، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)]الحجرات: 13[
فمن كمال أخلاق المؤمنين الإقبال على الآخرين – من المسلمين وغيرهم – بالتعرّف عليهم وسؤالهم عن أحوالهم ومساعدتهم في حل مشاكلهم، لأن هذا مما يؤلف القلوب، ويهيأ النفوس للإقبال على الحق واعتناقه.
فالتعارف أساس التواصل وهو أول خطوة في مراحل الدعوة،لا يمكن الاستغناءعنهأبدًا؛ وكلّما كان التعارف قويا مستجمعا لشروطه كان التواصل قويا أيضا وذلك بأن يشعر الطرف الآخر بوجوده واهتمامه، فيتفقده إذا غاب، ويسأله عن أحواله إذا حضر، ويعوده إذا مرض، فهذه الخصال تسعد على تآلف القلوب، وتجعل الآخر مقبلا مستجيبا، وحتى يكون التعارف جيدا وعمليا ومثمرا لابد أن يستجمع أساسياته وهي متمثلة في العناصر الآتية:[6]
أ – معرفة البيانات العامة: ( اسمه وبلده ومحل سكناه).
ب – معرفة البيانات الأساسية مثل: (طباعه وأخلاقه مميزاته وطاقاته وقدراته ومواهبه عيوبه وسلبياته).
ج- معرفة ظروفه: أحواله العلمية والثقافية والعملية دراسته عمله ثقافته اهتماماته وتطلعاته أحواله المادية أحواله الاجتماعية همومه ومشكلاته)
د – التزامه: ( عباداته سلوكياته فهمه وثقافته الدينية صلته بالدعوة والدعاة )
2 –الركن الثاني: التعايش فالمسلم لايمكن أن يتواصل مع أفرادالمجتمع الذي يعيش فيهدون أن يختلط بهم ويأخذ ويعطيي، حتى مع غير المسلمين، فقد كان المسلمون يسافرون إلى البلاد البعيدة للتجارة وغيرها ويتعايشون مع أهلها بأخلاق الإسلام، وكان ذلك سببًا في دخول كثير من هذه الشعوب في الإسلام، فالعلاقة بغير المسلمين رسمها القرآنا لكريم في قاعدة عظيمة؛ قال سبحانه:}لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{]الممتحنة: 8[ وقال بعدها سبحانه وتعالى: }إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون{]الممتحنة: 9[
وهكذا فمدار العلاقة من مودّة ومنصلة ليس مبناه اتحاد العقيدة وإنماحسن العلاقة وعدم الاعتداء.
3-الركن الثالث: التعاون، وهو مطلوب فيما لايتعارض مع الشرع الحنيف،قدوتنا في ذلك رسولنا عندما تحدث عن “حلف الفضول” وكان ذلك في الجاهلية، حيث اجتمع رؤساء قريش وزعماؤها وتعاهدوا فيما بينهم على مساعدة الضعيف، وإغاثةالملهوف، ومساعدةالمحتاج، وغيرها من مكارم الأخلاق وحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في الإسلام بعد ذلك: “شهدت حلفا لمطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن ليحمر النعم،وأني أنكثه ).[7]
وهذا الموقف يبيّن لنا أنه لا حرج على المسلم من المشاركة في فعل الخير مع غير المسلم، إذا كان هذا العمل فيه نصرة المستضعفين ورفع الظلم عن المظلومين أو إغاثة المنكوبين، فالإسلام يشجع على المشاركة في الأعمال الإصلاحية، فلو حدث ووجد مسلم جمعية غير إسلامية تتخصص في أعمال الخير، غير مبطنة بتنصير، أو معادة للإسلام أو نبيه – صلى الله عليه وسلم -، فلا بأس من المشاركة فيه من قبيل التعاون على البر والتقوى[8].
ثانيا: – أهمية التواصل
1- طبيعة الإنسان الاستخلافية: حيث أن الإنسان قد خلق لعبادة الله وعمارة الأرض، فلا بد له من الاستعانة بالحواس التي تمكنه من التواصل مع الرسل وفهم خطاباتهم وتدبر الوحي وإعمار الأرض وفق شرع الله سبحانه وتعالى حتى يكون خليفة لله مصداقا ً لقوله تعالى:}وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً{]البقرة: 30[
2- حاجات الإنسان الاجتماعية :الإنسان يلجأ إلى التواصل مع الآخرين لإثبات الذات وتحقيق رغباته واحتياجاته مع احترام الآخرين وتقديرهم .
المبحث الثاني: أنواع التواصل ووظيفته
المطلب الأول: أنواع التواصل[9]
يكون التواصل ذاتيا شخصيا فرديا، وجماعيا وكل منهما يكون لفظيا وكتابيا، وقد يكون تواصلا مؤسساتيا، وقد ينبني على الموافقة أو على المعارضة والاختلاف، ويفترض التواصل أيضا – باعتباره نقلا وإعلاما- مرسلا ورسالة ومستقبلا وشفرة، يتفق عليها كل من المتكلم والمستقبل (المستمع)، وسياقا مرجعيا ومقصدية الرسالة.
وبعضهم قسم التواصل من حيث أسلوب التواصل إلى ثلاثة أقسام:[10]
القسم الأول:تواصل لفظي وهو تواصل بين فردٍ وآخر أوبين فردٍ ومجموعة من الأفراد عن طريق الألفاظ والكلمات بحسب المناسبات والمواقف.
القسم الثاني: تواصل كتابي و هو أيضًا بين فردٍ وآخر أو بين فردٍ ومجموعة من الأفراد ولكنه عن طريق الكتابة.
القسم الثالث: تواصل إليكتروني وهو مثلا لقسمين السابقين إلا أنه يختلف في وسيلة التواصل ألا وهي الوسائل الإلكترونية.
المطلب الثاني: وظيفة التواصل[11]
يعد التواصل هو جوهر العلاقات الإنسانية ومحقق تطورها، وله وظيفتان هما:
أ- وظيفة معرفية تبادلية Echange: تتمثل في نقل الرموز الذهنية وتبليغها Transfertزمكانيا بوسائل لغوية وغير لغوية.
ب-وظيفة تأثيرية Impact وجدانية: تقوم على تفعيل العلاقات الإنسانية، على مستوى اللفظي وغير اللفظي.
وهناك من يحدد وظائف التواصل من حيث أثره، وهو من هذه الجهة له ثلاث وظائف بارزة يمكن إجمالها في:التبادل =Echange- التبليغ =Transfert – التأثير =Impact
المبحث الثالث: تطبيقات على طرق ووسائل التواصل
هذه بعض النماذج تبيّن طرق التواصل وتحدد أركانها كالآتي:
من؟ ( المرسل) | يقول ماذا؟(الرسالة) | بأية وسيلة؟( وسيط) | لمن؟( المتلقي) | لأي تأثير( أثر) |
تطبيق1 | ||||
قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلا نَعْبُدَ إلا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.) ]آل عمران: 64[ | ||||
الله | ألا نعبد إلا الله | التعالي والترفع عن حظوظ النفس | أهل الكتاب | التوافق المفضي إلى التعاون – كلمة سواء – في الإسلام |
تطبيق2 | ||||
قالتعالى: ( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ]الأنعام: 71[ | ||||
الشياطين – وكل متسلط من العباد | أن إئتنا( التعاون على الإثم والعدوان ) | التسلط وتغيير سلوك المرسل إليه سلبا في استهلاكه ومنظوره سلطوي في استعمال وسائل التأثير الإشهاري | الضال ، الحيران | اتباع الهوى والضلال |
نلاحظ من خلال التطبيقين إمكان تطبيق هذه الحدود على ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تدعو للحوار والتواصل مع الآخر،ومن تأمل يجد تلك الحدود واضحة حاضرة المعالم، وعليه فمن ضروريات التواصل البعد عن العوائق كالإقصاء وغيره.
المبحث الرابع: عوائق التواصل[12]
أ- العوائق النفسية: وهي مشاعر وأحاسيس سلبية كاملة في أحد طرفي التواصل :
عوائق الإرسال: التعالي والإعجاب بالنفس وسوء الظن بالآخرين.
عوائق الاستجابة: كالكِبْر والجحود والإحساس بدونية الآخرين “المخاطَب”.
ب- العوائق السلوكية: وهي خصال وأفعال منفرة من أحد الطرفين أو هما معا ً
عوائق التبليغ: ومنها الغضب والتعصب والعنف والشدة والغلظة…
عوائق الاستجابة : كالإعراض عن المخاطِب والغفلة عنه والاستهزاء به .
أمثلة على عوائق التبليغ:
1 – لدي صديق مسيحي يقسم لي مرات أنه فعل كذا وكذا، أو أنه اشترى كذا وكذا، ويقول والله فعلت وذهبت… إلخ، فهل يجوز الرضا بهذا القسم والأخذ به، علما بأنني لا أعرف إن كان يقصد الحلف بالله سبحانه وتعالى؟ أم المسيح.
الجواب الخطأ: لا يجوز ذلك، لأن روايتهم وخبرهم مطعون فيه لضعف الوازع الديني لديهم!
والصحيح أنه لا حرج في تصديق ذلك الكافر إذا أخبر بأنه فعل كذا أو اشترى ونحو هذا من المعاملات الدنيوية، والذي لا يقبل قوله فيه هو الديانات كاتجاه القبلة ورؤية الهلال ونحوها, جاء في الدر المختار من كتب الحنفية: وَأَصْلُهُ أَنَّ خَبَرَ الْكَافِرِ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا فِي الدِّيَانَاتِ… اهـ.
2 -يجوز التعامل معهم بالبيع والشراء، والقرض، والرهن وغيرها من وجوه المعاملات الشرعية، وهكذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير.
وقد استعار أدرعا من صفوان بن أمية وهو لا يزال على شركة، وقد أجر كعب بن عجرة نفسه عند يهودي على تمر فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأطعمه.
المبحث الخامس: قيم التواصل
أ- قيم تحكم نية المتواصل : بان يقصد المتواصل تحقيق رضى الله ونيل الأجر والثواب منه سبحانه وتعالى ومن هذه القيم الإخلاص في التواصل لله عز وجل وحسن الظن بالناس.
ب-قيم تحكم مقصد المتواصل : فيكون الهدف والمقصد الأسمى من التواصل هو تحقيق التعارف بين الناس وإشاعة قيم الخير التي دعى إليها الإسلام.
ج- قيم تحكم فعل المتواصل: كالصدق والأمانة والحياء والتواضع واحترام رأي الآخر والإذعان للحق والرفق بالمُخاطب.
المبحث السادس: ضوابط التواصل
أ- ضوابط التبليغ والإرسال: من هذه الضوابط حُسن البيان ومخاطبته بالحسنى واستعمال الكلمة الطيبة والابتسامة
ب- ضوابط التلقي والاستجابة: ومنها حُسن الإنصات وعدم مقاطعته؛ التثبت وطلب الفهم عند الاستشكال وحُسن الإقبال على المُخاطب.
قال تعالى: ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفـْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )]الأنفال: 63[
فمن معاني التواصل التآلف، وهي صفة دليل إيمان؛ قال عليه الصلاة والسلام:(المؤمنيألف ويؤلف،ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف “رواه أحمد، والتواصل بحاجة لشيء من الصبر قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )[13].
المبحث السابع: موقف العلماء من التواصل
يمكننا تصنيف مواقف العلماء من التواصل على النحو الآتي:
1 – الصنف الأول: دعاة الاغتراب هو مصطلح يصف حالة الفرد الذي لا يستطيع أن يتواصل مع مجتمعه أو يقيم علاقة صحيحة وصحية معه، بحيث لا ينسجم مع من حوله.
2 – الصنف الثاني أصحاب الانفتاح: أو الاستلاب الثقافي والشعور بالدونية أو الانصهار الحضاري مع الآخر، فيتم استيعاب كل ما عنده ونقله بحذافيره، فالتواصل عند هذا الفريق لا يتم بالجزئية وإنما بكله، فلا يمكن الاستفادة من الجديد إلا بنسف القديم بكل مقوماته وتراثه وإحلال الجديد محله، وهذا الموقف يعبر عن الاستسلام والخضوع أو الغياب الحضاري والاستلاب الثقافي، والتجربة الأتاتوركية هي خير ما يمثل هذا الاتجاه. ( وقد عمت البلوى به وصوره أكثر من أن تحصى ) فمن الصور المعبرة: اتخاذ تربية كلاب الزينة، عند النساء – وعند المثقفين رجل يسافر إلى دولة غربية – إيطاليا مثلا – ليشارك في مؤتمر تطوير وتوأمة البرامج الاكاديمية بين الجنوب والشمال – ممثلا لوزارة التعليم العالي في بلده – وعلى مائدة العشاء في الفندق وأمام الضيوف على صخب الموسيقى – يطلب الخمر ويستزيد منها صاحبنا حتى ثمالة فلا يستطيع التركيز ولا التحكم في نفسه فيقوم يرقص أمام الملأ ويتكلم بطريقة غير حضارية وغير لائقة مع المضيفات ونادلات الفندق!!
وقد طال هذا الموقف بمفهومه الخاطئ للتطور والتقدم كل الثوابت والقيم؛ عقائد وشرائع وأخلاق ولغة، ويرى أصحابه ضرورة تطوير الدين نفسه كي يلائم كل جديد من أفكار ومذاهب ونظم ولسان حالهم أنه لا شيء ثابت على الإطلاق، ويخلطون بين الحقائق والكليات الثابتة وبين الصور والجزئيات المتغيرة، فالحضارة الإسلامية ثابتة في أصولها وقيمها متطورة في معارفها وأساليبها وأدواتها.
3 – أصحاب الجمود: الذين اتخذوا كل جديد عدوا لهم، فهؤلاء جهلوا أحوال الناس ومقتضيات العصر، كما جهلوا حقيقة الإسلام بأنه دين متحركٌ سيالٌ لا يعرف الجمود في مكانٍ ولازمان، لكن المشكلة في الأساس تكمن في المسلمين وليس في الإسلام؛ فقد حرص الإسلام على أن يتعامل الناس فيما بينهم بالكلمة الطيبة الحسنة، التي تعمل على تقوية التواصل، ودوام المحبة، وتآلف القلوب والأرواح.[14]
الفصل الثاني: مظاهر التواصل الإنساني في الإسلام
المبحث الأول: مظاهر التواصل وسماحة الإسلام في المجال العقدي
المطلب الأول: الاعتراف بحق حرية الاعتقاد
كثر في زماننا هذا الكلام عن حرية المعتقد وتعالت الأصوات المدافعة على حقوق الإنسان والداعية إلى مبدأ حرية الأديان، وقد ادعى بعضهم أن الإسلام امتهن هذا الحق وأنه أجبر الناس على اعتناق المعتقد بحد السيف،وقد رأيت أن أتعرض في هذا المقام إلى موقفين عمليين يكشفان حقيقة هذه الدعوى المفتراة على الإسلام وأهله، لنرى أيضا من خلاله مدى تطبيق الإسلام لمبدأ حق الإنسان في حرية المعتقد، والتسامح الديني.
لقد تضمن تراثنا كنوزاً تربوية لو تم تطويرها وتطبيقها وتوظيفها بشكل أوسع..
الموقف الأول: لما انتصر المجوس على النصارى الكاثوليك وذلك في مطلع القرن السابع الميلادي في بلاد الشام – فلسطين وسوريا – فقد اغتبط لذلك وفرح الوثنيون من العرب وهم في جاهليتهم، واعلنوا ذلك ليغيضوا المسلمين وذلك لما علموا من إشادة الإسلام بالمسح عليه السلام وأمه الطاهرة العذراء، فأحزن ذلك – أي أفراح العرب الوثنيون – قلوب المسلمين واغتموا له، فانزل الله تعالى آيات من القرآن الكريم تخفف عليهم أحزانهم وتبشرهم – جزما – بقرب إعادة الشوط الثاني ونشوب المعركة الفاصلة التي ينتصر فيها النصارى على المجوس.
وقد أدخل ذلك على نفوس المسلمين الفرح والسرور، وأعلنوا تحديهم للوثنيين العرب ثقة بما بشر الله به، وفعلا لم تمر إلا بضع سنين حتى نشبت المعركة من جديد، وانتصر فيها النصارى على المجوس، وكان ذلك متزامنا مع انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى، فاجتمع للمسلمين فرحتان الأولى بصدق ما نبأ به الله في القرآن من انتصار للنصارى، والثانية فرحهم بنصر الله في بدر.[15]
قال تعالى: (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ،فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)]الروم: 1 – 3 [.
كما نجد القرآن أيضا يدعو ويحث المسلمين على البر والإحسان إلى كافة الناس بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، ومهما اختلفت أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، قال تعالى: (لَا يَنْيَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )]الممتحنة: 60 [.
الموقف الثاني: ضرب الإسلام أروع مثال لتطبيق البرب الأديان بعد انتصار المسلمين على البيزنطيين ودخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدسفأعطىالكاثوليكأماناًلأنفسهم،ولأموالهم،وكنائسهم،وصلبانهموأنلا تسكن كنائسهم، و لا تهدم ولاينقص منها ولا من حيزها، وأن لا يسكن معهم أحد من اليهود وذلك في ميثاق تاريخي مكتوب، وموقع من عمر بن الخطاب إلى بطرير كالكنيسة صفرن يوسف قضى عمر بهذا على أية مخاوف لدى المسيحيين من الفاتحين المسلمين، وبقي هذا الوفاء إلى يومنا هذا.[16]
هذان الموقفان التاريخي أنهما خير شاهد على ما تمتع به الإسلام من حسن الرعاية والحماية والتواصل مع غيره من أرباب الأديان وعلى رأسهم النصارى، وهو ليس مجرد كلام نظري بل تطبيق عملي.
المطلب الثاني: التواصل الثقافي الدعوي والقضاء على الأمية
عني الإسلام منذ بداية ظهوره وقبل تكوين الدولة بمعالجة مشكلة الأمية واعتبرها على رأس الأولويات حتى في وقت الحرب، فقد فرض صلى الله عليه وسلم العلم على كل مسلم ومسلمة وقال: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ).[17]
والشاهد هنا ما جاء في السنن والسير أنه صلى الله عليه وسلم في عقب غزوة بدر التي كانت له مع المشركين جعل فدية الاسرى المتعلمين منهم تعليم عشرة من المسلمين جزاء فكاكه من الأسر معتبرا القراءة والكتابة مفتاح العلم[18]، وبهذا ضرب صلى الله عليه وسلم مثلا لم يسبقه إليه أحد من العالمين، خاصة إذا علمنا حاجة المسلمين الشديدة في ذلك الوقت للمال قبل غيره، وهذا رفع الإسلام العلم حتى جعل العالم والمتعلم شريكان في الخير والاجر سواء.
وكان لهذا الدعوة لطلب العلم الأثر البارز في حياة المسلمين فبعث فيهم نشاطا وتنافسا لم يسبقوا إليه، حتى من الخول والعبيد والإماء، حتى من غير المسلمين، يقول جوستافلوبون “Gustave Le bon”فيكتابه)حضارةالعرب(: “شَغَفُ المسلمين العربب العلم منبعث عن الدين نفسه وقال في ذلك : إن العلم الذي استخفت به أديان أخرى قد رفع المسلمون من شأنه عالياً، واليه مترجع حقيقة هذه الملاحظة الصائبة القائمة باسم الدين”: إنما الناس هم الذين يتعلمون والذين يعلمون وأما من عادا هم فمضر لا خيرفيه.
وقال أيضاً: “كان المسلمون إذا ما استولوا على مدينة وجهوا عن ايتهم في الدرجة الأولى إلى تأسيس مسجد أوإقامة مدرسة وما أظن من سبقهم لهذا بل و أكد في كتابه بقوله: لقد بلغ شغف المسلمين العرب بالتعليم مبلغاً عظيماً حتى أن خلفاء بغداد كانوا يستعملون كل الوسائل لجذب العلماء إلى قصورهم”.
المبحث الثاني: مظاهر التواصل في مجال التشريع والقوانين
شهد العالم المعاصر حروبا طاحنة أتت على الأخضر واليابس تفنن الإنسان في توظيف واستعمال عبقريته في أنواع من الشرور؛ القتل والسلب والهدم، مما جعل عقلاء من البشر يفكرون في سن قانون دولي يحمي البشرية من ويلات الحروب ويضع حدا لاستعمال القوة المفرطة ضد البشرية كاستغلال أو استعمار الأراضي بغير وجه حق، أو العبث بسيادة الدول واستقلالها على وجه يتنافى ومقاصد الأمم المتحدة.
وكان من القواعد الآمرة والمعتبرة حظر استخدام القوة المسلحة، والشريعة الإسلامية تتفق مع هذا الرأي في منع وتحريم استخدام القوة إلا استثناء لدفع العدوان، ورفع الظلم، ونصرة الحق، والدفاع عن الدعوة الإسلامية وتأمينها من أي اعتداء، مع مراعاة أن الإسلام لم ينشر بحد السيف، وإنما كان القتال لمن تصدى للدعوة الإسلامية واعترض سبيلها ورفض الإسلام أو العهد، فمن لم يعتنق الإسلام وظل على دينه فإن الإسلام يحرم قتله ما دام تعاهد مع المسلمين على السلم واحترم التعاهد، ويمكننا استنباط الكثير من القواعد والضوابط بهذا الخصوص، نذكر فيما يلي بعضا منها:
الاستنتاجات والتوصيات.
ولقد توصلت من خلال هذه الدراسة إلى النتائج والتوصيات الآتية:
أولاً: النتائج: الإسلام دين يحث على التواصل الإنساني، ولا يعمد إلى إلغاء وجود الآخرين، والدولة
الإسلامية دولة إنسانية، تتواصل مع الآخرين، وتهدف إلى الحفاظ على النظام الكوني وتمنع من تخريبه.
ثانيا: التواصل مع الآخر مبدأ متأصل في الإسلام طبقه سلف هذه الأمة، وهو فرعٌ من فروع الجهاد الإسلامي، فإن الجهاد الذي هو شعيرة دينية مهمة يتحقق بوسيلتين: الأولى: الدعوة السلمية والثانية: الدعوة القهرية ولا يُلجأ إلى الوسيلة الثانية إلا إذا مُنع المسلمون من قيامهم بالوسيلة الأولى، ولما كان الجهاد بالمعنى الثاني غير متحقق ولا مقدور عليه في وقتنا الحاضر فإنه يتعين على المسلمين بذل الجهد في التواصل مع الآخر لتبليغه رسالة الإسلام.
ثالثا: يجب الإحسان إلى الرعايا الأجانب في المعاملة ولين الجانب ومباسطتهم وإكرامهم حتى يروا محاسن الإسلام في أخلاقنا وهو نوع من التواصل الذي يرغب فيه الإسلام.
رابعا: الرعايا الأجانب الذين يدخلون الدولة الإسلامية لهم على صنفين :
الأول: مستأمنون وهم الذين يأتون من دولةمحاربة، والثاني: موادعون وهم الذين يأتون من دولة موادعة، ولكل صنفٍ أحكامه التي يعامل بهاحال دخوله إلى الدولة الإسلامية.
خامسا: يجوز شرعا إقامة حوار ونقاش مع غير المسلمين ولو من أفرادالدول المحاربة أو البغاة، أوالمرتدين إذا كان يرتجى من ذلك منفعة، بشرط عدم المهادنة والموالاة والمداهنة على حساب الحق، وبشرط عدم مخالفة أي حكم من أحكام الإسلام بحجة الدعوة إلى الإسلام.
[1]معجم مقاييس اللغة،أحمد بنفارس بنزكرياا لقزويني الرازي،تحقيق عبدالسلام محم دهارون،ج6،ص115،دارالفكر، 1399 هـ، 1979م، لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي، ج11، ص726، ط1، 1414هـ، دار صادر – بيروت،تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري الهروي، أبو منصور، تحقيق محمد بن عوض مرعب، ج12، ص165، ط1، 2001م، دار إحياء التراث العربي- بيروت، تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبدالرزّاق الحسيني، الملقب بالزَّبيدي، ج31، ص86، دار الهداية،مختار الصحاح، زين الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي، تحقيق يوسف الشيخ محمد، ص340، ط1، 1420هـ/ 1999م، المكتبة العصرية – الدار النموذجية، بيروت- صيدا.
[2]التواصل الاجتماعي، ماجد رجب العبد سكر، ص21، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، غزة، ط 2011م.
[3]مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي، ص725، دار مكتبة الهلال بيروت، ط1، 1983م.
Oxford Wordpower, Oxford University press, p:145, p:2004…[4]
[5]السيمياء والتواصل االجتماعي، خلود جبار، مجلة الباحث الإعلامي، ص199، العدد 24-25، 2014م بغداد.
[6] – http://daamtarbya.ahlamontada.com/t4-topic
[7] – أخرجه أحمد، في المسند برقم 1567، وهو في السلسلة الصحيحة.
[8] – http://www.saaid.net/Minute/266.htm
[9] – التواصل الاجتماعي، ماجد رجب العبد سكر، ص18، وما بعدها.
[10] – نفس المرجع ص37
[11]- http://vb.mediu.edu.my/showthread.php?t=69729
[12]- التواصل الاجتماعي، ماجد رجب العبد سكر، ص170 ، وما بعدها.
[13]- أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وأحمد في المسند، قال الألباني في “السلسلة الصحيحة” 2 / 652 :أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما وهو عند الترمذي إلاأنه لم يسم الصحابي “. كذا في ” بلوغ المرام ( 4 / 314 بشرحه.
[14] – التواصل الاجتماعي، ماجد رجب العبد سكر، ص105، 222.
[15]- الدواليبي، محمد – الندوات العلمية حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام- الرياض مطابع العصر بدون ت، ص 91 .
[16]- قال الأستاذ محمد معروف الدواليبي: وهذا مما انفرد به الإسلام على الدوام في تاريخ حروب الاديان المنتصرة.
[17]- أخرجه الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير برقم 3913.
[18]- ومن هنا نفهم نهي عمر رضي الله عنه عن اتخاذ عمال نصارى لما عظمت التهمة أو خاف فتنتهم، وعلى ذلك يحمل ما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية أن خالد بن الوليد كتب إلى عمر رضي الله عنه يقول: إن بالشام كاتِبًا نصرانيًّا لا يقوم خراج الشام إلا به؟ فكتب إليه عمر: لا تستعمله، فكتب خالد إلى عمر: إنه لا غِنى بنا عنه؟ فردَّ عليه عمر: لا تستعمل النصارى في أمور المسلمين، فكتب خالد إلى عمر: إننا إذا لم نستعمله ضاع المال، فكتب عمر إلى خالد: مات النصراني والسلام” والصحيح أن هذه المسألة مما يختلف باختلاف العصور في استعمال أهل الكتاب على مصالح المسلمين.
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك
دراسة قانونية حول الفقه الإسلامي وأثره على حقوق الإنسان والتواصل الإنساني