بحث قانوني عن نظريات الهيكل الاجتماعي في تفسير الظاهرة الإجرامية
Théories de structure sociale
تهدفنظرياتالهيكل الاجتماعي إلىدراسة العلاقة بين الإجراممنجانبوتركيبالمجتمع منجانب آخر.ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى العديد منالاتجاهات منها :نظريات التنازع أو الصراع داخل المجتمع ،نظرياتاللانظام،النظريةالاقتصادية،النظرية البيئية ، وأخيراًالنظريةالعرقية.وسوفنوالي شرح تلك النظريات وتناولها بالنقد من خلال الصفحات التالية.
المطلب الأول :
نـــظـــريـــات الـــصـــراع
Théories du conflit
حاول البعضتفسير الظاهرة الإجراميةفيضوء التنازعأو الصراع داخل المجتمععلى اختلاففيمابينالعلماءفي تحديدالشكل الذي يأخذه هذا التنازع. ويمكننا أن نشير على وجه الخصوص إلى ثلاث نظريات هي على التوالي : نظرية التنازع الثقافي ، ونظرية تنازعالسلطة ، وأخيراً نظرية الثقافات الفرعية.
-أولاً:نظرية التنازع الثقافي :
ركزالعالم الأمريكي سوريستن سيلينSellinThorsten علىضرورة تحليل الجريمةفيضوء التنازعالثقافيConflit culturel الناشئ عن التضارببين قواعد السلوكNormes.فالفرد يجد نفسه – داخل المجتمع الواحد – مشدوداً بين ثقافتين متعارضتين لكل منهما نمط سلوكي مخالف ، الأمر الذي يجعل من فعله ، في بعض الأحيان ، مشكلاً لجريمة في نظر إحدى الثقافتين.
ويرى سيلين أن قواعد السلوكتتحدد من خلال الجماعة التي ينتمي إليها الفرد ،والتي قد يشوب قيمها التنازع والتصارع مع قيم جماعات أخرى تتواجد في محيط الفرد الاجتماعي.
ويأخذ التنازع الثقافي لدى سيلين إحدى صورتين : إما صورةالتنازعالأصلي أو الخارجي ، وذلك حينمايقعالتصادمبين ثقافتينمختلفتين في مجتمعين مختلفين. وقد يأخذ صورة التنازعالثانويأو الداخلي حينمايقعالتصادمفي إطار ثقافة عامة واحدة.
وقد ينشأ النوع الأولمن التنازع بفعل الهجرة حيث ينتقل المهاجر محملاً بثقافة ومقيم تتنافر أحياناً مع قيم ومبادئ المجتمع الذي هاجر إليه. ومثال ذلكحالةالمهاجرالذييدفع إلى ارتكاب القتلدفاعاً عن عرض ابنته، متوقعاً أن ينال هذا الفعل استحسان من يعيشون في المجتمع الذي هاجر إليه ، وذلك وفقاً لتكوينه الثقافيالذي استمده منموطنه الأصلي ،الذيتسودفيه عادةالأخذ بالثأر دفاعاً عن الشرف وحيث يلقى القتللهذا الهدف ترحاباًاجتماعياً يزهو به المرء. ومن أنماط هذا الصراع أيضاً التنازع بين ثقافة الدولة المستعمِرة وثقافة الدولة المستعمَرة. ومنه أيضاً الصراع بين ثقافة دولتين تتلاصق حدودهما الإقليمية ويندمج رعاياهما معاً.
أما التنازع الثانوى – الذييصلحفي رأيهلتفسير الجريمة في الولايات المتحدة، وذلك لأن معدلجرائم المواطنين الأصليين أعلى من نظيره لدى الأجانب في الولايات المتحدة– فقد أشار سيلين إلى أنه ينشأ نتاج تنافر وعدم تجانس الثقافات داخل المجتمعالواحد ، والذي يدفع إليه وجود نوعمن التمييز الاجتماعيDifférentiation socialeبين المجموعات أوالتكتلات السكانية ، التي بمرور الوقت تكون قد شكلتلنفسها مجموعة من القيم الخاصة، التي تتنافر بدورها مع القيم السائدة لدى التكتلات الأخرى في ذات المجتمع. الأمر الذي يولدمزيداً من الصراع الاجتماعي بين تلك الكيانات المستقلة ثقافياً ، ويكون مدعاة لظهور الجريمة في هذا المحيط الاجتماعي.ومن أشكال هذا التنازع الثقافي تضارب قيم الجماعات الأسرية ، والجماعات المدرسية ، وداخل الأندية ، وجماعات العمال. ومثاله تعارض عادة الأخذ بالثأر مع الثقافة العامة في المجتمع المصري رغم أنها تتوافق من الناحية السلوكية مع القيم والعادات السائدة في المجتمعات الصغيرة في مصر العليا.
وقد كشف سيلين عن أن جانب من الأسباب الذي يقف وراء الظاهرة الإجرامية يعود إلى ما أسماه “التفكك الاجتماعيSocial Disorganization” الذي أصاب المجتمع المعاصر يدل على ذلك قلة معدل الجريمة حينما كانت تسود نزعة الريفية والبداوة في غالب المجتمعات. ففي المجتمع الريفي والبدائي كانت تسود روح التعاون والإخاء وتتوحد مصالح وغايات الجماعة ، مما يسهل على الفرد أن يوافق بين سلوكه وبين تقاليد المجتمع الذي يعيش بين جنباته. أما في المجتمعات المتحضرة والمعقدة اجتماعياً وثقافياً فينعدم الأمان وتطغى الماديات وتتضارب الأهواء والمصالح ، الأمر الذي يكشف رويداً رويداً عن قدر من التفكك الاجتماعي والثقافي ، يكون بدوره عاملاً وسبباً من أسباب تكون الظاهرة الإجرامية داخل هذه المجتمعات.
وإذا كانت نظرية سلين قد أصابت جزءً من الحقيقة حينما أرجعت الظاهرة الإجرامية إلى تنازع وتضارب الثقافات ، إلا أنها قد تعرضت للنقد من عدة أوجه :
-فقد عيب علىنظريةسيلين اتخاذها لعامل الصراع الثقافي كسبب وحيد للظاهرة الإجرامية متغافلة عن جملة العوامل الفردية والخارجية الأخرى التي قد تقف وراء هذه الظاهرة.
-فضلاً عن أن هذا التحليللايصلح لتفسير كافة صور الجرائم.فإذا كانت تلك النظريةتصلح لتفسير جرائم العصابات وجرائم الأجانب ، لاشتمالهما علىتعارض واضح بين نوعين من قواعد السلوكناشئ عن اختلافالتكوين الثقافيلكل منهما عن الثقافة العامة للمجتمع ،فإنها لا تقوم بنفس المهمةإزاءالأنماط الإجراميةالأخرى.
ثانياً :نظرية تنازع السلطة :
يركز كلاً من أوستن تاركTurkAustin وريتشارد كينيQuinneyRichard علىالسلطة باعتبارها محور التنازعداخل المجتمع
فلدى تاركأن علم الإجرام ينبغي أن يعنى من ناحية بدراسة الفروق بين مركز السلطة الحاكمةفي الدولة والأفراد المحكومينالخاضعين لتلك السلطةمن ناحية أخرى.ومرد ذلك يعود إلى أنهذان المركزان متميزان في كل المجتمعات والتفاوت بينهما أمرمتقبللدى كافةالمجتمعات، بحسبان أن ذلك هوالسبيل الوحيد للحيلولة دون انهيارالنظام الاجتماعي في الدولة.
وفي رأي تارك أن هيكلة المجتمعات في هذا القالب أوجب وجودنوعين من القواعد: أولهاقواعد السيادة أو السيطرةNorms of domination، وثانيهماقواعد الامتثال أو الإذعانNorms of deference. وقواعد السيادة هي التي تشكل القواعد القانونية بكل صورها التي تهدف إلى تأكيد سلطة الدولة وضبط إيقاع المجتمع وانتظامه من الناحية السلوكية. أما قواعد الإذعان فتتشكل تبعاً للتكوين البيولوجي والاجتماعي والثقافي للفرد. وتبدأ عملية التنازع في نظر تارك حينما يختلفالتقييم الذي يجريهكلفرد تجاه قواعد السلوك المتعددة، ومن ثم تختلفردود أفعال الأفراد.ولا شك أن هذاالتقييميتنوع من فرد إلى آخر بحكم تفاوتالسن، واختلاف الجنسأوالعنصر ، والتفاوت الحضاري…الخ.
أمالدىكيني فإن الدراسة الإجرامية ينبغي أن ترفض فكرةأنالقانون يمثل حلاً توفيقياً بين المصالح المتضاربة، فالقانون لديهيخدم بعض المصالح على حساب المصالح الأخرى. والقانون الجنائي في نظره قد ولدبصفة خاصة لتدعيم سلطة جماعات على حساب جماعات أخرى ، وكذالحماية مصالح جماعات معينة في المجتمع سواء كانت تلك الجماعات ذات صبغة سياسية أم اقتصادية أم دينية…الخ.
ولدى كيني أن هذا الخلل في وظيفة القانون يعود إلى طبيعة النظام الرأسمالي الذي يعلي من قيمة الربح والفائدة. لذا فإنكينييرى أن من بين طرق مكافحة الجريمة تدعيم بناء المجتمعالاشتراكي ، بحيثيتساوى الجميع في الاستفادة من المزايا في المجتمع، وتنعدم الطبقيةالاجتماعية والبيروقراطية. فلا يبقى القانون أداه في يد جماعة تمارس بها سلطتها تجاه جماعة أخرى أو تهدف لحماية مصالحها فقط.
وفي مقام تقديرنا لهذه النظرية ، يجدر بنا الإشارة إلى عدة انتقادا :
-قيل أن أول ما يؤخذ على تلك النظرية – بل ونظريات التنازع عموماً – هوافتقارها إلى البحث التجريبي الذي يثبت صدقالنتائج التي توصلت إليها.
-كما عيب على تلك النظرية جانب التعميم بقولها أن القانون الجنائي ، بما يتضمنه منقواعد تجرم بعض الأفعال أوالإمتناعات، إنما وضع لكييخدم الطبقة الحاكمة دون غيرها ، أو لتدعيم سلطة جماعة في مواجهة جماعة أخرى. فالنص الذي يجرم السرقة أوالاستيلاء على مال مملوك للغير، كما يحمي أموال الطبقة الحاكمةفإنه يحمي – وبالدرجة الأولى – أموال الأفراد العاديين منالطبقة المحكومة.
-كما عيب على تلك النظرية قصورها في التحليل.فقد اعتمدت على ملاحظات مستمدة من الواقع المحلي(الولايات المتحدة)في التطبيق التمييزي للقانون جوهرها تطبيق نفس القانون على عدة وجوه بحسب الطائفة الاجتماعية التي ينتمي إليها المجرم ،حيث يكثر تدخل القانون ضد المنتمين إلى الطبقات الدنيا ويتقلص تطبيقه في مواجهة من ينتسبون إلى الطبقات الأعلى درجة.غير أن هذالا يبرر بذاته هدم النظام القانوني الحالي برمته بدعوى أن سوء التطبيق قد شابه من الناحية العملية.
-علاوة على ذلكفإن النظرية لا تفسر بوضوح كيف تقع الظاهرة الإجرامية كأثر للعلاقات الاجتماعيةالمختلة بفعل خلل السلطة ، وسيطرة جماعة على أخرى ، واستخدام القانون كأداة لتحقيق مصالح طائفة بعينها من طوائف المجتمع. ولعل ما يدعم هذا النقد هوأنهالمتفسر عدمسقوطبعض أفراد الطبقة الدنيافي طريق الجريمة ، على الخلاف من بعض أفراد الطبقات العليا.
-وأخيرافإن القائلين بتلك النظرية ، وقد كشفوا عن تحيزهم للنزعة الاشتراكية وتحليلها الاقتصادي للجريمة ، إلا أنهملم يحددوا بوضوح معالم النظام الاشتراكي الذييمكن أن يمثل أداة فاعلة في مكافحةالظاهرة الإجرامية.
– ثالثاً :نظريةالثقافة الفرعية :
لقد تنوعت الدراسات التي ارتبطت بفكرة الثقافة الفرعيةSous culture بحيث يمكننا أن نجمعها تحت لواء نظرية واحدة ، يدور محورها حولالتكوين الثقافي لكل طبقة اجتماعيةداخل المجتمع ومحاولة تفسيرالسلوك الإجراميعبر هذاالتكوين الثقافي الخاص بالطائفة التي ينتمي إليها المجرم. وأهمالدراسات التي أجريت في هذا الصدد ما قام بهكوهينCohen، وكذا العالمانكلاواردCloward وأوهلين
– أ :نظرية كوهين
انصب اهتمام العالم الأمريكي ألبرت كوهينCohenعلى إجرامالأحداثممنينتمون إلى الطبقات الدنيا في المجتمع.وقد أشارفي أبحاثه التي نشرها عام 1955إلىأنهناك صراع ينشأ بين معايير السلوك الاجتماعي لدى الطبقة الدنيا وتلك المتبناة من أفراد الطبقة الوسطى. وأشار إلى أن الغلبة دائماً تكون لمعايير تقدير السلوك التي تعارفت عليها الطبقة الوسطى. بحيث أنالفرد الذي تفرزه الطبقاتالدنيايتم تقدير مكانته في المجتمع على ضوء معايير كونها أفراد ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، الأمر الذي يجبره على تقبل أهدافوقيمالطبقة الوسطى ،خاصة وأن هناك عوامل متعددة تدفعه إلى هذا القبول : كطلب والديه ضرورة الوصول إلىمركزمرموق وأفضل مما هما عليه ،ودعوة وسائل الإعلامالمتكررة بضرورة الارتقاء بالقيموضرورة الوصول لمراتب أفضل فيالسلم الاجتماعي.
غير أن الفرد يظل غير قادر على التكيف مع أهداف الطبقة الوسطى أوتحقيقها بالوسائل الاجتماعية المقبولة.فالفرد من بين الطبقات الدنيا ينشأ من الناحية الاجتماعية في ظل نظام يجعله يعيش يومه دون التفكير في مستقبله،ولا يعرف من الطموح عادة إلا قدرا ضئيلا ،ويستسهل الاعتداءات البدنية واللفظية ،وهو ما يجعله يعيش في مركز اجتماعي أدنى من نظيره في الطبقة الوسطى ، ويجد نفسه في إطار نظم يديرها أفراد الطبقة الوسطى ويحكمون عليه وفقا لمعاييرهم ، ويصبح غير مؤهلاجتماعياً للتوافق مع قيمهم وأهدافهم.
ولما كانطفل الطبقة الدنياقد تيقنأن ارتفاع شأنه في الحياة الاجتماعية لابد أن يمر من خلال تبني القيم السائدة في الطبقة الوسطى ، كما تيقن من أنظروفه تحول دون تطبيقها،فإن احترامه لنفسه يهبط ويصادف مشكلات شائكة في التكيف مع المجتمع. ولمواجهة تلك المشكلات ، فإن الطفل يبدأ في تكوين أفكار خاصة به أو ثقافة فرعيةSubculture تتميز بخصائص معينة وحيث يسعى إلى تحقيق مركز له فيها فيدفعه ذلك إلى ارتكاب الجرائم.وبتراكم هذه الجزئيات تتشكل في العادة ما يسمى بعصابات الأحداث الإجرامية.
لا شك أن كوهين قد أصاب بعض الحقيقة في مجال تفسير الظاهرة الإجرامية في مجال جرائم الأحداث التي تأخذ النمط الجماعي. غير أنأبحاث كوهين قد انتقدت منأكثر من زاوية :
-فقد قيل أنخصائص الثقافة الفرعية التي يكونهاالحدث لنفسه ليست مقصورة على طبقتهوحده.والدليل على ذلكأن من ينتمون إلى الطبقة الوسطى قد يرتكبونذات الجرائمالخاصة بالطبقة الدنياعلى الرغم منعدم تكونثقافة فرعيةتخصهم.
-كما عيب على تلكالنظريةأنهااعتمدت على منهج تاريخي في البحث، أي أنها تبحث في السبب الذي من أجله تكونت الثقافة الفرعية ،الأمر الذي يستوجب البحثفيالدوافع النفسيةالتي تقف وراء تشكلتلك الثقافة لدى الأجيال السابقة ، وهي مهمة يصعب – إن لم يكن من المستحيل – إجرائها.
– ب :نظرية كلاوراد وأوهلين:
ذهبالعالمانكلاواردCloward وأوهلينOhlinإلى التمييز بين ثلاثة أنواع من الثقافات الفرعيةSubcultures،ترتبط جميعها بالتركيب الاجتماعي: الثقافة الفرعية الإجراميةCriminel subculture، الثقافة الفرعية التنازعية Conflict subculture،وأخيراً الثقافة الفرعية التراجعيةRetreatist subculture.
أما الثقافة الفرعية الإجرامية فتتواجدعلى وجه الخصوص في الطبقات الدنيا حيث يبدو المجرمون أكثر استعداداًللاندماج مع الأحداث الذي يعيشون في هذا الوسط. فهؤلاء المجرمون لا يختلطون بالنماذج البشرية التقليدية التي حققت نجاحاً من خلال القنوات الشرعية في المجتمع وإنما يجدون أمامهم نماذج إجرامية ناجحة يتمثلون سلوكها.بينما تبرز الثقافة الفرعية التنازعية في الأوساط الصغيرة المفككة اجتماعيا، والتي لا يتضح فيها الفارقبين الوسائل المشروعة والوسائل غير المشروعة.وإزاء هذا الغموضيختارالحدثالعنف كوسيلة لإثبات مكانته في المجتمع ليس فقط لأن في ذلك تنفيسا عن الغضب والإحباط المكفوفين ولكن لأن طريق العنف ميسور.أما الثقافة الفرعية التراجعية فتتعلق بالحدث الذييخفق في تكوين ثقافة فرعية إجرامية أو تنازعية والذي يميل عندئذ إلى الانسحاب أو التراجع عن المجتمع بإدمان الكحوليات والعقاقيرالمخدرة.
ويرى كلاوارد وأوهلينأن سلوك الفرد يختلف حسبمشروعية أو عدم مشروعيةالوسائل التي توجد تحت تصرفه والتي يتيحهاله التركيب الاجتماعي والطبقي الذي ينتمي إليه بثقافته. وعلى ذلك ، إذا كان التركيب الاجتماعييستسهل الاعتداءات البدنية والسرقات المصحوبة بعنف ، ويشجع علىاستعمالالمواد والعقاقيرالمخدرة، فإنه سوف يتوالد الحدث الذيتتكونلديهثقافة فرعيةخاصةتتوافق مع قيم هذا التركيب الاجتماعي. أما حينما يحول التركيب الاجتماعي بين الحدث وبين الوسائل غير المشروعة بمختلف أنواعها فإنه لا مجال لأن تتشكل عقلية أو ثقافة فرعية تحبذ الجريمة وتشجع عليها.
وقد عيبعلى هذه النظريةعدم امكان خضوع بعض فروضها للتجربة العملية ، مما يشكك في صدق النتائج التي توصلت إليها. وربما يعود ذلك إلى غموضبعض الاصطلاحات التي استخدمتها كمصطلح الفرص النسبيةDifferential opportunities ، الفشل المزدوجDouble failure ، استبعاد الذنبElimination of guilt.فضلاً عن أن بعض النتائج التي خلصت إليها هذه النظرية لا تتفق مع الواقع. ومن ذلك أنها ربطت بين كل نوع من أنواع الثقافة الفرعية ونوع آخر يقابله من التركيب الاجتماعي. ومع ذلك فقد أثبتالدراسات التي أجريت فيبعض المناطق التي تسود فيها معدلات إجرامية مرتفعةأنهتسود بهذه المناطق أكثر من ثقافة فرعية.كماأثبتت
أبحاثأخرىأجريت على الجمهور خارج السجنبطريق الاستبيانات غير المسماةAnonomous questionnairesإلى أن معظم أفراد الجمهور من كافة الطبقاتيرتكبون أفعالا تعد جرائم وأن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص لا تؤثر كثيرا على تلك النتيجة[1].
المطلب الثاني
نـــظـــريـات الــلانــــظــــام
Théories de l’anomie
– أولاً : نظرية دوركايم
تنسبفكرةاللانظامNotion d’anomieإلى عالم الاجتماع الفرنسي الشهيرEmile Durkheim(1858-1917). وقد نشر دوركايمأفكاره في مؤلفاته “تقسيم العملالاجتماعي عام 1893” وقواعد المنهج الاجتماع عام 1895 والانتحار في عام 1897.وقد أوضح خلال تلك المؤلفات ثلاثة أمور :الأول: حتمية الجريمة كظاهرة اجتماعية ، لايخلو منها أي مجتمع، لارتباطها بتنظيم الحياة في جماعة.فمنالمستحيل أن يتماثل كل الأفراد المكونين للمجتمع وأن يوجد لديهم نفس القدر من الضمير الاجتماعيConscience sociale.فلا بد أن يوجد من يشذ البعض عما يشكل الضمير الاجتماعي العام فتتولد الجريمة.
وأشار دوركايمإلى معيارية السلوك الإجرامي. بمعنى أنالفعل لا يوصف بأنه جريمةبالرجوعإلى خصائصه الذاتية التي تميزه عن غيره،وإنما يوصفكذلكلأن المجتمعاعتبرهكذلك ،حينما يشذ هذا السلوك عن الضمير الاجتماعي.
أما الأمر الثاني الذي كشف عنه دور كايم فهو أنالجريمة ضرورة لا غنى عنها لإحداث التغيير الاجتماعي، وبدونها سيصاب المجتمع بنوع من الركودStagnation.
وأخيراً أوضح دوركايم إلىأن واحدا من أهم مقومات المجتمع يكمن في تماسكه والتضامن الاجتماعي بين أعضائه والذي يمثل ضميراً جماعياًConscience collective.
وقدميز دوركايم بين نوعين من التضامن: التضامن الآليSolidarité mécanique، والتضامن العضويSolidarité organique.أما النوع الأول فيميزالمجتمعات البدائية حيث يظهر فيها جلياً ضمير اجتماعي تعكسه القواعد القانونية في المجتمع ، وتفرض للخروج عليه جزاءً مناسباً. ومن شأنالتهديد بهذا الجزاءالحفاظ على التضامن الآلي في المجتمع.
بينمايميزالنوع الثانيالمجتمعات الحديثة القائمة على تقسيم العمل. ففي مثل هذه المجتمعات تضعف عوامل التضامن التيكانتتعرفها المجتمعات البدائية، الأمر الذي أثر فيفلسفة القانونبأن انتقل مركز الاهتمام من الضمير الجماعي إلى الضمير الفردي ومراعاة جانب المجني عليه، وأصبحالقانونيستهدفتعويض المجني عليه المضرور من الجريمة ، أكثر مما يستهدف عقاب الجاني.
وفيهذا القالب المجتمعيالجديد الذي ينقصه التجانس الاجتماعي تنطلق العواطف ويعيش الفرد في عزلة معنوية واجتماعية ،الأمر الذي يخلقحالةمناللاقانون أو اللانظام تحل محل التضامن السابق، وفي هذا القالب الاجتماعي يسهل ارتكاب الجرام.
وقد عيب على نظريةدوركايم اهتمت فقط بربط الظاهرة الإجرامية بالتركيب أو التنظيم الاجتماعي وأنها لم تفلحفي بيان الكيفية التيبهايصبح الفرد مجرماً.كما أن هذه النظرية لم تفسر لنا علةتباين ردود أفعال الأفرادفي الفروض التي يجمعهم فيها تنظيم اجتماعي واحد.
– ثانياً : نظرية ميرتون
تأثر عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتونRobert Mertonبأفكار دوركايم، محاولاً الإجابة على ما لم تفلح نظرية هذا الأخير في الإجابةعليه. فقدحاول ميرتون الإجابة على التساؤل الآتي: لماذا تتباين ردود أفعال أشخاص يعيشون معا في نفس الوسط الخارجي؟
وفي محاولته الإجابة على هذا التساؤل أوضحميرتونأن لصور التركيبات الاجتماعيةSocial structureعلىاختلافها خصيصتين : أولاهما أن تلك التركيبات تتبنى أهدافا يصبو إليها أفراد المجتمع ، وثانيهما أنها تتخير الوسائل الكفيلة ببلوغ تلك الغايات وتعترف بها.
ولديه أنبعض المجتمعات تهتم بالأهداف وبعضها الآخر بالوسائل بينما تتخذ غالبيتها موقفاًوسطا.ويكشف عن أنالحضارة الأمريكية المعاصرة تركز أساساً على الأهداف على حساب الوسائل، وأن الهدف الرئيسي هو النقود التي صارت رمزا للهيبة والمكانة الاجتماعية ، وصارت في ذاتها قيمة من القيم. ولكنها في مثل ذلك المجتمع قد تحولت إلى قيمة غير متناهية ، حيث لا يقنع الأمريكيون ببلوغ أي حد منها وإنما يطلبون دائما المزيد , وفي نفس الوقت ، فإن الأمريكيين يواجهون ضغطا من نوع آخر يتمثل في الطموح الزائد، فالأهداف الكبرى يضعها الجميع نصب أعينهم وكل يسعى إلى بلوغها.
ويتوقف تقيم سلوك الأفراد من حيث مطابقته للقانون أو مخالفته له (جريمة) – على حسب موقفهم من الهدف والوسائل المؤدية إليه. وهنا تظهر خمسةاحتمالاتتشكلردود أفعال الأفراد تجاه الهدفوتجاه تلك الوسائل : التطابقConformity،والتجديدInnovation ،والتعلق بالطقوسThuolism، والتراجعRetreatism، والتمردRebelition.
فالتطابق يعني قبول الهدف والوسيلةمعاً ، وهنا يكون الفرد قد تلائم اجتماعياً مع المجتمع في صورة تطابق السلوك مع القواعد القانونية المنظمة لهذا المجتمع.أماالتجديدفيعني قبول الأهداف ورفض الوسائل المؤدية إليها.وهو مايحدث عندما يتطلب المجتمع من الجميع تحقيق أهداف معينة ولكنه في ذات الوقت يضع معوقات أمام الطبقة الدنيا في المجتمع لبلوغ تلك الأهداف مما يؤدي بأفراد هذه الطبقة إلى ارتكاب الجرائم.
ويشيرالتعلق بالطقوسإلىرفض الأهداف وقبول الوسائل ،الأمر الذييحدث ذلك عندما يألف الإنسان أداء بعض الأعمال دون تفكير في سبب أدائه لها. ويكثر هذا الموقف على وجه الخصوص لدى أفراد الطبقة المتوسطة، التي تتشكل عادة من أرباب الوظائف الأميرية) ، الذين يقنعون بأوضاعهم ، ويقل لديهم الشعور بالطموحوالرغبة في التغيير.
أماالتراجعفيشير إلى الشخص الذي يتقبل في النهاية الأهداف والوسائل ولكنه يفشل أكثر من مرة في الوصول إلى الهدف بالوسائل المشروعة. وفي نفس الوقت ، فإن هذا الشخص لا يستطيع الالتجاء إلى الوسائل غير المشروعة وعندئذ يجد نفسه عاجزا عن تحقيق الهدف بأية وسيلة ويجد نفسه منفصلا عن المجتمع.ويحدث هذا على وجه الخصوص من قبل مرضى العقول والمنبوذين اجتماعيا والمتشردين والمتسولين ومدمني المخدرات.
بينما يعنيالتمرد رفض الأهداف والوسائلفيمحاولةلإقامة نظام اجتماعي جديد.
ورغم محاولةميرتونالجادة في إظهار الميكانيزم الذي تتوالد به الجريمة في إطار تركيب اجتماعي معين ، وعلة تباين سلوك الأفراد في الوسط البيئي الواحد ، إلا أنها قد تعرضت للنقد في أكثر من جانب:
-فقد قيل بأنهذه النظريةقاصرة عن تفسير بعض الأفعال الإجرامية. فقيل أنها لا تصلحلتفسيرالجرائمالتي تقعلغرض غير نفعي ،كتلك التي تقعلمجرد المرح مثلا. كما أنها لا تفسر الجريمة في المجتمعات التي لا تقوم على اعتبار المكانة أو المركز هدفا مفتوحا للجميع.
-وقد عيب عليها أيضاً طابعها النظري المحض ، إذلم تقترن النظرية بإجراء أبحاث تجريبية تثبت صحة افتراضاتها.
-كما أنموقف التجديد الذييفسر لدىميرتونإجرام أفراد الطبقات الدنيا يوجد ولا شكأيضا بين أفراد الطبقتين الوسطى والعليا.
-وأخيراً فإن نظريةميرتونلاتقيم وزناً لا للمتغيرات الاجتماعية النفسيةSocial-psycological variablesولا لعناصر التركيب الاجتماعي التي قدتقف وراء ترجيحأحد الاحتمالات الخمسة على ما سواهلدى فرد بعينه.
بحث قانوني عن نظريات الهيكل الاجتماعي في تفسير الظاهرة الإجرامية