بحث قانوني قيم عن تعاصر النية مع الفعل المادي
De la concomitance de l’intention etdu fait matériel.
تمهيد وعرض للمسألة:
الجريمة – في القانون الجنائي – عمدية وغير عمدية، مثل الأولى القتل عمدًا، ومثل الثانية القتل خطأ، ولا بد في هذه وتلك من عنصر أدبي شخصي هو في الحالة الأولى توجيه الإرادة والعمل أو الامتناع نحو إحداث النتيجة: القتل، وفي الحالة الثانية التزام موقف إيجابي أو سلبي وفق الأحوال يؤدي إلى حصول النتيجة المحرمة: القتل، بغير أن تكون مقصودة ابتداءً أو مقبولة قبولاً احتماليًا [(2)] والفصيلة الأولى، أي الجرائم العمدية، هي المقصودة في هذا البحث، فهي لا تقوم بغير وجود (النية) – نية القتل في مثالنا – ولا تقوم بغير وجود (الواقعة المادية) واقعة القتل في هذا المثال.
لا بد إذن من اجتماع هذين الركنين، هذه حقيقة بسيطة لا نزاع حولها، ولكن متى يجب أن يكون هذا الاجتماع؟ وما هي النسبة الزمنية المتبادلة بين كل من الركنين؟ هذه هي المسألة التي نحاول معالجتها الآن.
ولاحتفظ بمثال القتل عمدًا، ولا فرض أن زيدًا من الناس ينقم من بكر أمورًا وقد انتهى إلى عقد العزم والنية عقدًا نهائيًا على قتل غريمه بكر وحدد لذلك اليوم الأخير من شهر معين هو شهر يناير وحدث أن خرج زيد يقود سيارته في اليوم الأول من شهر يناير المذكور، وكان بكر يسير في طريق السيارة دون أن يفطن زيد إلى وجوده ووقع من زيد خطأ ترتب عليه موت أشخاص اتضح فيما بعد أن بكرًا واحد منهم، هنا وجدت نية القتل عند زيد، وحصل أيضًا منه إزهاق النفس الإنسانية التي كان انتوى ازهاقها، فهل نأخذه بجريمة القتل عمدًا؟ كلا الركنين موجود ولكنهما لم يتلبس أحدهما بالآخر، لم يوجدًا في وقت واحد.
الرأي الغالب:
أما الرأي الغالب فيحتم التعاصر بين الركنين ولا يقبل إدانة المتهم في الفرض السابق على أساس القتل عمدًا لأنه ارتكب القتل عندما حدث القتل خطأ لا عمدًا.
وهذا الرأي يستند إلى أساس نظري كما يعتمد على بعض النصوص القانونية: فإن النية الخبيثة وحدها لا عقاب عليها وما لم تقترن ببدء في التنفيذ على الأقل فصاحبها لا يمكن اعتباره مجرمًا بالمعنى القانوني بل أنه قد يصرح عن نيته الخبيثة بأعمال تحضيرية ولكنه إن وقف عند هذا المدى لا يعاقب لأنه لما يشرع في التنفيذ، وما دام الأمر كذلك فلا سبيل إلى محاسبة قائد السيارة على نية القتل التي طوى عليها جوانحه لأنها نية بغير تنفيذ ولا بدء في تنفيذ، فإن كان قد قتل غريمه فيما بعد غير منتو قتله في هذه الساعة لأنه غير عالم بوجوده وغير راغب في وقوع حادثة لا يعلم من يكون ضحيتها، فحسابه محدود بهذه الحادثة: إن ثبت عليه خطأ أخذ بالقتل خطأ وإلا فالأمر قضاء وقدر ولا تثريب عليه.
أما النصوص القانونية التي يعتمد عليها هذا الرأي الغالب فمنها – في قانون العقوبات المصري – المادة (62) (فقرة أولى) التي تعفي من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الفعل) فاقد الشعور أو الاختيار في عمله لجنون أو عاهة في العقل، فإذا كان المتهم قد انتوى ارتكاب الجريمة وهو عاقل ثم أصيب بالجنون وارتكب تلك الجريمة مجنونًا فلا عقاب عليه وذلك لأن النية لم تصاحب الفعل المادي.
وكذلك الفقرة الثانية من المادة المذكورة التي تعفى من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الجريمة) فاقدًا الوعي بسبب السكر الخ.
وتمت مواد كثيرة تشير إلى ركن النية مقرونًا بالركن المادي فالمواد (206) و (208) و (213) و(214) و(215) و(217) و(220) و(221) (باب التزوير) تستعمل عبارات مع علمه (بتقليدها أو بتزويرها) و (بقصد التزوير) الخ مضافة إلى الفعل المادي.
ولقد أراد المشرع المصري الخروج على هذه القاعدة العامة قاعدة التعاصر في مسألة واحدة بخصوصها فاضطر إلى سن تشريع خاص استحدث به جريمة جديدة هي جريمة العثور على شيء ضائع والاحتفاظ به، أما التشريع الذي جرمها به فهو دكريتو سنة 1899 الذي قال:
(كل من يعثر على شيء أو حيوان ضائع ولم يتيسر له رده إلى صاحبه في الحال يجب عليه أن يسلمه أو أن يبلغ عنه إلى أقرب نقطة للبوليس في المدن أو إلى العمد في القرى).
ويجب إجراء التسليم أو التبليغ في ظرف ثلاثة أيام في المدن وثمانية أيام في القرى ومن لم يفعل ذلك يعاقب بدفع غرامة يجوز إبلاغها إلى مائة قرش وبضياع حقه في المكافأة المنصوص عنها في المادة الثالثة.
فإذا كان حبس الشيء أو الحيوان مصحوبًا بنية امتلاكه بطريق الغش فتقام الدعوى الجنائية المقررة لمثل هذه الحالة ولا يبقى هنالك وجه للمحاكمة عن المخالفة.
هذا التشريع الخاص هو – طبقًا للرأي الغالب – دليل على أن الأصل تحتيم تعاصر النية والفعل المادي وإلا ما أحتاج المشرع إلى تشريع يصدره بخصوص مسألة بعينها ما دام الحكم الذي يريده ثابتًا ومستفادًا من المبادئ العامة.
أي أن أصحاب الرأي الغالب يستنتجون من هذا الدكر يتو بمفهوم العكسA Contrario ما يؤيد نظريتهم [(3)].
بل ذهب الأستاذ جرانمولان إلى أبعد من ذلك فقال أن هذا المبدأ العام – وهو وجوب تعاصر النية والركن المادي – ظل محترمًا حتى في هذا الدكريتو فمن يعثر على شيء ضائع ثم تطرأ عليه بعد هذا العثور نية الاحتفاظ به لنفسه لا يرتُكب جنحة السرقة ولا جنحة مشبهة بها لأن الدكريتو المذكور لم يرد الخروج على القاعدة العامة وإنما أحال عليها، وسيأتي تفصيل رأيه.
رأي القضاء الفرنسي:
وليس في التشريع الفرنسي نص خاص بالعثور على شيء والاحتفاظ به فماذا كان موقف القضاء الفرنسي من هاذ الفعل؟ كان موقفه مؤيدًا للرأي الغالب لأنه فرق بين حالتين: الأولى وجود نية الغش عند العثور على الشيء، والثانية طروء هذه النية بعد العثور عليه، وفي الأولى قضى بالعقاب، وفي الثانية قضى بالبراءة.
وقد لخص الأستاذ جرانمولان هذا الموقف بقوله في كتاب (قانون العقوبات المصري – الجزء الثاني – ص (425) – فقرة (1670)) ما يأتي:
La jurisprudence francaise distingue si l’intention frauduleuse existait au moment ou la chose a été trouveé ou si elle n’est survenue que postérieurement.
Elle admet qu’il y a vol si l’intention de s’approprier l’objet est née au moment de la prise de possession car la soustraction fraudu leuse résulte de l’enelèvement de la chose trouvée avec l’intention de se l’approprier.
Dans la seconde hypothèse où la chose a été ramassée sans intention d’appropriation et où cette intention n’est survenue qu’ultérieurement, il n’y a pas vol. La loi exige, en effet, la soustration frauduleuse c’est – à – dire que l’intention criminelle existe au moment où la chose est appréhendée tandisque, dans l’espèce, elle ne s’est formée qu’après coup.
وترجمة ما تقدم:
(يميز القضاء الفرنسي بين حالة وجود نية الغش في اللحظة التي عثر فيها على الشيء، وحالة عدم وجود هذه النية إلا بعد العثور عليه، ويقرر القضاء وجود جريمة سرقة إذا كانت نية تملك الشيء قد ولدت في لحظة الحيازة لأن الاختلاس ينتج من حمل الشيء المعثور عليه حملاً مصحوبًا بنية تملكه.
أما في الفرض الثاني حيث يكون الشيء قد حمل بغير نية تملكه وحيث تكون هذه النية قد وجدت فيما بعد، فلا سرقة، أن القانون يشترط – في الواقع – (الأخذ بنية الغش) ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
وقد أشار الأستاذ جرانمولان في حاشية ص (425) المذكورة إلى أحكام قضائية فرنسية منها حكم النقض في 25 إبريل سنة 1884 وحكم النقض في 11 أغسطس سنة 1879 وحكم النقض في 16 مايو سنة 1903.
رأي الأستاذ جرانمولان:
والتأمل في الفقرات التي اقتبسناها يظهر أن الأستاذ جرانمولان يوافق على رأي القضاء في فرنسا، وتمت عبارة نود أن يقف عندها لما لها من أهمية في خصوص قضيتنا تلك هي قول الأستاذ:
(إن القانون يشترط في الواقع، الأخذ بنية الغش (la soustraction frauduleuse ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
رأي الأستاذ بالنسبة للقانون المصري:
وقد انتقل الأستاذ جرانمولان إلى القانون المصري ثم قال بغير تردد أن الحلول التي تقررت في فرنسا يجب الأخذ بها في مصر حيث النصوص والمبادئ متفقة مع ما يقابلها في فرنسا:
Les solutions de la jurisprudence francaise semblent devoir être admises en droit egyptien où les textes et les principes sont les mêmes.
(المرجع السابق ص (426) فقرة (1671)).
دكريتو 1899:
ولقد وصل الأستاذ، في تمسكه بهذا المبدأ المجمع عليه، إلى حيث خالف رأي لجنة المراقبة القضائية وارتأى أن دكريتو سنة 1899 ليس من شأنه التأثير فيه أي أن العثور على شيء بغير وجود نية تملكه ثم طروء هذه النية فيما بعد لا يعاقب عليه في مصر لأن هذا الدكريتو لم يفعل أكثر من الإحالة على قانون العقوبات وهذا القانون لا يقبل مطلقًا، لا بروحه ومبادئه العامة ولا بنصوصه، أن يعاقب على فعل جنائي لم يقترن بنية جنائية وإنما ولدت بعده. وهاكم نص قول الأستاذ في هذا الصدد:
Mais, quoiqu’ il parle de rétention frauduleuse, sans exiger que la soustraction elle même ait ete frauduleuse, ce texte se borne à renvoyer au code pénal; il ne parait pas qu’il ait entendu innover hi decider qu’il y a vol même dans le cas où l’intention de s’approprier l’object he prend naissance qu’après la mainmise sur l’objet perdu.
(المرجع السابق ص (427) – تابع الفقرة (1671)).
وأنه ليسترعي انتباهنا قول الأستاذ في الفقرة المتقدمة (ومع أنه – أي الدكريتو – يتكلم عن الاحتفاظ بنية التملك بغير اشتراط أن الأخذ عند العثور نفسه كان بنية التملك، فإن هذا النص يقنع بالإحالة على قانون العقوبات، ولا يبدو أنه أراد التجديد أو أراد تقرير وجود السرقة حتى في حالة عدم تولد نية التملك إلا بعد وضع اليد على الشيء الضائع).
وقد سنحت لمحكمة النقض في مصر فرصة قريبة لمعالجة هذه النقطة الفرعية فقضت بغير ما ارتآه جرانمولان.
قالت محكمة النقض:
(يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور على الأشياء الضائعة أن يتوافر لدى العاثر على الشيء الضائع نية امتلاكه سيان في ذلك إن كانت هذه النية مقارنة للعثور على الشيء أو لاحقة عليه [(4)].
وقد جاء هذا ردًا على طعن للمتهم لخصته محكمة النقض بقولها، (وحيث أن أوجه الطعن تتلخص في أن الطاعن لم تكن عنده نية اختلاس الأشياء الضائعة وقت أن عثر عليها مع أن توفر تلك النية وقت العثور على الشيء ضروري لتطبيق قانون الأشياء الضائعة الخ).
وظاهر مما تقدم أن المتهم بنى أول وجه للطعن على تلك المسألة القانونية وتمسك فيها بالقول الذي قال به جرانمولان ولكن محكمة النقض رفضت قبوله [(5)]
رأي القلة:
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النقطة الأساسية فنقول أن الرأي القائل بوجوب التعاصر هو الرأي السائد ولكنه ليس الرأي المجمع عليه.
وقد تصدى لانتقاده الأستاذ البرت شيرونA. Cheron في دروس ألقاها على طلبة الدكتوراه وطلبة المعهد الجنائي بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وقال، بالقياس إلى الحجج النظرية، أنه لا ينازع في وجوب توفر صلةjointure بين النية والفعل المادي وأن هذه الصلة هي في الأغلب صلة في الزمان يتوفر بها التعاصر المذكور، ولكن ليس من المحتم أن تكون هذه الصلة دائمًا صلة زمنية وإنما المحتم أن توجد بين الأمرين رابطة منطقية فإن وجدت فلا مانع، من الوجهة الاجتماعية ولا الوجهة الخلقية، تمنع العقاب ويضرب لرأيه مثلاً، رجلاً انتوى سرقة حافظة نقود موجودة في معطف رجل آخر ولكنه لم يرتكب السرقة خوفًا من أن يراه ثم حدث بعد ذلك أن أراد الأول (ولنسمه (1)) أن يرتدي معطفه فأخطأه وارتدى معطف صاحب الحافظة (ولنسمه ب) فلما فطن إلى خطئه انتفع من هذا الخطأ واختلس حافظة النقود، ثم يضرب مثلاً ثانيًا رجلاً عثر على مال في الطريق فاتجه صوب الشرطة لتسليمه ولكنه غير في الطريق نيته واحتفظ به لنفسه، في هذين المثلين لا توجد الصلة الزمنية التي نسميها التعاصر ولكن توجد الصلة المنطقية وهي، في رأي الأستاذ شيرون، كافية للإدانة.
ويستند الأستاذ أيضًا إلى ما أثبته علم النفس من وجود العقل الباطن ففي المثلين المتقدمين توجد رابطة لا شعورية بين العثور البريء والاحتفاظ غير البريء والسكران الذي ارتكب فاقدًا وعيه جريمة كان انتوى ارتكابها في وعيه قد تأثر في جريمته بعزيمته السابقة التي اختزنها عقله الباطن ولو أنها في الظاهر لم تكن موجودة وقت مقارفة الجرم.
أما النصوص التي ارتكن إليها أصحاب الرأي الغالب فلا يراها الأستاذ شيرون قاطعة، ذلك أنهم تمسكوا بما جاء فيها من عبارات مثل (مع علمه بذلك) الخ ولكن كل هذه الـAdverbes لا تفيد أكثر من اشتراط النية ولكنها لا تفيد وجوب تعاصر النية مع الفعل.
وأما المادة الـ (57) التي تشير إلى وقت ارتكاب الفعل فهي في رأي الأستاذ حجة قوية تدعم رأي من يخالفهم ولكنه يرى أن في تلك المادة عينها ما يعزز رأيه هو ذلك أنها لا تعفى من العقوبة إلا من تناول الخمر (بغير علمه أو بغير رضاه) ومعنى هذا أن من يتناول الخمر عالمًا بتناولها ليتشجع على ارتكاب جريمة انتوى ارتكابها حالة صحوه، لا ينجو من العقوبة رغم أن النية لن تكون معاصرة للفعل، وقد أردف الأستاذ هذا بقوله أنه يعلم أن المحاكم تبرئ في هذا الفرض على أساس انعدام النية [(6)]
ولكنه ينتقد هذا القضاء لأنه يخالف النص الصريح الذي يشترط أن يكون تناول الخمر بغير علمه أو بغير رضائه ثم لأنه يتنافى مع المصلحة الاجتماعية لأن السكر مع سبق الإصرار لا يجوز اعتباره سببًا من أسباب عدم العقوبة في حين تعتبره المادة (92) من القانون الإيطالي ظرفًا مشددًا.
أما دكريتو مايو سنة 1898 فإن الأستاذ يتساءل لماذا لا نعتبره تقريرًا للقاعدة بدل أن نعتبره خروجًا على القاعدة، فهو يفسره على أساس مفهوم الموافقة في حين أن أصحاب الرأي السابق أخذوا بمفهوم المخالفة.
ونلاحظ نحن فوق ما تقدم أن من الممكن أن يقال – من وجهة نظر الأستاذ شيرون – أن المشرع الصمري في الدكريتو المذكور قصر همه على استحداث جريمة جديدة هي إهمال تسليم الشيء المعثور عليه في حين أن نية اختلاسه لم توجد مطلقًا لا عند العثور ولا بعد العثور وقد جعل هذه الجريمة المستحدثة مجرد مخالفة، ثم خشي أن يفهم من هذا خطأ رغبته في تخفيف واقعة أخذ الشيء أو الحيوان بنية – الاحتفاظ به أي اختلاسه يجعلها مخالفة وهي في الأصل جنحة فعمد إلى هذا التنبيه في الفقرة الأخيرة، فالجريمة المستحدثة إذن بهذا الدكريتو ليست هي العثور على شيء ثم طروء نية اختلاسه بعد العثور عليه لأن هذه الواقعة ليست في حاجة إلى تشريع خاص يجعلها جنحة، وإنما الجريمة المستحدثة بالدكريتو هي أخذ الشيء الضائع وإهمال تسليمه للسلطة المنصوص عليها في المادة المعين دون أن يقترن هذا الإهمال بنية اختلاسه.
ثم نلاحظ ثانيًا أن أصحاب هذا الرأي غير السائد كانوا يستطيعون أن يجدوا في موقف الأستاذ جرانمولان ثغرة ذلك أنه ارتأى إدانة من تناول المسكر أو المخدر عمدًا تشجعًا على ارتكاب جريمة ثم ارتكبها فاقد الوعي، فإن هذا الرأي يفهم من الأستاذ شيرون ولكنه يتسق بسهولة مع ما ذهب إليه الأستاذ جرانمولان في تفسير دكريتو 1898.
ثم نلاحظ ثالثًا أن فريقي الباحثين – في استهدائهم بالنصوص – لم يتكلموا عن النصوص الفرنسية والمصرية – الخاصة بحالة الاشتراك اللاحق للجريمة فقد (كان القانون الفرنسي، فوق معاقبة من يعتاد على إيواء المجرمين الذين يقطعون الطرق ويفسدون أمن الدولة باعتباره شريكًا لهم، تقضي بأن من يخفي أشياء مسلوبة أو مختلسة أو مأخوذة بطريق ارتكاب جناية أو جنحة مع علمه بذلك، يعامل معاملة الشريك ي هذه الجناية أو الجنحة (م 51 – 62)، وكان القانون المصري السابق على سنة 1904 يحتوي على أحكام مطابقة لهذه الأحكام الفرنسية ويجعل من إخفاء الأشياء المحصلة من طريق الجناية أو الجنحة اشتراكًا فيها بعد ارتكابها (م 68 – 69).
غير أن هذا النص الخاص بحالة الاشتراك بإخفاء الأشياء كان موضعًا لانتقاد الفقهاء في فرنسا لأنه يترتب عليه تحميل المخفي مسؤولية جريمة وقعت على غير علم منه، دون أن يتفق سلفًا على ارتكابها ودون أن يساهم فيها، ولأنه لا يتصور من الوجهة القانونية البحتة أن يشترك شخص في الجريمة بعد إتمام تنفيذها، لأن الاشتراك يتضمن اتفاقًا سابقًا على الجريمة وقصد التعاون على إحداثها، مع أن المخفي يعاقب كشريك ولو لم يتوفر عنده شيء من ذلك، فإن لم يكن بد من عقابه فلا يحاسب كأنه شريك في الجريمة التي وقعت بل على فعله كجريمة مستقلة، فلما عدل القانون المصري في سنة 1904 كان لهذه المطاعن أثرها عند المشرع فألغى الحكمين السابقين، وهما الاشتراك بالاعتياد على إيواء كبار المجرمين والاشتراك بإخفاء الأشياء المحصلة من طريق جناية أو جنحة، وبذلك قضى على حالة الاشتراك اللاحق للجريمة، وجعل من إخفاء الأشياء جريمة قائمة بذاتها، ولكنها مقصورة على ما جاء من طريق السرقة دون الجرائم الأخرى، (م 322 ع)، وكذلك فعل المشرع الفرنسي بقانون أصدره في 22 مايو سنة 1915 فألغى الاشتراك بإخفاء الأشياء، مع إبقائه النص الخاص بالاعتياد على إيواء المجرمين، واعتبر إخفاء الأشياء جريمة خاصة ولكنه جعلها عامة على الأشياء المحصلة بطريق أي جناية أو جنحة (م – 46 ع. ف) [(7)].
إذن فالقانون الفرنسي والمصري كانا، قبل تعديلهما، يعرفان حالة الاشتراك اللاحق في جريمة فيعتبران شريكًا فيها من لم تكن عنده نية الاشتراك قبل أو وقت ارتكابها ولكن النية الإجرامية ولنسميها تجوزًا نية الاشتراك – وجدت لاحقة على الفعل، ولكن القانونين لم يأخذا بهذا الاشتراك للاحق إلا في جرائم معينة، أفلا يمكن إذن أن نستنتج من هذا، بمفهوم العكس، أن القاعدة هو وجوب توفر نية الاشتراك مصاحبة للجريمة المشترك فيها؟ ثم أن القانونين عدلا من أحكامهما لاستثنائية المشار إليها تحت ضغط الانتقاد الفقهي الذي أومأنا إليه؛ ألا نرى أن هذا الانتقاد يصدر عن عين الأساس الذي يصدر عنه الرأي الغالب في أمر تعاصر النية مع الفعل المادي؟ وهذه الحلول الوضعية التي انتهى إليها القانونان في شأن إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة (أية جناية أو جنحة) في فرنسا وجريمة السرقة فقط في مصر) ألا تدل على أن المشرع عندما أراد تجريم هذا الفعل احتاج إلى نص خاص إذ لم تسعفه المبادئ العامة التي تحتم تعاصر النية والفعل المادي؟
هذا كله من وجهة نظر الرأي الغالب، فهل يستطيع الرأي الآخر أن يجد في هذه المسألة استنادًا له؟ لست أرى هذا إلا أن يفسرها على أساس مفهوم الموافقةPar analogie كما فعل عندما قابل دكريتو سنة 1898 الذي أسلفنا العرض له.
ختام
نرى من العرض المتقدم أن محكمة النقض عندنا لم تفصل في المسألة الرئيسية التي عالجناها ولكنها أتيح لها الفصل في نقطة فرعية حين قضت بأن الواقعة المشار إليها في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو واقعة معاقب عليها أي أن التعاصر غير مطلوب فيها ولو أنها أسست هذا العقاب على القواعد العامة لكان قضاؤها هذا فصلاً في المسألة الرئيسية، ولكن الظاهر أنها قضت بالعقوبة تطبيقًا للدكريتو أي لهذا النص الخاص الذي رأينا كيف تناقض الرأيان في تفسير دلالته بالقياس إلى مسألة التعاصر بوجه عام.
والواقع أن هذا الدكريتو مفتقر إلى تعديل في الصياغة وأن قوله (الجريمة الواردة في القانون) هو تعمية لا ندري مسوغًا لوجودها فهي أشبه بلغة الساسة منها بلغة المشرعين.
وقد آن الوقت أيضًا لكي يتساءل الباحثون هل ينصحون للمشرع بتحديد موقفه من هذه المسألة الكلية مسألة تعاصر النية تحديدًا واحدًا وواضحًا بالقياس أي جميع الجرائم العمدية.
عبده حسن الزيات
المحامي
الهوامش
[(1)] المجلة: لم نقرأ في المعجمات كلمة تعاصر ولا معاصرة بهذا المعنى والأفضل أن يقال ملابسة النية للفعل المادي أو اقترانها به ونوجه النظر إلى أن الهوامش الآتية هي للأستاذ صاحب المقال.
[(2)] هذا عرض إجمالي كان يفتقر إلى مزيد من الدقة والبيان لو أن المقصود في هذا المقال تحديد الركن الأدبي وعناصره والنية الاحتمالية الخ:
ولكنا نرى – مع ذلك – أن نشير إلى المذهب الذي قال بأن المسؤولية الجنائية قد توجد في بعض الجرائم بغير وجود هذا العنصر الشخصي أي بغير وجود عمد وبغير وجود خطأ فهذه.
مسؤولية مادية موضوعيةobjective صيغة على غرار المسؤولية المادية المشهورة بالمسؤولية الشيئية في القانون المدنيRespon. Réelle ومن القائلين بهذا الرأي برنس وقد شيده على أساس من بعض مواد قانون العقوبات أو اللوائح الأخرى التي تعاقب على أمور بغير اشتراط عمد أو خطأ من المتهم: مثل العثور في حقيبة المسافر على أشياء تستوجب رسومًا جمركية ولكن المسافر لم يقرر وجودها.
ولكن هذه النظرية قد قوبلت بالإنكار من مؤلفين كثيرين منهم جارو وجارسون وجرانمولان وشيرون فعندهم أن المسؤولية الجنائية لا تقوم بغير هذا العنصر الأدبي الشخصي فإذا ثبت – في المثل المتقدم – أن الأشياء دست على حقيبة المسافر بغير علمه نجا من المسؤولية الجنائية.
وقد أعود إلى هذه النقطة ببحث أوسع في عدد قادم.
[(3)] لم يفرد أحد لهذه المسألة، مسألة المعاصرة فصلاً خاصًا غير الأستاذ البرت شيرون في دروسه التي ألقاها على طلبة المعهد الجنائي وطلبة دبلوم القانون العام بقسم الدكتوراه بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول – فإذا قلنا الرأي الغالب وأصحابه فإنما نستند إلى أنهم لم يخرجوا على هذا الرأي تسليمًا به، كما نستند إلى أنهم عند الكلام على بعض الجرائم العمدية في القسم الخاص يشيرون إلى قاعدة التعاصر ويشترطونه (مثلاً الأستاذ أحمد بك أمين عند كلامه عن السرقة) ص (643) – والأستاذ زكي العرابي في كتابه عن القسم العام من قانون العقوبات ص (103) عند كلامه عن السكر كسبب لعدم المسؤولية فهو يقول تعليقًا على المادة (57) (أن السكر متى كان تامًا يترتب عليه فقد الشعور ولا يصح معاقبة الجاني في جرائم العمد إلا إذا وجد القصد الجنائي وقت ارتكاب الجريمة).
[(4)] 7 فبراير 1938 – الطعن رقم 589 سنة 8 ق – المحاماة (س 18 – ع 9 – ص 814).
[(5)] وبالتمعن في عبارات محكمة النقض نرى أنها قالت (يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور الخ) – فهل نفهم من هذا أنها تعتبر تلك الواقعة، من جهة التكييف القانوني، سرقة أو أنها تراها جنحة أخرى ليست بسرقة ولكن تطبق عليها مواد السرقة؟ هنا نواجه هذه النقطة الفرعية، نقطة التكييف القانوني للجريمة المذكورة في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو، فإن لجنة المراقبة القضائية قد اعتبرتها مشابهة للسرقةassimilé ولكن الأستاذ شيرون يقول أنه لا داعي لهذه التسويةassimilation لأن الواقعة في رأيه واقعة سرعة النية فيها غير متعاصرة مع الفعل المادي، وهذا نص قوله:
(Suivant mon opinion, il n’y a pas besoin d’assimilation; c’est un vol où l’intention n’est pas concomitante au fait matériel.
أما الأستاذ جرانمولان فهو يرى كما تقدم أن المشرع المصري لم يقصد اعتبار الواقعة سرقة ولا جنحة أخرى، وقد أشار إلى أن بعض القوانين الأجنبية جعلت الواقعة المذكورة جنحة ولكنها لم تجعلها في مرتبة السرقة ثم علق على ذلك بقوله أن هذه الواقعة تستحق العقاب ولكن بأخف من عقاب السرقة لأن السارق يدبر الجريمة أما من يعثر على شيء ثم تطرأ عليه نية الاحتفاظ به لنفسه فالمصادفة هي التي هيأت له الجريمة فهو أقل من السارق خطورة.
[(6)] هذا نص قول الأستاذ:
jesais bien que les tribunaux acquittent dans ce cas , pour défaut p’intcntion. Mais cette jurisprudence me paraît trés contestable.
ويبدو لي أن في قول الأستاذ أن المحاكم تبرئ في هذه الحالة كثيرًا من التعميم لأن بعض الأحكام حكمت بالإدانة وقررت أنه (يشترط لتطبيق المادة (57) من قانون العقوبات أن تكون الغيبوبة التي يستند إليها المتهم لطلب الحكم بأنه غير مسؤول جنائيًا ناشئة عن عقاقير مخدرة أخذها المتهم قهرًا عنه أو على غير علم منه بها) (النقض في 3 – 3 – 1924 – المحاماة (س 5 ص 1).
[(7)] الأستاذ علي بدوي – الأحكام العامة في القانون الجنائي – الجزء الأول ص (322) و (323) وحاشيتيها.
بحث قانوني ودراسة فريدة حول تعاصر النية مع الفعل المادي