بحث قانوني متميز عن الإشكالات القانونية التي يثيرها النشر الإلكتروني
المدونات الإلكترونية نموذجا
د.إدريس لكريني- أستاذ باحث؛ كلية الحقوق؛ مراكش؛ المغرب
عرف النشر الإلكتروني تطورا وانتشارا كبيرين؛ انسجاما مع التطورات المتسارعة التي عرفتها تقنيات الاتصال في السنوات الأخيرة؛ وقد أسهم في هذا الانتشار على امتداد مناطق مختلفة من العالم؛ السهولة والسرعة التي يتيحها هذا النشر على مستوى الإصدار والتوزيع والمقروئية؛ بصور متعددة تتنوع بين النصوص المكتوبة والمسموعة والمرئية، غير أن هذا التطور رافقته صعوبة ضبط هذا الحقل؛ إن على مستوى إعمال القواعد القانونية المتصلة بحقوق الملكية الفكرية أو ممارسة مهنة الصحافة..
وفي هذا السياق ظهرت المدونات الإلكترونية في منصف التسعينيات من القرن المنصرم بالولايات المتحدة؛ كهواية ووسيلة للتواصل؛ قبل أن تتطور بدورها من حيث الاستعمال والمقروئية والانتشار.
وإذا استحضرنا الإمكانيات المذهلة التي يتيحها الإنترنت في النشر والتواصل بسرعة وبعيدا عن رقابة السلطات؛ وفي غياب قواعد قانونية كافية تؤطر عملياته التي تتطور باستمرار انسجاما مع التطورات التي تشهدها تقنيات الاتصال؛ فإن هذا الحقل يطرح الكثير من الإشكالات التي تقف حجر عثرة أمام تطوره وتنظيمه؛ وتؤثر في مصداقيته في أوساط المتعاملين.
أولا- النشر الإلكتروني وتقنية التدوين
يجد النشر الإلكتروني أساسه في ظهور الكتاب الإلكتروني في بداية التسعينيات من القرن المنصرم؛ وتوافر إمكانية تخزينه ونشره؛ قبل أن يتعزز ويتطور بصورة مذهلة مع توافر شبكة الأنترنت التي سمحت بتوزيع الكتب والمنشورات بأشكال مختلفة وبصور متطورة وفورية؛ ووجود برامج إلكترونية مختلفة؛ تسمح بتصنيف وتحميل المنشورات بسبل مبسطة وسريعة..
ويمكن القول إن هناك مجموعة من الأسباب التي تقف وراء تنامي الاهتمام بالنشر الإلكتروني والإقبال المتزايد عليه؛ فتكلفته متواضعة بالمقارنة مع النشر الورقي؛ ناهيك عن انتشار استعمال الحواسيب على نطاق واسع في المؤسسات والبيوت والمدارس والجامعات.. وظهور الأقراص المدمجة وغيرها من تقنيات التخزين؛ وتزايد الربط بشبكة الأنترنت؛ ووجود مكتبات إلكترونية منافسة للمكتبات التقليدية..
وينطوي النشر الإلكتروني على أهمية كبرى من حيث الإمكانيات الهامة التي يختزنها، فهو يسمح بإتاحة المعطيات والأخبار والمعلومات بأقل تكلفة بالنسبة للناشر أو القارئ؛ ويوفر إمكانية تكبير الشكل المعروضة به أو تقديمها في صورة أنيقة؛ بالإضافة إلى إمكانية تحويلها إلى نصوص مسموعة متاحة لفاقدي البصر.
وعلاوة عن كونه يعتبر صديقا للبيئة من حيث دوره في الحد من مخاطر التلوث الناتج عن تصنيع الورق وتوزيعه؛ وتلافي المشاكل المرتبطة بنقله؛ فإن النشر الإلكتروني يسمح بانتشار المواد المنشورة على نطاق جغرافي واسع وبتجاوز التعقيدات التقنية والإدارية للنشر الورقي؛ وتلافي نفاذ نسخ الكتب والجرائد والمطبوعات من المكتبات والأكشاك؛ لأن المواد الإلكترونية تظل متاحة للجميع في شبكة الأنترنت أو مخزنة في الحاسوب؛ بما يسمح بالاطلاع عليها كل حين.
ومن جهة أخرى؛ يسمح النشر الإلكتروني بالتفاعل المباشر بين المبدعين والقراء من خلال التواصل عبر البريد الإلكتروني أو عبر التعليق على مختلف المواد المنشورة..
وبرغم التطورات التي يشهدها النشر الإلكتروني والامتيازات التي يحفل بها؛ إلا أن هناك مجموعة من التحديات التي تظل تواجه المتعاملين به؛ بالصورة التي تعرقل تطوره وتفقده المصداقية والثقة في أوساط المتعاملين؛ بفعل الفراغ القانوني الذي يعتور هذا الحقل الحيوي في كثير من الحالات.
وهو ما يجعله عرضة للانفلات والانحراف كل حين؛ أمام تطور التكنولوجيا الحديثة واتجاه عدد من المفكرين والباحثين والمبدعين إلى ترويج منتجاتهم المختلفة عبر الوسائط الإلكترونية.
وكامتداد للتطور المذهل الذي شهده النشر الإلكتروني؛ ظهرت المدونات الإلكترونية لأول مرة بالولايات المتحدة الأمريكية خلال منتصف التسعينيات من القرن الماضي (عام 1994).
ويعتبر المدون الأمريكي “جورج بارغر”، هو أول من استعمل مصطلح المدونة سنة 1997، قبل أن تحظى باهتمام فئة محدودة من الشباب؛ لينتشر استخدامها بعد ذلك على نطاق واسع ومكثف في مناطق مختلفة من العالم وفي أوساط اجتماعية مختلفة تضم أكاديميين؛ اقتصاديين؛ زعماء سياسيين؛ صحفيين؛ طلبة؛ فنانين.. في إطار ما سمي ب”ديموقراطية الاتصال”.
والمدونة الإلكترونية هي ترجمة لما يصطلح عليه بالبلوغ Blog؛ والذي هو اختصار لكلمتي Web- Log؛ ويتعلق الأمر بمذكرة إلكترونية شخصية يستعملها صاحبها بلغة أو لغات متعددة لتدوين سيرته ومذكراته اليومية وتجاربه وخواطره وانتقاداته وآرائه وتأملاته وانطباعاته الشخصية.. إزاء قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية.. مختلفة؛ أو لتدوين معلومات وأحداث وأخبار وصور مختلفة؛ وترويجها عبر شبكة الإنترنت من خلال قوالب جاهزة تتيحها الشبكة تسمح بإدارة المحتويات والتحكم فيها وتحيينها عبر مفتاح سري شخصي.
كما تعني اصطلاحا “سجلات الشبكة” وتعرف أيضا على أنها دفتر يوميات إلكتروني، وقد تم الاتفاق عربيا على “مدونة” كتعريب ل Weblog أو [1]Blog.
وقد أسهم في انتشار هذه التقنية كونها وفرت أرضية هائلة للتواصل والتعبير عن الآراء وعن القدرات الإبداعية في مختلف المجالات؛ بعيدا عن التعقيدات الإدارية وعن مختلف وسائل الرقابة الرسمية.
فعلاوة عن وجود قوالب جاهزة تقدمها بعض المواقع المهتمة بهذا الشأن لمرتاديها؛ فإن إطلاق المدونة هي عملية سهلة ولا تتطلب وقتا أو جهدا كبيرا؛ كما أنها لا تحتاج إلى مستوى تعليم جامعي أو إلى دبلوم معين أو إلى تصاريح إدارية أو رساميل أو موظفين أو موزعين؛ بالإضافة إلى إمكانية فتحها بأسماء مستعارة تسمح بمقاربة المواضيع ونشر الأفكار بجرأة؛ بعيدا عن أي إكراه أو ضغط موضوعي أو نفسي..
ولا تقتصر المدونة على نشر النصوص والمقالات والمعلومات؛ بل تجاوزتها إلى تقديم معطيات وأحداث بالصورة والصوت والفيديو(التدوين المرئي)؛ الأمر الذي يجعلها محط اهتمام جمهور عريض من المتتبعين.
ومن جهة أخرى؛ يحرص المدونون على تقديم آرائهم بأسلوب مبسط ومباشر؛ وهو ما يوفر شرطا مهما يسمح بالتفاعل التلقائي مع المرتادين على المدونات بكل مستوياتهم التعليمية والثقافية.
ولإضفاء طابع من الجمالية على المدونات يغري بتصفحها وزيارتها باستمرار؛ يحرص عدد من المدونين على تضمينها لروابط مهمة تحيل على مجلات وجرائد ومواقع متخصصة في مجالات مختلفة(علمية؛ قانونية، اقتصادية؛ صحية؛ فنية؛ تاريخية..).
وأمام هذه الإمكانيات والخدمات التي أصبحت تقدمها المدونات؛ فإن إحداثها لم يعد متوقفا على الأفراد؛ بل تجاوزه إلى هيئات ومؤسسات (مراكز أبحاث، شركات، اتحادات وجمعيات مدنية؛ مجلات؛ جرائد؛ مجموعات شبابية..).
وهو ما جعلها مصدرا مهما للمعلومات والأخبار؛ بل ومكملا للمكتبات ولوسائل الإعلام التقليدية التي لا تتردد أحيانا في العودة إليها – المدونات -؛ كمحاولة منها لتجاوز مختلف مشاكلها التقنية والرقابية.. بل إن هناك من أشار إلى أن هناك معطيات تبشر بالهجرة نحو الإنترنت؛ ودليلهم في ذلك هو تحول مداخيل الإعلانات وصغار السن من القراء نحو الشبكة العنكبوتية[2]..
وقد وفرت المدونات الإلكترونية إمكانات هائلة للتواصل ولتبادل الأفكار والآراء والمعلومات بصدد عدد من القضايا بين مختلف الأشخاص وفي عدة مناطق من العالم؛ بعدما أسهمت في تكسير الحدود الجغرافية والاجتماعية والسياسية بين الدول؛ لتعزز تواصلا أكثر سرعة وتطورا.. بالمقارنة مع قنوات الاتصال الأخرى.
ومكنت التطورات الحاصلة في مجال التدوين من تجاوز احتكار الدول بقنواتها الإعلامية والتربوية والثقافية للمعلومة والأخبار ووسائل التعبير بصفة عامة.. بل إن المدونات أضحت في الواقع منافسا حقيقيا لهذه القنوات؛ وهو ما تؤكده نسبة التردد والمقروئية المتزايدة يوما بعد يوما لعدد من هذه المدونات.
كما أن الإمكانية التي تتيحها المدونات عادة؛ فيما يتعلق بالتعليق على الأخبار والمقالات والدراسات والإبداعات..؛ تسمح أحيانا ببلورة نقاشات فكرية جادة وعميقة تطرح الرأي والرأي الآخر بشكل أكثر وضوحا وجرأة.. وتوفر بذلك الشروط المناسبة لتكريس ثقافة الاختلاف وتطوير الأفكار على درب الخروج بخلاصات هامة بصدد مختلف المواضيع والقضايا..
إن المتتبع لفضاء التدوين يجد أنه أضحى مجالا للنقاش والتواصل والحوار المستمر؛ كما أصبح يتسم بالجرأة؛ ويسهم بشكل ملحوظ في بناء اتجاهات الرأي العام إزاء قضايا مختلفة؛ بل إنه أضحى يمارس نوعا من الرقابة على الإعلام التقليدي إلى حد الإحراج بما يمنعه من حجب المعلومات وتحريف المعطيات أو السكوت عن بعض الأحداث والقضايا[3]..
إن ما يمنح المدونات أهمية في نظر أصحابها أو مرتاديها؛ هو استثمارها لهامش الحرية الذي تتيحه الشبكة العنكبوتية للمعلومات؛ وعدم الخشية من مقص الرقابة الحكومية الذي لم يعد قادرا على التحكم في هذا المجال؛ الأمر الذي يمكنها من طرح مختلف المواضيع والقضايا بجرأة كبيرة.
ويبدو من خلال الوقوف على مواد مختلف المدونات؛ التي تتنوع من حيث مجالات اهتمامها بين رياضية وجامعية وسياسية وأدبية وإعلامية.. أنها تسهم في رواج مجموعة من المعلومات والأفكار والمعطيات العلمية والتقنية والإخبارية.. بسرعة فائقة وبأسلوب مباشر تطبعه الفورية والبساطة.
فالمدون بإمكانه أن يروج لمدونته أو للمواد المدرجة فيها على نطاق واسع؛ من خلال إدراجها ضمن مواقع تتضمن دليلا للمواقع والمدونات أو من خلال إرسال رابطها إلى مجموعات بريدية إلكترونية تضم آلاف الأشخاص.
وإذا كانت المدونات قد استقطبت في بداية ظهورها فئة عريضة من الشباب الذين وجدوا فيه وسيلة للتنفيس والتعبير عن تطلعاتهم وانشغالاتهم وأفكارهم..؛ فإنها نجحت أيضا في جلب فئات عمرية واجتماعية مختلفة إليها.
وأمام هذه الإمكانيات أصبح التدوين يغري العديد من رجال السياسة الذين وظفوه في الترويج لبرامجهم والتواصل مع الجمهور؛ كما لجأت إليه بعض الأحزاب والجمعيات المدنية وبعض الصحفيين الذين وجدوا فيه هامشا أوسع للتعبير عن آرائهم..
وقد ظل الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع يتعامل بنوع من اللامبالاة مع ظاهرة التدوين معتبرا إياها موجة شبابية عابرة فرضها الإنترنت؛ قبل أن تجلب انتباهه بشكل ملحوظ ومثير في السنوات الأخيرة.
ونظرا لحيويته وأهميته في تمكين المدونين من التعبير عن آرائهم بجرأة وصراحة بعيدا عن الرقابة الحكومية؛ لقي التدوين إقبالا واسعا في المنطقة العربية؛ حيث برزت العديد من المدونات التي تهتم بمختلف القضايا والشؤون (ثقافية، علمية، سياسية، اجتماعية، رياضية، فنية، بيئية؛ تاريخية؛ دينية؛ تربوية، شخصية، إبداعية..)، وطرحت مواضيع وقضايا سياسية واجتماعية وشخصية.. ؛ لا تجد طريقها للمتلقي عادة إلا من خلال هذه التقنية بأسلوب مبسط وساخر أحيانا؛ عكس التقنيات التقليدية التي تغلق أحيانا أبوابها أمام طرح عدد من هذه القضايا؛ أو تقاربها في أحسن الأحوال بنوع من التحفظ أحيانا أخرى؛ بالنظر للرقابة الذاتية التي تفرضها على نفسها؛ أو بفعل ضيق هامش التعبير والحريات داخل معظم البلدان العربية[4]..
وهكذا بدأ المدونون يمارسون النقد والاحتجاج وينظمون حملات تضامنية؛ ويطلقون حملات تحسيسية مكنت من الوقوف على مجموعة من القضايا (حملات ضد تهويد القدس، حملات ضد احتلال العراق؛ حملات ضد الرسوم المسيئة للرسول(ص)؛ حملات ضد العدوان الإسرائيلي على غزة 2008- 2009..). كما أسهمت مختلف المدونات في فضح عدد من مظاهر الفساد الإداري والسياسي والتهميش الاجتماعي.. وأكدت نجاعتها في الوصول بتوصياتها ومطالبها وحملاتها إلى صانعي القرار على اختلاف مستوياتهم ومجالات اهتمامهم..
كما اهتم المدونون العرب بقضايا إقليمية ودولية مختلفة من قبيل تداعيات أحداث 11 شتنبر 2001 والملف النووي الإيراني والصراع السياسي في لبنان والصراع الفلسطيني – الفلسطيني والتحولات السياسية والاقتصادية في أوربا..
ووعيا منها بأهمية التدوين؛ بدأت العديد من الهيئات الحقوقية والمنابر الإعلامية والمؤسسات الثقافية..؛ تنظم مسابقات لاختيار أفضل المدونات من حيث البناء الجمالي أو من حيث أهمية الإدراجات؛ وترصد جوائز للمدونين.
إن الأدوار المتزايدة للمدونات في مجالات التواصل والنشر والتأثير؛ لم تخل من مشاكل قانونية؛ ذلك أن عددا من المدونين على امتداد مناطق مختلفة من العالم اعتقلوا أو تعرضوا للمتابعة القضائية والاستنطاق أو شطبت مدوناتهم من شبكة الإنترنت نتيجة لنشرهم لبعض الآراء والمواقف والأخبار..
ثانيا- الإشكالات القانونية التي تثيرها المدونات
إن التطور المذهل الذي طال النشر الإلكتروني بشكل عام؛ والتدوين على وجه الخصوص؛ لم يواكبه التشريع القانوني اللازم لتنظيمه؛ مما ولد فراغا تشريعيا في هذا الشأن وأسهم في تنامي مختلف الجرائم الإلكترونية وسهل سبل ارتكابها.
وتتعدد مرادفات الجريمة الإلكترونية؛ إذ تسمى كذلك بالقرصنة والاختراق والاعتداء الإلكتروني؛ وتحيل إلى جملة من الممارسات المختلفة والمتنوعة المرتبطة ببعض ما تتيحه تكنولوجيا المعلومات والاتصال من أفعال اختراق للأجهزة والأنظمة الإلكترونية التابعة للأفراد والمؤسسات[5].
وبالمقارنة مع مختلف الجرائم العادية الأخرى؛ فإن الجريمة الإلكترونية تنطوي على تعقيدات كبيرة إن على مستوى ارتكابها وضبطها وإثباتها وتأطيرها قانونيا.
وهو ما يخلق حالة من الانفلات في هذا الصدد؛ وبخاصة على مستوى الاعتداء على الملكية الفكرية أو عدم احترام ضوابط وأخلاقيات مهنة الصحافة.
فإذا استحضرنا الإمكانيات المذهلة التي يتيحها الإنترنت في النشر والتواصل بسرعة وبعيدا عن رقابة السلطات[6]؛ وفي غياب قواعد قانونية كافية تؤطر عملياته التي تتطور باستمرار انسجاما مع التطورات المتسارعة التي تشهدها تقنيات الاتصال؛ وما يرافق ذلك أيضا من افتقار غالبية المدونين لمقومات العمل الصحفي الاحترافي؛ فإن هذا التطور أفرز مجموعة من المشاكل؛ من حيث تجاوز الخطوط الحمراء التي تفرضها بعض المجتمعات والأنظمة في بعدها القانوني والاجتماعي؛ ذلك أن شبكة الإنترنت أتاحت لأي شخص كيفما كان مستواه المعرفي والأكاديمي أن ينشئ مدونة إلكترونية؛ كما أن إحداث مدونات بأسماء مستعارة كسبيل لتجاوز ضغط السلطات ورقابتها؛ يقلص من إمكانية التحكم في مآل التدوين؛ ويجعل من انحرافه أمرا واردا كل حين.
وبخاصة وأن هذه الإمكانية وإن كانت توفر الجرأة لمقاربة مختلف القضايا بموضوعية؛ فهي تسمح أيضا بنشر أي شيء (معلومات خاطئة أو تافهة؛ مواضيع وصور تمس بالآداب العامة، مقالات تتضمن السب والقذف والتجريح في حق الغير..)؛ طالما أن أصحابها سيظلون مجهولين وخارج أي متابعة أو مساءلة قانونية.
ناهيك عن إمكانية انتحال أسماء أشخاص آخرين؛ وإنشاء مدونات باسمهم أو نشر مقالات وآراء وكتابات باسمهم؛ الأمر الذي يعتبر إساءة وعملا يتنافى مع أخلاقيات مهنة الصحافة.
وبرغم المحاولات التي تقوم بها بعض الدول على مستوى فرض رقابة على شبكة الأنترنت؛ وبخاصة فيما يتعلق بمنع الولوج إلى بعض المواقع والمدونات الإلكترونية؛ فإن التطور المذهل الحاصل في تكنولوجيا الاتصال يحد من فعالية هذه الرقابة ويجعلها في كثير من الأحيان غير ذات جدوى.
وقد شهد المغرب في السنوات الأخيرة نقاشا تشريعيا وسياسيا مكثفا حول إصلاح حقل الصحافة؛ بما ينسجم مع المعايير الدولية لحرية الإعلام ويساير التطور التكنولوجي الحاصل في هذا الشأن[7]؛ وبخاصة وأن إعمال قانون الصحافة في صيغته الحالية على الصحافة الإلكترونية سواء التي تجسدها المواقع أو المدونات الإلكترونية يفتقد إلى الملاءمة.
ويعتبر قانون رقم 00.77 المراجع بموجب الظهير الشريف رقم 378.58.1 هو الإطار المرجعي لتنظيم مهنة الصحافة بالمغرب؛ حيث وضع لها ضمانات أساسية متعلقة بحرية الرأي والتعبير في ممارسة المهنة؛ وأخضعها أيضا لمجموعة من الشروط المرتبطة بالحفاظ على “النظام العام واحترام المقدسات”.
وفي هذا السياق نجد الفصل السابع عشر من هذا القانون؛ يشير إلى أنه: “يجب على الكتاب الذين يستعملون اسما مستعارا أن يبينوا كتابة إلى مدير النشر أسماءهم الحقيقية وذلك قبل نشر مقالاتهم”، ويضيف بأنه “في حالة تحريك متابعة ضد صاحب مقال غير موقع أو يحمل توقيعا مستعارا؛ يكون المدير غير مقيد بالسر المهني إذا ما طلب منه وكيل الملك إطلاعه على الهوية الحقيقية لصاحب المقال..”.
وهنا نتساءل: كيف يمكن إعمال مقتضيات هذه المادة على المدونين الذين يفتحون مدونات إلكترونية بأسماء مستعارة؛ ويكونون بمثابة المتحكمين لوحدهم في مضمون المدونة وإدارة موادها؟
كما حاول هذا القانون أيضا مواجهة جرائم القذف والسب التي تتم عبر مختلف الوسائط الإلكترونية بعقوبات صارمة (الفصل 51 من نفس القانون)؛ غير أن الإشكال الذي يطرح في هذا الشأن؛ هو صعوبة الإثبات في كثير من الأحيان؛ وبخاصة وأنه يمكن التخلص بسرعة من المواد المنشورة المتضمنة لهذا السب والقذف وإخفائها؛ كما أن الأمر يزداد صعوبة مع وجود مواقع ومدونات بأسماء مستعارة أو بريد إلكتروني لا يحمل اسم صاحبه..
ويطرح نفس المشكل مع “نشر ادعاءات أو وقائع أو صور تمس بالحياة الخاصة للغير” التي خص لها نفس القانون عقوبات صارمة (الفصل 51 مكرر) أو “نشر أغاني أو خطبا تتنافى والأخلاق والآداب العامة أو يحرض على الفساد أو كل من يقوم بنشر إعلان أو مراسلة من هذا القبيل كيفما كانت عباراتها”(الفصل 60 و64 من نفس القانون).
بحيث يظل التدبير المتاح هو حجب المدونة؛ دون التمكن من الوصول إلى صاحبها في حالة ارتكابه لإحدى الجرائم المشار إليها.
ومن جهة أخرى؛ ونتيجة للإقبال الشديد على شبكة الأنترنت التي أصبحت تزخر بكم هائل من المعلومات والكتب والأخبار والصور؛ التي يعتمد عليها الكتاب والمؤلفون والإعلاميون في أبحاثهم ودراساتهم ومقالاتهم..؛ تزايدت وتيرة السرقات الفكرية في السنوات الأخيرة.
وقد أسهمت التطورات التي لحقت شبكة الإنترنت؛ في تسهيل عمليات وتقنيات هذه السرقات من جهة؛ وصعبت من مأمورية المقاربة القانونية في هذا الشأن من جهة أخرى.
ومعلوم أن السرقات الفكرية بكل أنواعها؛ هي سلوكات مشينة تنطوي على استعمال حقوق الملكية الفكرية للغير على نحو غير مشروع؛ وممارسات غير قانونية تجرمها مختلف التشريعات الوطنية؛ والاتفاقيات الدولية؛ كما أنها سلوكات لا أخلاقية تهدد الابتكار والإبداع وتتنافى مع أبسط الحقوق التي كفلتها التشريعات المحلية والدولية للإنسان(الفقرة الثانية من المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)[8].
وفي هذا الإطار؛ نجد الكثير من المدونين ينشرون أخبار ودراسات ومقالات وصور.. في مدوناتهم الإلكترونية بعد نقلها من مجلات وكتب وجرائد ومواقع أخرى دون الإشارة إلى مصادرها، بل هناك من يقوم بسرقة مقالات أو دراسات أو جزء منها وينشرها باسمه.
ومعلوم أن جمود القوانين وعدم مسايرتها لتطور وسائل هذه القرصنة المعتمدة على تطور التكنولوجيا الحديثة، ناهيك عن قلة الوعي والخبرة في هذا المجال..؛ يسهم في تنامي هذه الظاهرة.
وأمام هذه الوضعية؛ تظل الحاجة ماسة إلى تحديث القوانين بما يتلاءم وحجم الانتهاكات الحاصلة؛ فبعضها ضعيف ويتضمن ثغرات والآخر لا يواكب التطور ويعاني من قصور أو خلل في التطبيق أو تساهل في العقوبات وهو ما يلقي بظلاله على النمو الاقتصادي وحركة الإبداع..”[9].
ويشير البعض[10] إلى “أن ردود الفعل حول مسائل حماية الملكية الفكرية يتخذ موقفين أساسيين:
1- موقف أول يمكن وصفه بالموقف الصارم؛ إذ يرفض مبدأ السرقة الإلكترونية بمختلف أشكالها؛ سواء تعلق الأمر بالبرمجيات أو الموسيقى أو الأعمال الفنية والأدبية؛ معتبرا ذلك استباحة لا أخلاقية لمسار إعمال الفكر والإبداع الإنساني معرقلا له.
2- موقف مرن؛ وإن كان يجرم من حيث المبدأ أمر السرقة الفكرية والفنية والأدبية؛ فإنه لا يرى مانعا في خضوع الأمر إلى بعض الاستثناءات؛ من خلال إباحة بعض أشكالها ولا سيما المتعلق منها بالبرمجيات الحاسوبية”.
إن التحولات المتسارعة في حقل الاتصال والمعلوميات ومختلف الوسائط الإلكترونية؛ أصبحت تفرض بصورة ملحة تكييف وملاءمة التشريعات والقوانين المرتبطة بالنشر الإلكتروني؛ بالصورة التي تسمح بسد الفراغ الحاصل في هذا الشأن؛ وتجريم مختلف الأفعال التي تمس المتعاملين.. بما يعطي المصداقية لهذا النشر في أوساط مستعمليه. ويحول دون تحوله إلى سلاح عكسي؛ يكرس الفوضى والصراع والميوعة والتعتيم والاعتداء على حريات وحرمات الآخرين..
والأمر لا ينبغي أن ينتهي عند هذا الحد؛ بل يفترض تطوير قدرات وخبرات مختلف الفاعلين القضائيين في هذا المجال (محامين؛ قضاة؛ موثقين؛ ضباط الشرطة القضائية..)؛ حتى يكتسبون رصيدا من المعلومات والمعطيات في هذا المجال تسمح لهم بالمساهمة في حل مختلف الإشكالات المرتبطة بالنشر الإلكتروني.
ويعد تنظيم ندوات ومؤتمرات مرتبطة بهذا الخصوص أمرا هاما؛ على اعتبار أنه سيسمح بمناقشة الموضوع ومقاربته من مختلف الزوايا وطرح آخر النتائج والاجتهادات التي يمكن أن تفيد المشرع في هذا الشأن؛ وتسمح الوقوف على مختلف المشاكل والتحديات التي تواجه النشر الإلكتروني بشكل عام والتدوين على وجه الخصوص.
ومن جهة أخرى؛ يمكن لاتحادات المدونين الوطنية والإقليمية والدولية أن تسهم بصورة فعالة في وضع مبادئ واتفاقات؛ تنظم وتؤطر حقل التدوين الذي يزداد إشعاعا وإقبالا؛ على طريق التنسيق والتواصل والتعاون بين مختلف المدونين (باحثين، مفكرين، علماء، مبدعين، طلبة؛ مهنيين..) وتأسيس عمل تدويني جاد ومنظم.
وفي هذا السياق طرح “استيفان فرانكلين”Stephen franklin من المركز الدولي للصحفيين؛ مجموعة من الخطوات على طريق تعزيز الصحافة الشعبية على الإنترنت؛ من خلال دليل مختصر للمدونين والصحفيين الإلكترونيين، قام بكتابته في عام 2007؛ ويكتسي أهمية كبرى؛ فهو يؤكد على الخصوصية التي تطبع حقوق الإنسان بالنسبة لكل بلد؛ الأمر الذي يتطلب استحضاره عند مقاربة بعض القضايا والمواضيع بعيدا عن التسرع وإطلاق الإشاعات والقذف والتشهير، مع توخي الدقة في الأخبار والمعلومات والاعتماد في ذلك على مصادر موثوق بها وبكيفية مشروعة، وعدم التطاول على حقوق الملكية الفكرية[11]..
فإذا كان المدونون بحاجة إلى المحافظة على هامش الحرية التي أتاحتها شبكة الإنترنت في السنوات الأخيرة ودعم مجهوداتهم وتثمينها؛ وحمايتهم من الاعتقالات التعسفية أو حجب مدوناتهم؛ وتشجيع مبادراتهم على طريق بلورة رسالة اجتماعية (تربوية، تعليمية، إعلامية.؛ فكرية..) بناءة؛ فإن التدوين يظل بدوره بحاجة إلى قواعد سلوك قانونية تؤطر عمله.
[1] – جمال الزرن: المدونات الإلكترونية و”سلطة التدوين”؛ مجلة شؤون عربية؛ الأمانة العامة لجامعة الدول العربية؛ العدد 130 صيف 2007؛ ص 163
[2] – ديانا مقلد: هل المدون.. صحافي؟ الشرق الأوسط؛ بتاريخ 27 ذو الحجة 1429هـ الموافق 25 ديسمبر 2008؛ العدد 10985
[3] – إدريس لكريني: المدونات الإلكترونية؛ من التواصل إلى الضغط؛ ورقة قدمت خلال أشغال مؤتمر تقنيات الاتصال والتغير الاجتماعي جامعة الملك سعود؛ قسم الإعلام؛ الرياض؛ 18 20 /3/ 1430هـ 1517 /3/ 2009 م
[4] – إدريس لكريني: المدونات العربية وقضايا المجتمع؛ القدس العربي، لندن؛ العدد 5898 بتاريخ الأربعاء 21 أيار –مايو 2008 الموافق 16 جمادى الأولى 1429 هـ
[5] – عائشة التايب: الثورة الرقمية المضادة: مقاربة سوسيولوجية لجرائم الفضاء الإلكتروني؛ مجلة إضافات؛ العدد الأول؛ شتاء 2008؛ ص 145
[6] – تشير الباحثة في مجال التدوين “ريبيكا بلود” إلى أن أعظم نقاط القوة للمدونة – كونها صوت حر بلا رقابة ولا تدخل من أحد- هي أيضا أعظم نقاط ضعفها. انظر ذلك ضمن المدونة الإلكترونية للباحثة http://www.rebeccablood.net
[7] – يشار إلى أن المغرب أصدر القانون رقم 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية.
[8] – إدريس لكريني: انتكاس المنهجية في بناء المعرفة؛ العرب الأسبوعي؛ لندن؛ بتاريخ 22 غشت 2009
[9] – علي حسين باكير: الملكية الفكرية في الوطن العربي والتطور الاقتصادي؛ الموقع الإلكتروني لمنبر الحرية:
http://www.minbaralhurriyya.org/
[10] – عائشة التايب: الثورة الرقمية المضادة: مقاربة سوسيولوجية لجرائم الفضاء الإلكتروني؛ مرجع سابق؛ ص 151
[11] – عشر خطوات نحو الصحافة الشعبية على الإنترنت؛ الموقع الإلكتروني للمبادرة العربية لإنترنت حر(الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان):
بحث قانوني و دراسة حول الإشكالات القانونية التي يثيرها النشر الإلكتروني