إثارة الفتن … تهمة فضفاضة و وسيلة لترسيخ الإستبداد
النظم السياسية المستبدة التي تملأ منطقتنا العربية، انتقلت من مرحلة الديكتاتورية الكاملة والصريحة إلى مرحلة الاستبداد المستتر بالقانون والتشريعات، هذا القانون الذي يصاغ بعقلية فاشية متسلطة لا تحترم الخلاف والتعددية وتداول السلطة، وتوافق عليه مجالس تشريعية منتخبة بالتزوير، وفي النهاية نجد أنفسنا أمام ترسانة قانونية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، فهي ديمقراطية في الشكل وديكتاتورية في الجوهر والمضمون.
فالنظام السياسي الديكتاتوري يريد أن يبقى في السلطة إلى أبد الآبدين، ولذلك فإنه يعمل دائمًا على تجريم ومحاصرة وإدانة أي تحرك شعبي يدفع في اتجاه التغيير السياسي والاجتماعي ويعمل على التحرك المنظم في المجتمع، ومن ذلك أنه يستخدم تعبير “إثارة الفتن والفوضى” كتهمة فضفاضة يتم وضعها لكي تناسب مقاسات مختلفة، وتنطبق على معظم الناشطين الذين يرهقون النظام ويعكرون صفو قادته ورموزه وأركانه.
وتنص المادة 98 فقرة (و) من قانون العقوبات المصري، والتي أضيفت بموجب القانون رقم 29 لسنة 1982م، علي أن يعاقب بالحبس مدة لا يقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج، أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخري لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة، أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية، أو الطوائف المنتمية إليها، أو الإضرار بالوحدة الوطنية، أو بالسلام الاجتماعي.
ولأن تهم مثل “إثارة الفتن” و”ازدراء الأديان” تهم فضفاضة وغير محددة، فإن جهات عديدة يمكنها استخدامها استخدامًا سيئًا، وعلى سبيل المثال فقد استغل متطرفو النصارى ظهور كتاب “فتنة التكفير” وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وتقدموا ببلاغات متعددة للنائب العام بدعوى أن الكتاب يعمل علي إثارة الفتن الطائفية ويؤججها بين الأقباط والمسلمين، كما أنه يزدري المسيحية والمسيحيين ويهدد وحدة البلاد ويكدر الأمن والسلام الاجتماعي، وهو ما يعاقب عليه بالمادة 98 مكرر من قانون العقوبات، رغم أن الكتاب لا صلة له بالأديان الأخرى غير الإسلام؛ وإنما يدور حول رفض فكرة تكفير المسلمين لبعضهم البعض نتيجة اختلاف المذاهب.
وبعد تعديل الدستور المصري لكي يلبي تطلعات الحكام الحاليين، وبعد تعديل قانون القضاة وإلغاء إشرافهم علي الانتخابات، يتجه النظام المصري لإلغاء قانون الطوارئ واستبداله بقانون الإرهاب، وفوجئ الجميع ببعض مواد قانون الإرهاب الجديد التي تؤكد أنه سيكون قانونًا بشعًا بغيضًا يفتش في النوايا ويستخدم ألفاظًا وعبارات مطاطة تجعل من يتكلم فقط يقع تحت طائلة التحريض، وبالتالي يحاسب جنائيًّا مثله مثل من خطط ودبر ونفذ.
المادة الأولى من الأحكام العامة تقول:
“يقصد بالعمل الإرهابي كل استخدام للقوة أو العنف أو التلويح باستخدامه، وكل تهديد أو ترويع أو تخويف، يلجأ إليه الإرهابي، أو المنظمة الإرهابية بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمنه أو أمن المجتمع الدولي للخطر، إذا كان من شأنه إيذاء الأشخاص أو ترويعهم أو تخويفهم، أو إلقاء الرعب بينهم أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو حقوقهم العامة أو أمنهم للخطر، أو إلحاق الضرر بالبيئة، أو الموارد الطبيعية أو الآثار أو بالأموال أو بالمباني أو بالأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها، أو منع أو عرقلة ممارسة السلطات العامة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية أو مصالح الحكومة أو الوحدات المحلية، أو البعثات الدبلوماسية والقنصلية، أو المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية في مصر من ممارسة كل أو بعض أوجه نشاطها، أو منع أو عرقلة قيام دور العبادة أو مؤسسات ومعاهد العلم بأعمالها، أو تعطيل تطبيق أي من أحكام الدستور أو القوانين أو اللوائح، وكذلك كل سلوك يرتكب بهدف الإضرار بالاتصالات أو بالنظم المعلوماتية أو بالنظم المالية أو البنكية، أو بالاقتصاد الوطني أو بمخزون الطاقة أو بالمخزون الأمني من السلع والمواد الغذائية والمياه أو بالخدمات الطبية في الكوارث والأزمات”.
أما المادة السادسة فتقول:
“يعتبر التحريض علي ارتكاب الجريمة الإرهابية التي لم تقع بناء عليه، جريمة معاقبًا عليها بالعقوبات المقررة لها، سواء كان التحريض موجهًا لشخص محدد أو جماعة معينة أو كان تحريضًا عامًا، بأي وسيلة من الوسائل علنية أو غير علنية، كما يعتبر الاتفاق علي ارتكاب الجريمة الإرهابية التي لم تقع، أو المساعدة فيها، جريمة معاقبًا عليها بالعقوبة المقررة لها”.
والمادة الساسة: هي أخطر مواد قانون الإرهاب حيث أنها غير محددة ومطاطة، فتهمة “التحريض” يمكن أن يحاكم على أساسها الإعلامي، وأن يجد نفسه يحاكم مع الإرهابي بتهمة النشر والتحريض، ونفس الأمر ينطبق علي المعارضين للنظام، فكل من يضايق النظام سيكون محرض علي إثارة الفتن والقلاقل.
كما سيتم بهذا القانون المشبوه تقنين الاستثناءات، وجعل عمليات تصفية واعتقال الأفراد المشاغبين والمعارضين تتم في سهولة ويسر، بلا استشكالات أو استئنافات أو طعون.
وإذا كانت مقاومة الاستبداد عن طريق المظاهرة والمؤتمر والندوة والإضراب والاعتصام، أمر يقره القانون طالما اتخذ الشكل السلمي غير العنيف، فإن الشريعة الإسلامية أعطت المسلم حق مقاومة الظلم والظالمين، فتحدث القرآن الكريم عن الظلم ووصفه وصفًا دقيقًا للتحذير منه، وبين صفات الظالمين وكيف يُعْرَفون، وما يكون به الظلم وما يكون به العدل، وبيّن جزاء الظالمين في الدنيا ومصيرهم في الآخرة.
فنهى الإسلام عن الركون إلى الظالمين وأمر بمقاطعتهم؛ لأن في ذلك إضعافًا لهم وحماية للنفس من التأثر بهم، قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113].
والركون إلى الظالمين يتحقق بأشكال منها السكوت عنهم وعدم الإنكار عليهم، فمن العدل أن يحل العذاب على الراكنين لمخالطتهم الظلام ومصاحبتهم؛ لأنهم سكتوا عن إنكار منكرهم، وفي ذلك تشجيع لهم، يقول تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
ومع مقاطعة الظالمين يجب كذلك عدم الاغترار بوعودهم، يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً} [فاطر:40]؛ بينما المؤمنون الصالحون يدعون ربهم أن يبعدهم عن الظالمين يقول تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47].
وهكذا، فإن محاربة الظالمين ونصرة المظلومين، واجب على كل المسلمين في المجتمع، وإن لم يتأذوا بذواتهم منهم، من باب وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأن المجتمع إذا ترك هذا الواجب انتشر فيه الفساد وعم، وذلك من موجبات العقاب الجماعي للطالحين والصالحين.
أما الطالحون فلذنوبهم، وأما الصالحون فلتقصيرهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) [رواه أبو داود، (4340)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (4338)]، وروي عنه كذلك: (إذا رأيتم أمتي لا تقول للظالم أنت ظالم فقد تودع منهم) [رواه البيهقي في شعب الإيمان، (7546)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (1514)].
إثارة الفتن … تهمة فضفاضة ووسيلة لترسيخ الإستبداد – مقال قانوني هام