النيابة العامة لدى محكمة الإرهاب وتشريعات الإرهاب بين الدستور والقانون وضمانات حق الدفاع

اعادة نشر بواسطة لويرزبوك

مواضيع قانونية سورية – مشاركة لـ  Haytham Nourie

ورد في الصفحة 153 من مجلد أصول المحاكمات الجزائية للعلامة و الفقيه المرحوم الدكتور عبد الوهاب حومد وفي معرض تعريفه للنيابة العامة ومهامها ما يلي :
((النيابة العامة جهاز مستقل من أجهزة القضاء، مهمتها ممارسة الخصومة الجزائية، باسم المجتمع، وواجبها البحث عن الحقيقة، وليس السعي لإدانة المتهم، إذا لم تقتنع بمسئوليته، لأنها ليست خصماً شخصياً له، وإنما هي خصم شكلي فقط.
و يترتب على هذا، أن تتصرف كما يتصرف الحارس الشريف، في حدود الحق وقواعد إثباته، فليس المهم أن تظفر بصدور حكم إدانة من المحكمة، ولكن واجبها أن تسعى للحصول على حكم يضرب مجرماً حقاً، وينقذ بريئاً )).
يتابع الدكتور حومد وفي الصفحة 174 من مجلده المذكور فيقول :
(( إن أنبل مهمات النيابة العامة، السعي إلى الوصول إلى الحقيقة، لذلك وجب ألا تكون مرتبطة بمطالباتها السابقة، التي قدمتها إلى المحكمة ودافعت عنها، وحصلت منها على الحكم الذي صدر وفقاً للمطالبة. فإنه على الرغم من اقتناع المحكمة برأي النيابة العامة و إصدار القرار وفقاً له، يجوز لها أن تعود فتطعن في القرار الصادر وفقاً لرأيها.
قد يبدو هذا المبدأ غريباً، لأنه مخالف للمبدأ القائل بأنه لا يحق لأحد أن يطعن في حكم لم يلحق به ضرراً، لأنه صدر ملبياً لطلباته، إلا أن قبول المبدأ ضروري لمصلحة العدالة نفسها ذلك أنه لا يجوز أن تعجز النيابة العامة عن المطالبة بإصلاح خطأ أو ظلم اكتشفته فيما بعد، و أنها ما دامت حارسة للقانون وخصومتها للمتهم خصومة عامة – شكلية – اقتضتها مصلحة المجتمع، وليست خصومة شخصية، فإن على ممثلها أن يعود إلى طريق الحق، حين يكتشفه)).

وفي التأكيد على أنه، ومن حيث المبدأ، فإن النيابة حرة في إقامة الدعوى العامة أو عدم إقامتها يقول الدكتور حومد في الصفحة 180 من مجلده المذكور ما يلي :
(( توجد نصوص في القانون /أي أصول المحاكمات الجزائية/ تشير بصورة قاطعة إلى حرية النيابة العامة في إقامة الدعوى أو عدم إقامتها، ومن هذه النصوص الصريحة الفقرة الرابعة من المادة 51 التي تنص : “وللنائب العام أيضاً أن يحفظ الأوراق إذا اتضح له منها أن الفعل لا يؤلف جرماً أو لا دليل عليه ” و الفقرة الأولى من المادة 58 التي تنص: “للنائب العام أن يودع قاضي التحقيق الشكاوى التي تقدم إليه …” و المادة 67 التي تنص على أنه ” إذا وجد النائب العام أن الشكوى غير واضحة أو أن الأوراق لا تؤيدها بصورة غير كافية فله أن يطلب إلى قاضي التحقيق مباشرة التحقيق لمعرفة الفاعل” … فهذه اللام التخيرية تترك للنيابة العامة حرية التقدير، و قد جاءت المادة 58 من قانون السلطة القضائية لتؤكد هذه الحرية، لذلك كان مبدأ حرية النيابة العامة هو المبدأ الذي تبناه تشريعنا)))) .

بناءً على ما ذكر أعلاه ولأن واجب النيابة العامة (حارس العدالة الشريف) الأسمى هو تحقيق العدالة و السهر على تطبيقها ولأن لها من حيث المبدأ الحرية في إقامة الدعوى العامة أو عدم إقامتها، فقد اختصت المادة (112) من الدستور السوري الصادر في العام 1950 النيابة العامة، و بعد تعريفها، بهذه المسئولية السامية و المقدسة بقولها :
(( النيابة العامة “هي التي تحرس العدالة ” وتسهر على تطبيق القوانين وتلاحق مخالفيها و تنفذ الأحكام الجزائية )) .
و كذلك كان النص الحرفي للفقرة الثانية من المادة (110) من الدستور السوري الصادر بتاريخ (25/3/1953).
إلا أنه وللأسف فقد جرى لاحقاً إغفال النص المذكور من نصوص الدساتير السورية اللاحقة والتي كان آخرها الدستور السوري الصادر في العام 2012 الذي اكتفى فقط في المادة 137 منه، و كما هو الحال أيضاً في المادة 137 من الدستور الصادر في العام 1973، بتعريف النيابة العامة بقوله :
(( النيابة العامة مؤسسة قضائية واحدة يرأسها وزير العدل، وينظم القانون وظيفتها واختصاصاتها))
بالتالي فقد اعترى المادة 137 من الدستور الصادر بالعام 2012 عوراً تشريعياً بإغفالها تعريف اختصاص النيابة العامة ومهمتهما الأساسية ودورها الأسمى في الدولة والمجتمع والعدالة، إذ أن النص يجب أن لا يكون قاصراً على التعريف بل يجب أن يبين وبفقرة مستقلة المهام والاختصاص كما هو الحال في الدستور السوري الصادر بالعام 1950 و 1953 كي يؤكد على حرص المشرع الواضع للدستور على تطبيق العدالة والواجب الملقى على عاتق النيابة في حراستها وضمان تطبيقها من جهة، و لكي يتذكر كل قاض نيابة عامة أن مهمته الرئيسة ليست مجرد تحريك للإدعاء بل الحرص على العدالة والتقصي الحثيث لها قبل تحريكه للدعوى العامة من جهة أخرى .

نعود الآن للصفحة 183 من مجلد أصول المحاكمات الجزائية للمرحوم الدكتور عبد الوهاب حومد، التي جاء فيها ما يلي :
(( يجب أن نعلم أن توجيه التهمة “إقامة الدعوى الجزائية” إلى شخص ما، أمر في منتهى الخطورة، لأنه يعتبر بدأ ً لمرحلة هامة جداً. ذلك أنه انطلاقاً من هذه الإقامة، يصبح من الجائز لقاضي التحقيق، اتخاذ إجراءات تمس الحرية الشخصية كتوقيف المدعى عليه وتفتيش بيته والقبض عليه واستجوابه )).
وبما أن الاختصاص الأساس في إقامة الدعوى العامة و تحريكها يعود للنيابة العامة سواءً من قبلها لوحدها بصفتها ممثلةً للحق العام، أم تبعاً للادعاء الشخصي.

وعليه،،،،، فإذا كانت من أولى مهام النيابة العامة السهر على تحقيق العدالة وضمانها كما بينا سابقاً، وكما ورد أيضاً في مطلع الفقرة الأولى من المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية: (( يراقب النائب العام سير العدالة ….الخ)).
بالتالي فإن من مقتضيات العدالة وحقوق الدفاع وبالأخص في الجرائم الجنائية الوصف أن (يستجوب) قاضي النيابة العامة المتهم، استجلاءً للحقيقة أولاً، ولمعرفة وتقصي ملابسات الجرم و طبيعته ثانياً، والتحقق من الأدلة ثالثاً، وضماناً لحقوق المتهم في الدفاع رابعاً، ولكي لا يعتر إجراءات التحقيق والمحاكمة أي نوع من أنواع البطلان مهما كان خامساً، و جميع ما ذكر هو لضرورات و مقتضيات الغاية الأسمى و الأعلى ألا وهي العدالة، و هذا ما نصت عليه الفقرة الثالثة من المادة (37) من قانون أصول المحاكمات الجزائية بقولها : (( يستجوب النائب العام في الحال الشخص المحضر لديه)).

الآن و بعد كافة ما ذكره أعلاه، و بما أن الجرائم المنصوص عنها في قانون مكافحة الإرهاب الصادر بالقانون رقم (19 لعام 2012) هي من الجرائم الجنائية الوصف، فإنه من الضروري بمكان وحرصاً على مقتضيات العدالة أن تقوم النيابة العامة لدى محكمة الإرهاب باستجواب المتهمين الموقوفين والمحالين أمامها بتهم تتعلق بالإرهاب قبل أن تقوم بتحريك الدعوى العامة بحقهم بالجرائم المنسوبة إليهم، و ليس لها أن تكتفي بما ورد في الضبوط الأمنية من تحقيقات وحتى من اعترافات كونها لم تجر أمامها ومن المشكك بصحة آلية وطريقة الاستحصال عليها والتي ” تكون في غالبها نتيجة الضغط أو التعذيب أو الإكراه” .

و قد يقول قائل إن نص المادة (7) من قانون إحداث المحاكم الناظرة بقضايا الإرهاب رقم (22 لعام 2012) قد نص على أن (( المحكمة لا تتقيد بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة و ذلك في جميع أدوار و إجراءات الملاحقة و المحاكمة)) بالتالي فإن قضية الاستجواب من عدمها لا تشمل قضايا الإرهاب وأصول الملاحقة وتحريك الدعوى العامة لدى محكمة الإرهاب.

إن الرد على ما ذكر يكمن في أن عدم قيام النيابة العامة لدى محكمة الارهاب باستجواب المتهمين بالقضايا والتهم المحالة أمامها والتي هي بحد ذاتها جنائية الوصف فيه مخالفة للفقرات (2 و 3) من المادة (51)، و الفقرة (2) من المادة (53) من الدستور السوري الحالي الصادر في العام 2012، فالفقرة الثانية من المادة (52) تنص على أن : ((كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم في / محاكمة عادلة / ))، وبكل بداهة فإنه من مقتضيات / المحاكمة العادلة / حق المتهم بأي جريمة جنائية الوصف في استجوابه وإبداء أقواله أمام النيابة العامة قبل تحريك الدعوى العامة بحقه، كما أن الفقرة الثالثة من ذات المادة من الدستور قد نصت على أن : (( حق التقاضي وسلوك سبل الطعن و المراجعة و / الدفاع / أمام القضاء مصون بالقانون ))، و بكل بداهة أيضاً فإن من مقتضيات / الدفاع / المصان بالدستور، هو حق المتهم باستجوابه وسماع أوجه دفاعه وأقواله أمام النيابة العامة قبل تحريك الدعوى العامة بحقه من قبلها، فإذا ثبت مثلاً لقاضي النيابة أن اعترافات المتهم الماثل أمامه والواردة في محاضر الضبوط الأمنية كانت نتيجة للضرب والتعذيب والإكراه، أو غير مؤيدة بأي دليل مادي من شأنه أن يثبت الجرم المنسوب إليه، قرر تركه و حفظ الدعوى العامة بحقه لأنه وسنداً لأحكام الفقرة (2) من المادة (53) من الدستور الحالي (( لا يجوز تعذيب أحد أو معاملته معاملة مهينة، و يحدد القانون عقاب من يفعل ذلك )) .
كما أن حق الدفاع نص عليه صراحةً الشطر الأول من المادة السابعة من القانون رقم 22 لعـ2012ـام القاضي بإحداث المحاكم الناظرة بقضايا الإرهاب بقوله: (( مع الاحتفاظ بحق الدفاع……… لا تتقيد المحكمة بالأصول المنصوص عنها في التشريعات النافذة وذلك في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والمحاكمة ))، وإن من قتضيات وأساسيات حق الدفاع الذي نص عليه الشطر الأول من تلك المادة أن يتم استجواب المتهم أمام النيابة العامة لدى محكمة الإرهاب قبل تحريك الدعوى العامة بحقه، لا أن تقوم النيابة العامة بتحريك الدعوى العامة على مجرد الأوراق سيما وأننا أمام جرم جنائي الوصف.

إلا أن الخلاصة والنتيجة فيما ذكر أعلاه فإن نص المادة (7) من قانون إحداث المحاكم الناظرة بقضايا الإرهاب رقم (22 لعام 2012) هو عملياً نص مخالف لأحكام الدستور ومن الواجب إلغاءه لأنه ينتقص من حق الدفاع وإجراءات المحاكمة العادلة التي أوجب الدستور ضمانها و مراعاتها بنصوصه الواضحة و الصريحة بهذا الصدد دون أي استثناء، إذ لا يجوز في الأصل : (( لأي نص أن يحجب عن المواطن حق التقاضي لأنه يتنافى و أحكام الدستور … الهيئة العامة لمحكمة النقض قرار 185 أساس 44 تاريخ 1996/6/14 منشور في مجلة المحامون لعام 2002 ص 447))، كما أنه : (( إذا كان اعتراف طالب المخاصمة في الضبط كان بالضغط و الشدة وقد ثبت بالتقرير الطبي إصابته بذلك و تراجعه عن اعترافه كل ذلك يجعل التهمة المسندة إليه بدون دليل يؤيدها وإذا كان الأمر كذلك فإن المحكمة قد أخطأت في إثبات الاتهام من حيث لا دليل يؤيدها و في هذا مخالفة للحدود الدنيا للمبادئ الأساسية في علم الإجرام و الأصول الجزائية … قرار غرفة الهيئة العامة لدى محكمة النقض/ مخاصمة/ رقم 208 أساس 389 تاريخ 1999/6/28 غير منشور)).

و خلاصة القول … يجب على المشرع أن يعيد النظر في تشريعات الإرهاب بأن يضع تشريعاً لا يتناقض في مندرجاته مع القواعد الأسمى المنصوص عليها في الدستور وأن تكون مؤسسة على القواعد العامة في العدالة وأن تفعّـل مؤسسة الاستجواب و تتقصى و تتحرى حقيقة الجرم المسند إلى المتهم المحال أمامها والآلية والطريقة التي مورست عليه حين الاعتراف وحقيقة الأدلة المساقة بحقه وطبيعتها، فالنيابة العامة في الأساس هي الحارس النزيه للعدالة و الخصم الشريف الشكلي للمتهم المحال أمامها، (( فليس المهم أن تظفر بصدور حكم إدانة من المحكمة، ولكن واجبها أن تسعى للحصول على حكم يضرب مجرماً حقاً، وينقذ بريئاً .. وفق ما أوردنا سابقاً من قول للعلامة الدكتور المرحوم عبد الوهاب حومد)).

الخاتمة …. الكوارث التشريعية و تشريع الاستثناء
لكل منا كرجال قانون مآخذ و ملاحظات على تشريعات الإرهاب الصادرة بالقوانين ذوات الأرقام (19 و20 و 21 و 22 لعام2012)، و لكن و الحق يقال فإن قوانين مكافحة الإرهاب باتت معروفة و منصوص عنها في أغلب و معظم التشريعات العربية والأجنبية المقارنة، ولكن ما يميز مشـرّعنا في تقريره لقوانين مكافحة الإرهاب هو أنه خط تلك القوانين بظرف استثناء فكان تشريعه تشريع ردة الفعل ونصوصه استثناء على ظرف الاستثناء، وخرج عن القواعد العامة وضمانات حق الدفاع والعدالة، فكانت قوانين مكافحة الإرهاب و بالأخص أصول المحاكمات والإجراءات هي بحق قوانين استثناء تبتعد في مضمونها عن القواعد العامة التي كانت بالأصل منصوص عنها في قانون العقوبات العام، فنص المادة (7) القاضي بعدم تقيد المحكمة بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة هو بالفعل نص استثناء غريب، و كذلك فإن نص المادة (6) القاضي بعدم خضوع الأحكام الغيابية الصادرة عن المحكمة لإعادة المحاكمة في حال إلقاء القبض على المحكوم عليه هو نص أغرب و أعجب لا يمت للعدالة بأية صلة، و أن تحرم كل صاحب معاش تقاعدي مهما كان القانون التأميني الخاضع له من معاشه التقاعدي في حال ثبوت إدانته بارتكابه لأي عمل إرهابي سواء كان فاعلاً أو محرضاً أو شريكاً أو متدخلاً وفق ما ورد في المادة (2) من القانون رقم (20 لعام 2012) هو نص جائر و ظالم فالمعاش التقاعدي لا يستفيد منه العامل أو الموظف لوحده بل يعيل به أسرته وهو حق لورثته من بعده، و من غير الجائز أن تطال العقوبة أسرته، فالنص المقرر في الفقرة الأولى من المادة (51) من الدستور الحالي واضح و صريح في أن (( العقوبة شخصية …الخ)) أي لا تطال سوى مرتكب الجرم و لا تتعداه لتشمل غيره أو أفراد أسرته.

لذلك فإن الصرخة الحق، هي بإعادة النظر بتشريعات الإرهاب، و كفانا تشريعاً للاستثناء، كفانا تشريعاً للاستثناء، كفانا تشريعاً للاستثناء، إكراماً للعدالة، و أختم نهايةً بما أورده العلامة المرحوم الدكتور عبد الوهاب حومد في مقدمة مجلده أصول المحاكمات الجزائية أعبر من خلالها عن رغبتنا الخالصة والمخلصة نحن كرجال قانون في إعمال قواعد العدل والإنصاف: ((وغاية ما أسعى إليه، رغبة شخصية ملحة في تطوير الفقه الجنائي في بلادنا، ووضع دراسة مفصلة لقانون جوهري، له دوره المميز في إقامة العدل وتحقيق المساواة بين المواطنين وصيانة الحقوق والكرامات، ورسم خط أكثر ما يكون وضوحاً بين حق المجتمع وحق الفرد، وهذا يقتضي تدعيم استقلال القاضي، و التخلص من كل تشريع خارج على الشرعة القانونية)).

تشريعات الإرهاب بين الدستور والقانون وضمانات حق الدفاع