” ظاهرة التقاضي بسوء نية “
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك
يعتبر الحق في التقاضي أحد أهم الحقوق والحريات المكفولة دستوريا، والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون، كما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومسوغ ذلك أن هذا الحق حق أصيل ويستحيل دونه أن يؤمن الأفراد على حرياتهم، أو يردوا على ما يقع عليها من اعتداء، كما لا يمكن أن يعد نظام الحكم ديمقراطيا، إلا إذا كفل حق التقاضي الذي يطمئن إليه الأفراد على حقوقهم، ويزيل الظلم من نفوسهم، وبناء عليه فإن أي مصادرة لحق التقاضي تعد عملا غير مشروعا، وأي نص تشريعي يمس هذا الحق هو نص باطل وغير دستوري، لخروجه عن المبادئ التي أقرت هذا الحق.
والحق في التقاضي باعتباره ضمانا للحريات الأخرى، كما جاء في الفصل 118 من الدستور الذي ينص على أن: حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحة التي يحميها القانون، فبدون تمكين الأفراد من اللجوء إلى القضاء لحل نزاعاتهم واسترجاع حقوقهم المهضومة تفقد كل الحقوق قيمتها وأهميتها وتبقى مجرد إقرار لا تجسيد له على أرض الواقع ولا قيمة قانونية له، فلا يمكن تصور حماية جدية للحقوق بدون حماية قضائية له.
وبذلك يكتسي الحق في التقاضي أهمية بالغة بالنظر إلى الدور الاجتماعي الذي يحققه وهو بذلك يضع حد الاستعمال بالقوة واللجوء إلى العدالة الخاصة، وعلى أساس تكريس هذا الحق تقوم دولة الحق والقانون.
غير أن استعمال هذا الحق يجب ألا يتم بشكل تعسفي، ويعد تعسفيا كل استعمال لا يهدف إلا الإضرار بالخصم، ومن أجل التصدي لهذا الأمر خول المشرع المغربي للمدعى عليه الذي تضرر من دعوى تعسفية(كيدية) إمكانية رفع دعوى أخرى قصد المطالبة بالتعويض، وتجد هذه الدعوى سندها في الفصل الخامس من قانون المسطرة المدنية التي تلزم أطراف الدعوى بالتقاضي بحسن نية، والتي تنص على ما يلي : “يجب على كل متقاض ممارسة حقوقه طبقا لقواعد حسن النية”.
لقد جاء في قرار المجلس الأعلى ما يلي:
الدعوى التي يقيمها أحد الأطراف تعسفا تعطي للخصم إما المطالبة بالتعويض خلال جريان هذه الدعوى أو بدعوى مستقلة بعد الحكم في الدعوى الأولى.
[ قرار عدد 390 بتاريخ 15/08/1979 ملف مدني عدد 66/982 ]
ومن المستقر عليه فقهاً وقضاء في الأنظمة القانونية المقارنة أنه لا يجوز لصاحب الحق أن يتعسف في استعمال حقه على نحو يلحق ضرراً بالغير، والحق في التقاضي كغيره من الحقوق يجب استعماله بطريقة مشروعة خالية من التعسف. فاستعمال الشخص لحقه في اللجوء إلى القضاء – كما يقول فقهاء القانون – ليس مطلقاً وإنما هو مقيد بألا يكون استعماله لهذا الحق بطريقة غير مشروعة تلحق أضراراً بالغير لأنه ممنوع من التعسف في استعمال أي حق من الحقوق التي تثبت له. فلا يجوز استخدام حق التقاضي بقصد الإساءة أو الكيد أو مضايقة الخصم.
صحيح أن حسن النية هو الأصل المفترض دائما عملا بالفصل 477 من قانون الالتزامات والعقود. مادام العكس لم يثبت.
والتقاضي الأصل فيه استعماله بحسن نية وطرح الخصوم وقائعهم حقيقة بعيدا عن الكذب وتحريف الوقائع والأحداث، والغاية من ذلك تمكين القاضي من حفظ المراكز القانونية وحل النزاع على أساس قواعد العدل والإنصاف والتقيد بالمساطر القانونية، فأطراف الدعوى هم الذين يتحكمون في سيرها ويحددون الاتجاه الذي تأخده، فموضوع النزاع يتم تحديد معالمه من لدن الخصوم وعلى الخصوص المدعي في المقال الافتتاحي للدعوى وما على المحكمة إلا أن تحكم في حدود الطلبات المقدمة من طرف الأطراف كلما استوفت كل الشروط القانونية، ولا يسوغ للقاضي أن يغير موضوع أو سبب هذه الطلبات طبقا للفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية.
المؤكد أن ظاهرة التقاضي بسوء نية غير محصورة على الفئات ذات المستوى الثقافي والتعليمي المحدود، وإنما تشمل أشخاصا متعلمين مدركين لفلسفة القانون ووجود المحاكم، والواقع أن كثيرا من المواطنين لا يترددون في الإصرار على استغلال علاقاتهم لجرجرة أقارب لهم أو معارف، لمجرد خلاف بسيط إلى المحاكم. وبعضهم يدفع مالا إلى منعدمي الضمير للحصول على إقرارات كاذبة أو شهادات طبية مزورة بغرض الزج بهم في السجون.
وإلى جانب المتضرر من إساءة استعمال الحق في التقاضي، يعتبر جهاز العدالة بجميع مكوناته هو كذلك متضرر من هذه الخصومات التافهة، لأنها تهدر وقت قضاة المحاكم وتستنزف طاقتهم وقدراتهم في ما لا يخدم تحقيق العدالة، كما تساهم هذه الظاهرة في تراكم الملفات أمام المحاكم، ما يؤثر بشكل سلبي على سير العدالة في قضايا أخرى أكثر إلحاحية وراهنية.
ومنذ سنوات انتبه المشرع المغربي إلى خطورة مثل هذه الأفعال، فأقر لها عقوبات زجرية، وقد نص في الفصل 445 من القانون الجنائي على أن: «من أبلغ بأية وسيلة كانت، وشاية كاذبة ضد شخص أو أكثر إلى الضباط القضائيين أو إلى ضابط الشرطة القضائية أو الإدارية أو إلى هيئات مختصة باتخاذ إجراءات بشأنها أو تقديمها إلى السلطة المختصة، وكذلك من أبلغ الوشاية إلى رؤساء المبلغ ضده أو أصحاب العمل الذين يعمل لديهم، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة من مائة وعشرين إلى ألف درهم، ويجوز للمحكمة أن تأمر علاوة على ذلك، بنشر حكمها كله أو بعضه في صحيفة أو أكثر، على نفقة المحكوم عليه… .
إن من مظاهر التقاضي بسوء النية، إطالة أمد النزاع، لا لشيء سوى لمنع الطرف الآخر من الوصول لحقه، وكذا تحوير النزاع، والدفع بوثائق غير ذات أساس، بالإضافة إلى استعمال جميع طرق الطعون لا لشيء سوى للمماطلة والتسويف في جعل الأحكام تكسب حجيتها النهائية، وكذا التدخل في الدعاوى القائمة، لمنع جهة معينة من الوصول للحق، أو حمايته، أو لإطالة النزاع بينهما، وكذا الفصل 48 من قانون التحفيظ العقاري الذي ينص على أن:” كل طلب للتحفيظ أو تعرض عليه ثبت للمحكمة صدوره عن تعسف أو كيد أو سوء نية يوجب ضد صاحبه غرامة لفائدة الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية لا يقل مبلغها عن عشرة في المائة من قيمة العقار أو الحق المدعى به، والكل دون المساس بحق الأطراف المتضررة في التعويض.”
وتبقى هذه الصور على سبيل المثال لا الحصر، فالمتقاضون يتفننون في حياكتها وصياغتها، وهي تتطور بشكل متواز مع تطور الفكر الاحتيالي، إن القيام بما ذكر أعلاه عن طريق العمد رغم العلم بعدم صحة ما يعرض في محاولة للحصول على مصالح، يخرج عن مجال الفصل الخامس من قانون المسطرة المدنية، ويدخل في نطاق إهانة القضاء طبقا لنص الفصلين 263 و 264 من القانون الجنائي.
إن صيغة المادة الخامسة بالمسطرة المدنية جاءت بصيغة الوجوب على الالتزام بمبدأ حسن النية عند التقاضي، وعلى ضوئه يتعين على كل متقاض صاحب حق أن يمارسه بغير نية إضرار الغير أو تعطيل الإدارة أو إثقال كاهل القضاء بملفات محسومة مسبقا.
وتجدر الإشارة إن تقدير الظروف متروك للسلطة التقديرية للقاضي الذي له وحده دون غيره صلاحية التحقق مما إذا كانت ممارسة الحق في التقاضي قد جاءت مشوبة بطابع التعسف وتنطوي على سوء نية.
وصفوة القول إن التقاضي بسوء نية، يعد بمثابة حجر عثرة أمام أي آلية للرفع من النجاعة القضائية.
لذا، يتعين أن تعبأ جميع الجهات المعنية بشأن العدالة والجهات المتضررة فرادا وجماعات، لتتصدى لهذا النوع من الأساليب، الذي ينسف كل المجهودات، والإمكانيات، التي ترصدها الدولة للرفع من النجاعة القضائية، وتحقيق الأمن القضائي.
مقال قانوني حول التقاضي بسوء نية
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك