تحليل قانوني لجريمة غسيل الأموال في المغرب
من الصعب إعطاء أرقام محددة حول حجم عمليات غسيل الأموال بالمغرب، لكن من المؤكد أن المبالغ التي تدخل في هذا الإطار تصل إلى أحجام فلكية. فسواء كانت تلك الأموال ناجمة عن الجريمة المنظمة أو عن الاتجار في الممنوعات إلا أنها تسلك قنوات سرية جدا لكي تحصل على الشرعية، لذلك فإن حصر أحجامها لن يكون إلا تقريبيا، وبعيدا عن الحقيقة الصارخة. ثم إن ما يؤكد بأن حجم هذه الأموال قد بلغ أرقاما فلكية هو ذلك الثراء الفاحش الذي يتمتع به البعض من أثرياء المغرب الكبار، حيث لا يوجد أي تفسير لهذا الإثراء الفاحش إلى جانب الافقار الواسع لعموم الكادحين سوى أن يكون عبر غسيل أموال الجريمة المنظمة والاتجار في الممنوعات أو عبارة عن نهب المال العام.
ويمكن تقديم بعض الأمثلة عن المصادر الاقتصادية الممنوعة المتبعة في المغرب والتي تلجأ إلى قنوات سرية للتبييض لتصبح الأموال الناجمة عنها مشروعة:
– المتاجرة في المخدرات بأنواعها المختلفة، وأنشطة البغاء أو الدعارة أو شبكات الرقيق الأبيض.
– تهريب السلع من المناطق الحرة وتهريب السجائر والسلع المعمرة والسلاح وغيرها.
– الاتجار في العملات الأجنبية في الدول التي تفرض رقابة صارمة على التعامل في النقد الأجنبي، وكذلك الاتجار في السلع التي تعاني البلاد من نقص المعروض منها بالمقارنة بالطلب عليها حيث يتجه التجار إلى رفع أسعار بيعها بشكل كبير وبالمخالفة لضوابط التسعير التي تحددها السلطات المحلية.
– أنشطة الرشوة والفساد الإداري والإغتناء عبر الوظائف العمومية وذلك من خلال الحصول على دخول غير مشروعة مقابل التراخيص أو الموافقات الحكومية أو إرساء العطاءات في الصفقات المحلية والخارجية بالمخالفة لأهم نصوص اللوائح والقوانين العامة والخاصة.
– التلاعب في الحسابات أو إخفاء مصدر الدخل وعدم سداد الضرائب المستحقة على النشاط إلى الخزينة العامة وتحويل الأموال إلى خارج البلاد بإيداعها في أحد البنوك الأجنبية.
– العمولات التي يحصل عليها بعض الأفراد والمشروعات مقابل عقد صفقات الأسلحة والسلع الرأسمالية أو الاستثمارية أو الحصول على التكنولوجيا المتقدمة أو أية صفقات تجارية كبيرة القيمة. وعادة ما يكون ذلك مقابل تسهيل الإجراءات الادارية من خلال النفوذ الوظيفي والعلاقات مع المسئولين لإنهاء الإجراءات بسرعة وتجاوز بعض أو كل الشروط أو الضوابط المنظمة لعقد الصفقات أو المقاولات.
– الدخول الناتجة عن الأنشطة السياسية غير المشروعة مثل أنشطة الجاسوسية الدولية والتي عادة ما يحصل من يقوم بها على دخول بصفة منتظمة من الجهات التي يعمل الجاسوس لحسابها وتودع الأموال باسمه في حساب جاري بأحد البنوك الأجنبية خارج موطنه الأصلي.
– الدخول الناتجة عن السرقات أو الاختلاسات من الأموال العمومية ثم تهريب هذه الأموال في الخارج بإيداعها في أحد البنوك التجارية الأجنبية هناك.
– الاقتراض من البنوك المحلية بدون ضمانات كافية وتحويل الأموال إلى الخارج وعدم سداد مستحقات البنوك المحلية وهروب الأشخاص المقترضين مع أموالهم خارج البلاد لفترات معينة حتى تسقط الجرائم والأحكام بالتقادم.
– جمع أموال المودعين وتهريبها إلى الخارج وإيداعها في البنوك الأجنبية دون وجود ضمانات كافية لأصحاب الأموال مع قيام الأشخاص الذين يجمعون هذه الأموال بتحويلها في الخارج إلى أشخاص آخرين أو تحويل الأموال إلى عقارات أو محلات تجارية أو غيرها ثم بيعها إلى ذويهم تمهيداً لعودتها إلى خارج البلاد مرة أخرى في صورة مشروعة.
– الدخول الناتجة عن النصب والاحتيال والمهربة إلى الخارج مثال ذلك الاحتيال على راغبي العمل في الخارج والحصول منهم على آلاف الدراهم مقابل عقود عمل مزورة أو تقاضي مبالغ منهم مقابل الحصول على شهادات صحيحة مزورة أو جوازات سفر مزورة…. إلخ ثم تهريب حصيلة الأموال إلى الخارج تمهيداً لإعادتها إلى داخل البلاد مرة أخرى حينما تسمح الظروف بذلك من الناحية القانونية.
– الدخول الناتجة عن الغش التجاري أو الاتجار في السلع الفاسدة أو تقليد الماركات العالمية أو المحلية ذات الجودة والشهرة الفائقة، أو تزوير الكتب والمصنفات الفنية ومنتجات الإبداع الفكري وبرامج الحاسبات الآلية والحصول على دخول كبيرة من وراء ذلك يتم تهريبها إلى الخارج تمهيداً للعودة بها بعد إجراء عمليات الغسيل القانوني لها.
– الدخول الناتجة عن تزييف النقد سواء البنكنوت أو العملات المعدنية والحصول على نقود قانونية مشروعة مقابل النقود المزيفة سواء من العملات المحلية أو من العملات الأجنبية. وكذلك تزييف الذهب والفضة وغيرها. وفي عام 1300 اشتكى (ببيرديوا) من عملية تزييف النقود إلى الملك فيليب العادل وأوضح أن هذا يضر بدخول النبلاء وبقية الفئات محدودة الدخل في وقت ارتفعت فيه الأسعار المحلية بشكل كبير.
– الدخول الناتجة عن تزوير الشيكات المصرفية وسحب المبالغ من البنوك المحلية بشيكات أو حوالات مزورة أو من خلال تزوير الاعتمادات المستندية المعززة بموافقة البنوك أو المراسلين والحصول على قيمة هذه الاعتمادات وإيداعها في أحد البنوك في الخارج توطئة لغسلها وإضفاء صفة المشروعية عليها.
– الدخول الناتجة عن المضاربة غير المشروعة في الأوراق المالية والتي تعتمد على خداع المتعاملين في البورصات العالمية وحجب بضاعة الأوراق المالية عن التداول لارتفاع أسعارهم ثم الحصول على دخول مرتفعة كثيراً عن أسعار شرائها وإيداع هذه الأرباح في أحد البنوك التجارية خارج الحدود تمهيداً لعودتها مرة أخرى إلى البلاد بصورة قانونية.
من المعلوم أن المغرب أشير إليه دائما بأصابع الاتهام في هذا المجال كما أن المغاربة متأكدون من تفاحش هذه العمليات في بلادنا، وهناك العديد من المؤشرات على وجود هذه الظاهرة يأتي على رأسها القصور والبنايات الرفيعة المتواجدة في العديد من المناطق وخاصة منها مدينة طنجة التي أصبحت تعرف عالميا بكونها عاصمة للتهريب والمخدرات.
وقد سبق للمجلس الحكومي أن صادق على مشروع قانون لمكافحة غسيل الأموال، والذي يستهدف ملائمة القانون الجنائي المغربي مع اتفاقيات دولية وقع عليها المغرب وخاصة الاتفاقية المتعلقة بالجريمة عبر الوطنية والإتفاقية المتعلقة بمكافحة تمويل الإرهاب وكذا توصيات مجموعة العمل المالي لمكافحة غسل الأموال.
كما أن بنك المغرب سبق له أن أعلن عن إحداث لجنة وطنية لمحاربة تزييف العملة، وأن مشروع القانون المتعلق بتبييض الأموال سيمكن من توفير مقتضيات عامة تمكن من رفع السر المهني، وحجز الأموال في إطار البحث عن العمليات المالية المشكوك في إرتباطها بنشاط التبييض. وقد وجه بنك المغرب دورية إلى المؤسسات البنكية لمراقبة الحسابات المشكوك فيها، ويطالبهم بإلزام المودعين لديها بتقديم كل المعلومات والوثائق التي تثبت مصادر أموالهم المودعة التي تفوق مليون درهم، وذلك لضمان الشفافية في مصادر الثروات سواء لدى الأشخاص أو الهيئات، ولمكافحة غسيل أو تبييض الأموال والموارد وتفادي توظيفها في تمويل الإرهاب.
وسيخضع مشروع القانون المشار إليه معاملات أي زبون للمؤسسات البنكية مشكوك في مصادر أمواله للمراقبة، ومن المنتظر أن ينص المشروع على خلق وحدة مركزية تتولى تجميع ومعالجة المعطيات المتعلقة بالبيانات المشبوهة التي تعدها المؤسسات البنكية. كما ينتظر أن يمنح المشروع السلطات المعنية صلاحيات واسعة لملاحقة من يمتلكون مبالغ مالية كبيرة بدون وثائق رسمية.
ويعتبر المشروع جريمة غسل الأموال أو المال المغسول هو كل مال اكتسب أو حيز أو أستخدم أو استبدل أو تحول لإخفاء أو تمويه مصدره الذي قد يكون من جناية أو جنحة يعاقب عليها بالحبس لمدة سنتين على الأقل.
وتوجد دوافع كثيرة لمحاربة غسيل الأموال، بل ومحاربة المصادر الاقتصادية الممنوعة بكل قوة، إلا أن بلادنا التي تعرف مشاهد صارخة من هذه العمليات لم تكن لتتحرك لمواجهة هذه الآفة إلى تحت ضغوط خارجية، ففي الحملة المشهورة لسنة 1995 التي نعتت بحملة التطهير جاءت عقب محادثات الشراكة الأورومتوسطية حيث طرحت مسألة اشتراط حصول المغرب على مساعدات مالية بمحاربة زراعة النباتات المخدرة في شمال المغرب وهو ما تولد عنه برنامج تنمية مناطق الشمال، لكن العملية توقفت لأنها لم تحقق نتائج كبيرة في ما يخص الدعم المالي، كما ساعد على قيام هذه الحملة العمليات الإرهابية لفندق أطلس أسني وما تم اكتشافه من شبكات الاتجار في الأسلحة ذات أطراف دولية وأخرى وطنية.
أما بالنسبة للنشاط الأخير الذي تولد عنه وضع مشروع مكافحة غسيل الأموال، فأعتقد أنه قد انطلق عقب تفجيرات نيويورك في 11 شتنبر 2001، ففي إطار الحملة الأمريكية ضد ما يسمى بمكافحة الإرهاب ومن أجل محاصرة المد الأصولي والقوى المعارضة للهيمنة الأمريكية ومناهضي العولمة الليبرالية واستعدادا لشن الحرب على أفغانستان والعراق وتصعيدا لضرب عدد من القوى التي تضعها أمريكا في خانة الدول المارقة وخوفا من قيام ردود فعل عنيفة من مختلف هذه الأطراف كان لزاما اتخاذ مختلف الإجراءات الأمنية والاقتصادية الصارمة. ولهذا بادرت أمريكا بحث مختلف الدول التابعة لها على سن قوانين زجرية وتمكين نفسها من ترسانة أمنية واقتصادية وقائية وهجومية في نفس الوقت. لذلك فإن اصدار ما يسمى بقانون مكافحة الإرهاب عقب أحداث 16 ماي مكن السلطات الأمنية من سلطات واسعة وكان من بين نتائجها حدوث خروقات جسيمة لحقوق الإنسان. تم حاليا تسعى الحكومة سن قانون لتجريم غسيل الأموال واتخاذ اجراءات قوية لمحاصرة المصادر الاقتصادية لبعض القوى الأصولية لكن الخطورة فق استعمال هذا القانون لأغراض أخرى غير محاربة غسيل الأموال.
إن خطورة غسيل الأموال تتجلى في أنها قد تستغل في ارتكاب جرائم كالإرهاب، حيث إن الكثير من الأموال المزيفة والأموال الناتجة عن الاتجار غير المشروع للمخدرات مثلا، تستعمل في تمويل العمليات الإرهابية، وكذلك الشأن بالنسبة لعائدات السرقة، كما حدث في الجرائم الإرهابية التي سجلت في المغرب والتي أبانت أن العديد من مرتكبيها كانوا يسرقون أو يبتزون الأشخاص ويتعيشون من الأموال المسروقة خلال فترات التحضير للجرائم الإرهابية التي اتهموا بالنسبة لجرائم الفساد المالي.
كما أن الارتشاء كأموال غير مشروعة قد تؤدي إلى إفساد الصفقات التجارية واضعاف القدرة على المنافسة الحقيقة وإلحاق الضرر بالمقاولات. كما يلحق غسيل الأموال الضرر بالاقتصاد الوطني بسبب وجود اقتصاد خفي غيرظاهر يهدد الاقتصاد الرسمي، وكذا بسبب عدم استقرار الاقتصاد نتيجة لسرعة انتقال الأموال بسبب العولمة، إذ أن العمليات البنكية قد تضفي الشرعية على أموال تم الحصول عليها من مصدر غير مشروع في بلد من البلدان، بتحويلها إلى حساب بنكي في بلد آخر وتصرف فيه كأنها أموال مشروعة.
ويؤدي غسيل الأموال إلى التوزيع غير العادل للثروة، حيث توزع ثروات بدون عمل أو مجهود وليس لها مقابل في الإقتصاد الوطني، كما انه يهدد الشفافية الاقتصادية ويقضي على روح المنافسة المشروعة، ويؤدي بالأساس إلى التهرب من الضرائب نظرا لأنه يعتمد على أنشطة غير مشروعة وغير مصرح بها كما يؤدي إلى تفشي الرشوة والفساد المالي.
كما يضر غسيل الأموال بالاستقرار الأمني والسياسي إذ أنه في كثيرة من البلدان تم استعمال الأموال المبيضة لتمويل انقلابات عسكرية، أو في تزوير الانتخابات، أو للقيام بعملية التحسس والعمليات الاستخباراتية، وكثيرا ما يتم إنشاء مقاولات وشركات وهمية لمزاولة أعمال استخباراتية تخريبية غايتها الإضرار بالبنية السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية في بلد من البلدان.
لكن محاربة غسيل الأموال يتطلب توفر نظام ديموقراطي حقيقي تكون السيادة فيه للشعب ويقوم على فصل حقيقي للسلط واستقلال تام لقضاء يتسم بنزاهة واسعة، أما في حال غياب هذه الشروط فغالبا ما تستعمل القوانين الزاجرة في الصراع السياسي واقصاء جزء من المجتمع لصالح تحكم جزء آخر منه.
فأهم أداة لمحاربة الإرهاب وغسيل الأموال غير المشروعة وباقي الأمراض المجتمعية وعلى رأسها نهب المال العام والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وحتى ما يسمى بالنزعات الانفصالية هي اعتماد الديموقراطية الحقيقية شكلا ومضمونا، فلا أحد يهرب من دار العرس كما يقال، والجميع يصبح متضامنا عندما يكون الجميع متساويا أمام الحقوق والواجبات. فالديموقراطية هي التي أهلت الدول المتقدمة لتصبح متقدمة. أما في حالة ديموقراطية الواجهة كما يحدث لدينا، فمهما كنا نتوفر على الإمكانيات الجد متطورة فلن نستطيع القضاء على ظاهرة غسيل الأموال وعلى باقي المشاكل.
تحليل قانوني لجريمة غسيل الأموال في المغرب