التحكيم الإلكـتروني وضرورته للتجارة الدولية
د. محمد عرفة
التحكيم وسيلة من وسائل تسوية المنازعات قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية وما تكلفه من ضمانات ووقت قد لا تسمح به ظروف التجارة الدولية, فهو نوع من العدالة الخاصة ينظمه القانون ويسمح بمقتضاه بإخراج بعض المنازعات عن ولاية القضاء العام في حالات معينة, كي تُحل بواسطة أفراد عاديين يختارهم الخصوم كقاعدة, وتُسند إليهم مهمة القضاء بالنسبة إلى هذه المنازعات.
ولهذا فقد أصبح من المستقر عليه لجوء التجار والمتعاملين في حقل التجارة الدولية إلى التحكيم التجاري الدولي لتسوية منازعاتهم بدلاً من اللجوء إلى القضاء العادي, وذلك نظراً لما يحققه هذا الطريق من ميزات عديدة تتمثل في السرعة في الفصل في المنازعات, وقلة التكلفة الاقتصادية, وحفظ الأسرار, وعدم قطع العلاقات بين الأطراف بسبب المنازعة بل الأخذ في الاعتبار استمرار هذه العلاقات مستقبلاً؛ ومن ثم فقد أنشئت مراكز متخصصة للتحكيم في مختلف الدول كي تُلبي حاجة التجارة الدولية في ظل الانفتاح الاقتصادي الذي يشهده العالم اليوم, الذي يعيش ثورة المعلوماتية, التي من أبرز معالمها ظهور الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت) بما تقدمه من سهولة للاتصال وتقديم الخدمات وإنجاز المعاملات في المجالات كافة ومنها المجال القانوني, حيث ظهر ما يُعرف بقانون الفضاء الإلكتروني Cyberspace law الذي يتناول العديد من المواضيع مثل التجارة الإلكترونية والملكية الفكرية وجرائم الفضاء الإلكتروني وغيرها.
ومع ازدياد حجم العقود الدولية التي يتم إبرامها عن طريق الإنترنت, فإن المنازعات بين أطرافها أضحت أمراً لا مفر منه, لهذا تسعى مواقع البيع إلى التعاقد مع مراكز تحكيم غير تقليدية لحل المنازعات التي تنشأ بينها وبين المتعاملين معها عن بعد. ومن هنا ظهرت فكرة التحكيم عن بعد أو التحكيم أو الوساطة الإلكترونية أو التحكيم على الخط Arbitration – on line أو التحكيم الإلكتروني, حيث تقوم هذه المراكز المتخصصة بتسوية المنازعات التي يُطلب منها تسويتها بين التجار والمتعاملين في عقود التجارة الدولية الإلكترونيةLes contrats internationaux conclus via internet استناداً إلى قواعد معينة يضعها كل مركز في تحديد مجرى العملية التحكيمية, ويتم عرض النزاع عليها باتباع خطوات معينة.
ويتميز هذا النوع من التحكيم بما يوفره للأطراف من ميزات التحكيم التجاري الدولي العادي, فضلاً عن أنه يوفر ميزات إضافية, حيث إن عملية التسوية تُحاط عادة بسرية تامة منذ إرسال طلب التوسط في حل النزاع وحتى الوصول إلى تسوية نهائية ومرضية للطرفية, ومما لا شك فيه أن هذه السرية تُعد من أهم المسائل التي يحرص عليها التجار والمتعاملون في حقل التجارة الدولية.
ومع ذلك فإن هناك بعض الصعوبات والمعوقات التي تعترض هذا النوع من التحكيم, منها مسألة حجية المحررات الإلكترونية في الإثبات, فإثبات المعاملات التي تتم عن طريق الإنترنت يتم من خلال ما يُعرف بالتوقيع الإلكتروني Signature electronique باستخدام حروف أو أرقام أو إشارات لها طابع منفرد تسمح بتحديد شخص صاحب التوقيع وتمييزه عن غيره, وقد اختلف فقهاء القانون والقضاء بشأن حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات ما بين مؤيد ومعارض, فالرأي العارض لا يُفرق بين وظيفة التوقيع وشكله, ومن ثم لا يعتد به في الإثبات, أما الرأي المؤيد وهو الراجح فيُفرق بين وظيفة التوقيع وشكله, ومن ثم فإن التوقيع الإلكتروني من حيث وظيفته يُمكن اعتباره حجة في الإثبات لقيامه بالوظائف نفسها التي يقوم بها التوقيع العادي وإظهار قبول الشخص وموافقته على مضمون المحرر الذي قام بتوقيعه.
وقد أصدر العديد من الدول قوانين للتجارة الإلكترونية وأخرى تنظم التوقيع الإلكتروني, مثالها القانون التونسي والقانون المصري, والقانون الإنجليزي لعام 2000م, والقانون الأردني لعام 2001 م, والقانون النموذجي الاسترشادي الذي وضعته لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية في حزيران (يونيو) عام 1996م, الخاص بالتجارة الإلكترونية, والذي يتضمن 17 مادة تنظم الاعتراف القانوني برسائل البيانات وكتابة المعلومات والتوزيع الإلكتروني والقوة الثبوتية لرسائل المعلومات وقبولها وتبادلها والتجارة الإلكترونية في مجال نقل البضائع, كما أصدرت لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية تقريراً بتاريخ 12 حزيران (يونيو) 1997م يتضمن إطاراً قانونياً جديداً للدول التي ترغب في إصدار تشريعات تُسهل عقد الصفقات التجارية عبر الشبكات الدولية لنقل المعلومات وتداولها .
ومن الواضح أن هناك اتجاها متزايدا للتحكيم الإلكتروني, ولكننا نخشى أن يكون الترويج لهذا النوع من التحكيم حلقة في سلسلة الحلقات التي تسعى إليها الدول المتقدمة وشركاتها الدولية لتحقيق مصالحها على حساب الدول النامية, مثلما يحدث في مجال عقود التجارة الدولية التي تكون الدولة طرفاً فيها والمعروفة باسم عقود الدولة State contracts, حيث تسعى الدول المتقدمة إلى تدويل القانون الواجب التطبيق على العقد بعدم إخضاعه لقانون الدولة المضيفة للاستثمارات الدولية ومن ثم إخضاعه لقواعد العامة في قوانين الدول المتدينة أو القواعد العامة في القانون الدولي كما حدث في قضية شركة أرامكو التي رفعت إلى التحكيم التجاري الدولي, وقضية شركة ليامكو مع ليبيا وغيرها من القضايا المتعلقة بالبحث والتنقيب عن البترول والاستثمار فيه.
ونرى أنه لا بأس في مواكبة هذا التطور التقني باللجوء إلى التحكيم الإلكتروني فيما يتعلق بالمنازعات البسيطة والمحدودة القيمة, شريطة أن تتوافر الضمانات القانونية التي تضمن تحقيق الحياد المطلوب, كما نرى ضرورة إصدار نظام للتجارة الإلكترونية وآخر للتوقيع الإلكتروني, وسنتناول في مقالة لاحقة الجوانب الضرورية في هذين النظامين المقترحين.
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك
التحكيم الإلكتروني ودوره في التجارة حسب النظام السعودي