مبدأ قضائي جديد بالنسبة للبيوع في المناطق التي أتلفت سجلاتها العقارية (2 من 2)
المحامي عارف الشعَّال
تطرقنا في الجزء الأول لكيفية تصدي القضاء لـ (عقد بيع عقار) في حال تلف السجلات العقارية الخاصة بالمنطقة التي يوجد بها هذا العقار.
ورأينا الاتجاه المتنافر بين محكمتي الدرجة الأولى والثانية في معالجة هذه الحالة حيث قضت محكمة الدرجة الأولى بفسخه واعتباره منقضياً نظراً لاستحالة تنفيذه في السجل العقاري التالف، بينما لم تقتنع محكمة الدرجة الثانية بهذا الاتجاه، وفضلت معالجة الموضوع برد الدعوى شكلاً، بحجة تعذر وضع إشارة الدعوى، وبذلك تركت الباب مفتوحاً لمراجعة القضاء ثانية عندما تتغير الظروف.
في الواقع هذه ليست قضية عادية بين خصمين اختلفا على عقد بيع يجب على القاضي أن يحكم بينهما بالعدل، وإنما نحن أمام إحدى القضايا التي أفرزتها هذه الحرب اللعينة وأمام إحدى تحدياتها الدقيقة التي تفرض على القضاء أن يتعامل معها بوظيفته المزدوجة، وهي مراعاة مصلحتين بآن واحد، المصلحة الخاصة للخصوم في الدعوى، والمصلحة العامة للمجتمع.
يتضح من كتاب مديرية المصالح العقارية المبرز في الدعوى أن سوء تخزين السجلات العقارية أدى لمسحها وتلفها بالكامل نتيجة غمرها بالماء، ولم يعد خافياً أن التلف لحق مئات إن لم يكن آلاف السجلات العقارية.
ومؤدى ذلك أن مناطق عقارية بكاملها أتلفت سجلاتها، أي مجموعة هائلة من العقارات لا يعلم إلا الله عددها أمست بدون سجلات، وبالتالي نحن أمام قضية عامة تهم شريحة كبيرة جداً من الناس. ناهيك عن السجلات التي أتلفت بالحرق أو السرقة في مدن ومناطق أخرى،
وبناء عليه فإن القاضي هنا عندما يحكم بقضية من مفرزات الحرب لها خصوصية غير مسبوقة، يتجاوز دوره القضائي كقاضي يحكم بين خصمين، وإنما يمارس في هذه الحالة دوره كعضو مسؤول في السلطة القضائية إحدى سلطات الدولة الثلاث، ويكرس مبدأً قانونياً له تأثير مباشر على عدد لا يحصى من الناس. لأن القاضي كما يقول البروفسور “إدوار عيد”:
((عندما يتولى السلطة لفصل المنازعات نيابة عن الدولة وباسمها، يقوم بممارسة هذه السلطة وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة ومصلحة العدالة التي انتدب لأجلها….)) {أصول المحاكمات – ج1 – طبعة 1964-ص14}
فهو إذا ما اتجه في حالتنا هذه لفسخ البيع بسبب تلف السجل العقاري، وتكرَّس اتجاهه هذا مبدأً قضائياً مستقراً، بفسخ أي بيع عقار في منطقة أتلفت سجلاتها، يعني أنه تسبب بالشلل الكامل وإيقاف أي عملية نقل حق عيني كالبيع والهبة في منطقة عقارية واسعة جداً، بحسبان أن تلف السجلات العقارية يؤدي لاستحالة تنفيذ البيع في الطابو، وفي هذا مساس مباشر بحق الملكية المصان بالدستور، وهو ما يتنافى مع واجب الدولة في الحفاظ على حقوق الناس.
ولكن ماذا بإمكان القاضي وهو يتمتع بسلطة محدودة لا تتعدى الفصل بالنزاعات بين الناس، فعله إزاء مشكلة عامة وكبيرة بهذا الشكل التي تتطلب تدخلاً تشريعياً لحلها؟
رأينا كيف واجهت محكمة الدرجة الثانية المشكلة برد الدعوى شكلاً،
أما الغرفة العقارية في محكمة النقض بحكمتها المعهودة فقد أقرت بوضوح مبدأ وجوب مراعاة المصلحة العامة، واتخذت مبدأ مبدعاً وعالجت المسألة بوصفها محكمة قانون بشكل أكثر منطقية وقررت مبدأً حصيفاً قضى بأنه:
((لا يتوجب رد الدعوى شكلاً إذا تعذر وضع الإشارة بسبب تلف السجل، وإن العدالة وحفظ الحقوق ومراعاة الظرف الاستثنائي توجب اعتبار المسألة مستأخرة لحين ترميم الصحيفة العقارية، وإن أحكام المادتين 63 و64 من القرار 188 لعام 1926 تُمكّن من وضع الإشارة على “السجل اليومي” الذي يعتبر من أهم وثائق السجل العقاري بعد محضر التحديد والصحيفة العقارية، ويمكن إعطاء بيان بتسجيل الإشارة على السجل اليومي فيما يتم ترميم الصحيفة))
((إن التعييب والتلف في الصحيفة لا يعني أن العقار غير مقيد ولا يعدُّ سبباً لانقضاء الالتزام أو وقف تنفيذه مع إمكانية استدراك العيب بطلب الترميم، وهو لا يوجب رد الدعوى شكلاً طالما أن العقار مقيد وله صحيفة متلفة لسبب لا يد للمتعاقدين فيه، مما يجعل محكمة النقض ترى اعتماد نهج استئخار الدعوى لحين ترميم الوثيقة من قبل الجهة الإدارية الوصية عليها، لما فيه من مصلحة عامة يجب مراعاتها))
((إن تلف الصحيفة العقارية وإن كان ناجماً عن قوة قاهرة أو حوادث طارئة، فكلاهما لا يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً في معرض البيوع العقارية طالما أن محل الالتزام {العقار} مازال قائماً وموجوداً، وطالما أن العقار له أصل في القيود العقارية وإنما تدخل خارجي أدى إلى وتعييبها أو تلفها))
((لا يندرج ضمن مبدأ عدم سماع دعوى بخصوص عقار غير مسجل في السجل العقاري، العقار المسجل الذي تعيبت صحيفته، وإلا لعمّت الفوضى والبلوى في ظل الظروف التي مرَّ بها قطرنا الحبيب، ولجأ المتعاقدون للتهرب من التزاماتهم والالتفات عنها بذريعة تعيب السجل))
((لا يجوز منع المتقاضين من قيد دعواهم وحفظ حقوقهم المتأتية من تلك البيوع بحسبان أنه يمكن أن يترتب عليه فقدان حقهم بالأفضلية في معرض انتظار تصحيح الصحيفة وترميمها، وخطورة قيام البائع بتهريب العقار للغير إثر تصحيح القيد المتلف))
((إشارة الدعوى ليست شرطاً لقيد الدعوى وإنما لسماعها))
———————-
تنويه:
جرت أحداث هذه القضية قبل صدور القانون رقم 33 تاريخ 26/ 10/ 2017 الذي سمح بترميم الوثيقة العقارية التالفة.