بحث حول الإباحه القانونية – دراسة قانونية توضيحية
تطرقت معظم التشريعات الوضعية إلى تعريف الالتزام القانوني بأنه رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يتمكن الدائن من إكراه المدين على أن يؤدي إليه مبلغا من المال، أو يسلمه شيئا أو يتم عمله أو يقوم بعمل ومنهم من عرفه بتعريف العقد، وهذا فيه اقتباس من الشريعة الإسلامية التي عرفت الالتزام بتعريف العقد، بصفتها أول تشريع سن حرية التعامل وأخرج البشرية من تعقيداته الشكلية، التي توارثها المتعاملون أيام الرومان ومن سبقهم.
فالشريعة الإسلامية عرفت الالتزام من خلال تعريفها للعقد نفسه وذلك في غالب تعريفاتها لهذا المبدأ، ثم عرف الفقهاء العقد بأنه عبارة عن التزام العاقدين وتعهدهما بأمر، وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول.
أن العقد والالتزام، والتصرف، كلمات ثلاث يرد ذكرها في ثنايا بحوث الفقهاء، ويختلط أمرها أحيانا على بعض القارئين، لما بين معانيها من التشابه من بعض الوجوه،
وهذا يقتضي توضيح الفرق الحاصل بينهما قبل التعريف بالعقد، وهذه العبارة الثلاثة عرفها فقهاء الشريعة بتعاريف متعددة منها:
أولا : التصرف هو ما يصدر من الشخص المميز بإرادته، ويرتب عليه الشارع نتيجة من النتائج سواء كانت في صالح ذلك الشخص أم لا.
ثانيا : الالتزام كل تصرف متضمن إرادة إنشاء حق من الحقوق أو إنهائه أو إسقاطه سواء كان من شخصه واحد أو من عدة أشخاص.
هذه هي المبادئ العامة التي نظر من خلالها التشريعان جانب المعاملات، وهو الموضوع الذي اخترنا أن نفتتح به موضوع المناظرة بين التشريعين الإسلامي والوضعي، وباختصار فإنها تثبت حالتين:
أولا : تفوق الصياغة الفقهية الإسلامية، على الوضعية التي يظهر كل تعبير منها متأثرا بظرف من ابتكروه، بينما الصياغة الفقهية اكتسبت دقة تعبيرها من ثبات النصوص التي استخلصت منها.
ثانيا : تعثر التعريفات الوضعية بآثار الشكلية التي أتت تتمرد عليها، فجعلها ذلك تفترض سوء النية مسبقا بمحاولة استحواذ النص على جميع جزئيات العقد، لأن الوازع الديني والتربية النفسية، لا أثر لاستحضار المشرع لهما حين صياغته لتلك القواعد القانونية بينما الشريعة الإسلامية عبر في ذلك بصيغ عامة تستحضر دائما الوازع الديني. وما ينجم عنه من صدق في التعامل، علما بأنها لم تذهب مع حسن الظن إلى الحد الذي تضيع معه حقوق الغير.
وتتضح المقارنة بين الشريعة الإسلامية والتشريعات الوضعية من خلال تناول كل منهما للمبادئ التالية والتي ستقتصر على بعض منها ليكون موضوعا لبحثنا وهي كالآتي :
1- البيع
2- الهبة
3- الوقف
4- الإباحة
5- الإجارة
6- الوعد بالجائزة
هذه الوقائع تنشأ عنها حقوق أصبح يطلق عليها الالتزام بمعناه العام، فهي منطلق للحقوق، ومن ثم فإن التعرض إليها من خلال نظرة أصولية سيمكنها من رصد السابقة الفكرية لنظم الشريعة الإسلامية، وتأثيرها على كل من التزم بالقيم والأخلاق من التشريعات الوضعية.
كما قلنا في السابق فإننا سنقتصر على بعض هذه المبادئ وهي الإباحة والإجارة والجعالة وذلك من خلال ثلاث فصول، حاولنا دراستهم دراسة شاملة ومستفيضة قدر الإمكان.
تـمـهـيـد : اسـتـعـمــالا
يستعمل لفظ الإباحة في اللغة ثلاثيا فيقال : باح بمعنى ظهر، وهو في هذا الاستعمال لازم. كما يقال باح بسره أظهره فهي بمعنى المتعدي أباح وليست متعديا، ومصدر الأول. البؤح، ومصدر الثاني الإباحة، والمباح اسم مفعول من الإجابة1.
والواقع أن معنى الإباحة في اللغة أوسع. ففي لسان العرب2 ” إن البوح ظهور الشيء، وباح الشيء ظهر، وباح به بوحا وبؤوحا وبؤوحة أظهره، وباح ما كتمت، وباح به صاحبه وباح بسره أظهره، وأبحتك الشيء أحللت لك، وأباح الشيء أطلقه والمباح خلاف المحظور.
وأما المباح لغة، فهو اسم مفعول من أباح الشيء بمعانيه اللغوية المختلفة السابقة. فهو اسم لكل ما وقعت عليه الإباحة بكل معنى من تلك المعاني.
وبعد هذا التمهيد الذي تناول التعريف اللغوي للفظ الإباحة سنتناول تعريف الإباحة عند الأصوليين والفقهاء في (مبحث أول) ثم نتناول تعريف الإباحة في القانون.
ثم في الأخير نقوم بإجراء مقارنة بين الشرع والقانون في مفاهيم الإباحة.
المبحث الأول : حقيقة الإباحة
المطلب الأول : الإباحة عند الأصوليين وعند الفقهاء
أولا : الإباحة عند الأصوليين
الإباحة مأخوذة من أبحتك الشيء بمعنى أحللته لك وأطلقتك فيه.
فالأصوليون يعرفونها بأنها التخيير بين فعل الشيء وتركه، ويعرفون المباح بأنه هو الأمر الذي خير الشارع بين فعله وتركه وهذا مفاد تعريف الغزالي للجواز الذي هو مرادف الإباحة عنده إذ يقول : إن الجواز هو التخيير بين الفعل والترك بتسوية الشرع. وقد درج على اختيار هذا التعريف للإباحة الإمام البيضاوي في المنهاج عند تعريفاته لأقسام الحكم بما دل على أنها حدود لتلك الأقسام. فالصلاة مثلا في أول وقتها الموسع، فإن المكلف مخير بين فعلها وتركها وليست الصلاة ولا الكفارة مباحة بل واجبة.
ولقد وضع الآمدي تعريفا للمباح إذ قال: إن الأقرب في ذلك أن يقال: إن المباح ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل”. والذي يفيد الإباحة عنده على هذا دلالة خطاب الشارع على التخيير بين فعل الشيء وتركه من غير بدل.
وقد سلك ابن السبكي في كتابه جمع الجوامع1مسلكا قريبا من هذا إذا أورد في صدد تقسين الخطاب، ما يفيد أن الإباحة عبارة عن التخيير بين فعل الشيء وتركه، وعلى ذلك فالمباح هو ما دل خطاب الشارع المتعلق بفعل المكلف على التخيير بين فعله وتركه.
وعرف الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول2 : “المباح بأنه ما لا يمدح على فعله ولا على تركه”. وهذا ما يفيد أن الإباحة وصف في الفعل يوجب عدم المدح على فعله ولا تركه. وقال الشوكاني أيضا: ” إن المباح يطلق على ما لا ضرر على فاعله وإن كان تركه محظورا”. فالإباحة على هذا تطلق على وصف في الفعل يوجب عدم الضرر على فاعله وإن كان الترك محظورا.
وبعد ما أوردناه من تعريفات الأصوليين للإباحة والمباح نتجه إلى التعريف الذي وضعه الآمدي لما فيه من استقامة ووضوح وعدم احتياج إلى قيد يبين المراد.
ثانيا : الإباحة عند الفقهاء
يستعمل الفقهاء لفظ الإباحة كثيرا وخاصة الأحناف عند الكلام عن الحظر والإباحة. فالإباحة عند الفقهاء هي الإذن بإتيان الفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الإذن. وقد تطلق الإباحة على ما قابل الحظر، فتشمل الفرض والإيجاب والندب.
وقد جاء في تعريف للأستاذ مصطفى الزرقا بأنها الإذن باستهلاك الشيء باستعماله وهي لا تجعله مملوكا بل هي دون التمليك وقد يكون هذا الإذن من الشارع، ويكون في الاستيلاء على المال المباح وهو كل ما خلفه الله لينتفه به الناس على وجه معتاد وليس في حيازة احد مع إمكان حيازة مما يكون في مجرد الانتفاع كالإذن في الانتفاع بالمساجد والطرقات بما شرعت له.
وكما يكون الإذن من الله فإنه قد يكون الإذن من الأفراد بعضهم مع بعض سواء أكان الإذن بالعين لرقبتها كمن ينثر النقود في الأفراح ويقدم الطعام والشراب للأضياف، وهذا النوع يرى البعض أنه على ملك صاحبه حتى يتناوله المباح له فيمتلكه بالتناول وذهب آخرون إلى أن المباح له، لا يمتلك المال بتناوله، وإنما يبقى على ملك صاحبه حتى يستهلكه المباح له وهو على ملك صاحبه بإذن منه على ما سنبينه في موضعه من البحث.
أو كان إذن العباد بعضهم لبعض بمنفعة العين فقط كمن يدعوك لركوب سيارته أو السماع من مذياعه، أو مشاهدة مسرحية عنده أو التفرج بصور في معرضه إلى غير ذلك من صور إباحة المنافع، وهذا النوع يتم استحقاقه واستيفاؤه بمجرد الانتفاع لأن المنافع تستهلك وتنقذي وتزول ساعة فساعة.
بقي أن نشير هنا إلى الإباحة ليست من قبيل التعاقد، فهي لا تحتاج إلى الإيجاب والقبول وإنما توجد بمجرد وجود الإذن القولي أو العملي كما أنه لا يشترط فيها أن يكون المأذون له معينا معلوما للآذن وقت الإذن لا بشخصه ولا باسمه، فمن يضع الماء في الأباريق ويضعها على قارعة الطريق، فإنه يبيح بذلك لكل من يمر أن يشرب منها دون تعيين للمأذون لهم لا بالإسم ولا بالوصف، وكذلك فإن الإباحة جائزة كما يقول ابن حزم الظاهري في المجهول بخلاف العطية، والهدية، والصدقة والعمرى والرقبى والحبس وغيره، وذلك كطعام يدعى إليه قوم يباح لهم أكله ولا يدرى كم يأكل كل منهم، وهذا منصوص من عهد الرسول (ص) فقد قال : من شاء أن يقتطع إذا نحر الهدي، كما أمر المرسل بالهدي إذا عطب أن ينحره ويخلى بينه وبين الناس.
المطلب الثاني: حقيقة الإباحة في القانون
أولا : في نظر القانون الجنائي
من تتبع كتابان فقهاء القانون الجنائي واستعمالاتهم للفظي الإباحة والمباح يجد الإباحة عندهم تطلق باطلاقين، إباحة أصلية، وإباحة طارئة.
أ- الإباحة الأصلية: المقصود بالإباحة عندهم ألا ينص القانون على التحريم بفعل شيء من الأشياء ولا إيقاع عقاب عليه. وليس لها سبب أكثر من عدم النص القانوني على هذا التحريم كما تفيده قاعدة “لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون” فإنهم يقولون بناء على هذه القاعدة: إن التجريم والعقاب من عمل المشرع ومصدرهما واحد هو القانون المكتوب، وغن القاضي لا يملك التجريم فيما لم يرد نص بتجريمه، ولا المعاقبة على أمر فرضه النص الجنائي دون أن يقرر لمخالفته عقابا، كما يقولون إن القانون هو الحكم فيما هو جائز وما هو ممنوع، فلا يفاجأ شخص بعقوبة عن فعل لم يكن هناك قانون سابق بنص على تجريمه. فمبدأ التجريم وشروطه وتحديد العقوبة وبيان مقدارها” كل ذلك يدخل في اختصاص المشرع وليس للقاضي فيه إلا التطبيق: ومؤدى ذلك أن القياس غير جائز في مجال التجريم.
وقاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص صرحت بمدلولها معظم التشريعات ولم تكتف بعضها بالنص عليها في قانون العقوبات بل سجلها لأهميتها في الدستور كمبدأ أساسي لا يجوز مخالفته في قانون عادي، على أن هذه القاعدة تفضي إليها أصولها النظام الطبيعي العام.
كما أن الغرض الأول من مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات هو كفالة حرية الأفراد في أفعالهم وتصرفاتهم لأنه لو ترك أمر التجريم للقاضي لأضحى الأفراد في حيرة من أمرهم لا يدرون بصفة قاطعة ما هو مباح لهم.
وما هو محظور عليهم، ولذا فإن الأمر يتطلب إنذار الأفراد مقدما بما يتعرضون له إذا ما صدرت عنهم أعمال أو تصرفات معينة، ففي هذه القاعدة إذن ضمان لكفالة حقوق الأفراد من تعسف السلطات وصيانة المصلحة العامة إذ يأمن الأفراد معها حريتهم في مباشرة مختلف أوجه النشاط لأنها على الإباحة الأصلية. فما لم ينص عليه في القانون الجنائي يعتبر مباحا، فما دام الفعل الذي ارتكب لا يعد جريمة من الناحية القانونية فإنه لا تنشأ عنه سلطة للدولة في معاقبة فاعله.
ب- الإباحة الطارئة: الإذن بالفعل الذي كان ممنوعا إذا وجد سبب من أسباب الإباحة المنصوص عليها في القانون ومن أمثلة ذلك، الدفاع الشرعي، وتنفيذا أمر الرئيس إذا كان المنفذ موظفا، فقد يرتكب الشخص فعلا محظورا، ومع ذلك لا يعاقب لأسباب مختلفة من أجلها لا يعد الفعل جريمة، ويدخل في هذا عدم اكتمال العناصر اللازمة لقيام الجريمة، ومع اعتبار الفعل جريمة قد لا يطبق النصر لأنه لا يسرى في الوقت أو على المكان الذي وقع فيه الفعل وتطبيق النص وتتوافر عناصر المسئولية الجنائية ومع ذلك لا يعاقب لقيام سبب قانوني يحول دون العقاب.
ثانيا : حقيقة الإباحة عند فقهاء القانون المدني
إذا تتبعنا ما جاء في شروح القانون المدني، وكتب أصول القوانين نجد أن القوانين في الأصل لم توضع إلا لضبط علاقات الناس ووضع أحكام لها، مع أن الأصل في ضبط علاقاتهم بعضهم مع بعض ترجع إلى إرادتهم وما يتفقون عليه ولو كان ذلك مخالفا لما وضعه القانون الخاص من أحكام.
وهذا التفويض الذي قرره القانون لإرادة الأفراد في تنظيم عقود المالية لم يمنع المشرع من التدخل في تنظيم هذه العقود بقواعد تشريعية، وهذه القواعد الصادرة من المشرع لم تصدر منه في صيغة الأمر والنهي، وإنما في صيغة البيان والاقتراح، وهي قواعد مقررة أو مفسرة أو مكملة لإرادة المتعاقدين. القواعد القانونية التي ترد في هذه الدوائر ليست قواعد ملزمة لهم إلزاما مطلقا، وإنما يخيرون في الالتزام بها أو العدول عنها إلى حكم مخالف، غير أنهم إن سكتوا ولم يتفقوا على ما يخالفها كان ذلك رضاء بالأحكام إليها، ولذا اعتبرت مكملة لإرادة المتعاقدين أو مفسرة لسكوتهم أو مقررة لأرادتهم الضمنية.
والقانون المدني في المادة 147 ينص على أن العقد شريعة المتعاقدين أي يخضع لإرادتهم إلا إذا كان الاتفاق مخالفا للنظام العام والآداب م 135.
وهذا في جملته يتفق مع معنى الإباحة إذ الأفراد مخيرون في تصرفاتهم حتى ولو خالفت القانون الموضوعي الخاص دون مساس بالنظام العام أو الآداب ولذلك سميت هذه القوانين الخاصة بالقوانين المقررة لأنها تسمح لطرفي العقد بحق التحلل منها، والاتفاق على غيرها إذ المقصود من هذا القانون تنظيم العلاقات على وجه يمنع النزاع والخصومة، فإذا نظموها بأنفسهم فقد تحقق المطلوب وإلا فإذا لم يتفق المتعاقدون على تنظيم خاص فهم ملزمون بالخضوع لأحكام القانون الخاص. ويجوز أن يمتلكه أول واضع يد عليه .
مقارنة بين الشرع والقانون في مفاهيم الإباحة:
إذا كان القانون المدني قد جاءت أحكامه في الغالب تخييرية، يباح الاتفاق على مخالفتها وتحكيم ما يتفق عليه المتعاقدان من نصوص يذكرونها. إلا بالنسبة للمواد المتعلقة بالنظام العام، والتي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، إذ العقد شريعة المتعاقدين، فإن الفقه الإسلامي حدد للناس حدودا في عقودهم لأن العقود أسباب جعلية شرعية للأحكام بمعنى أن العاقد بإرادته يتكون العقد، أما الحكم المتعلق به فهو من جعل الشارع وترتيبه. وقد وضع الشارع حدودا للعقد ولكل ما يشترط الناس في عقودهم، إن التزموها كانت العقود صحيحة والشروط ملزمة، وما لم يرد نص يمنعه وحظره من العقود والشروط فالظاهرية ومن تابعهم جعلوا الأصل الحظر، فلا يباح إلا ما قام الدليل من الشارع على صحته، بينما يرى فريق من فقهاء الحنابلة وبعض الشيعة أن الأصل في العقود والشروط الإباحة فكل ما يحدثه الناس من عقود ويتفقون عليه من شروط ولم يكن ورد نص يمنعه فهو على الإباحة الأصلية.
وبذلك نرى أن دائرة الإباحة إذن في القانون المدني أوسع منها في دائرة الفقه الإسلامي، إذ في الأول جعل العقد شريعة المتعاقدين ولم يحد من سلطات المتعاقدين إلا بما سن المشرع حماية للنظام العلم، وأما فيما عدا ذلك فقد أباح الاتفاق على مخالفة النصوص التي جاء بها القانون نفسه، أما في الفقه الإسلامي فإنه يعتبر مخالفة ما تتطلب المتعاقدات في العود والشروط يجعل العقد غير صحيح أي أنه لم يبح مخالفة ما نص عليه من أحكام في هذا، فضلا عما أشرنا إيه من اختلاف الفقهاء فيما لم ينص عليه، هل هو مباح أم محظور.
فالشارع الحكيم تولى الإشراف في هذه الأمور في دائرة ما علم أنه لا يترتب على صل فعله أو تركه نفع أو ضرر، بخلاف القانون الذي يكاد أن يكون أطلق العنان لهم في ذلك.
أما فيما بين نظرة القانون الجنائي ونظرة الفقه الإسلامي لمفهوم الإباحة فإن نظرة كل منهما للإباحة الأصلية لا تكاد تختلف عن النظرة الأخرى من جهة ما يتجه كل منهما إليه من تخيير الناس بين الفعل والترك، وعدم ترتب ثواب ولا عقاب على ذلك.
إلا أن القانون الجنائي يعتبر كل ما لم ينص على منعه وتجريمه فهو مباح، أما الفقه الإسلامي فإن الفعل المباح: ما دل الدليل الشرعي على التخيير فيه أو حكم به الحاكم العادل في حدود قواعد الشرع ومسايرة مصالح الناس.
أما المسكوت عنه فهو مباح أيضا بالإباحة الأصلية، خلافا للمعتزلة الذين يرون في الأفعال حسنا وقبحا يدرك بالعقل وتجب مراعاته ولو لم ينص عليه الشارع، إذ حكم الشرع إنما جاء مؤيدا لحكم العقل، على أن المسكوت عنه الذي يرد نص بمنعه وتجريمه قد يكون مأمورا به لورود الخطاب بذلك، فيثاب المرء على فعله أي لا يقف عند العقاب وعدمه فقط وإنما يتجه ناحية الأجر والثواب وفي هذا تشجيع على الامتثال والطاعة.
وأما الإباحة الطارئة في نظر الفقه الجنائي فهي أشبه بالإباحة بالإطلاق الثاني الذي ذكره الشوكاني من الأصوليين فإنك لا تستعمل إلا في الفعل الذي كان في ذاته غير مباح ثم عرض له ما يجعله مباحا، وقد مثل له الشوكاني بإباحة دم المرتد، وقد مثل له غيره أيضا بافتداء المرأة من زوجها إن خافا ألا يقيما حدود الله. ففي الشريعة الإسلامية أن الفعل في ذاته قد يكون غير مباح ثم يعرض له ما يجعله مباحا كالمجنى عليه إذا كان غير معصوم الدم فالقتل أمر محرم في الشرع في كل اعتبار، ولكن إذا وقع من شخص ما يقتصد إباحة دمه كالمرتد عن الإسلام فإنه يكون مباح الدم بالإباحة الطارئة، ويصير الفعل بعد أن كان جريمة أمرا مباحا. سبب إباحة ما طرأ مما جعل الشخص غير محقون الدم.
ومن جهة أخرى فإن الإباحة الطارئة في اصطلاح شراح القانون الجنائي تشبه من بعض الوجوه ما أورده الأصوليون والفقهاء من الترخيص بأشياء أصلها كان محظورا ثم رفع الضرر لموجب اقتضى ذلك، سواء رفع ذلك الحظر إلى ما يسمى في عرفهم إباحة، أو وجوبا، أو ندبا. فإن المقصود من ذلك انه ارتفعت المؤاخذة ولم يكن هناك سبيل على الفاعل. ومن أمثلة ذلك شرب الخمر، واكل لحم الميتة لكل من المضطر والمكره، وإتلاف مال الغير، ومن ذلك في العبادات إجراء كلمة الكفر، وترك الصوم للسفر والمرض، والإكراه، وقد صرح كل من البزدوى وصاحب كشف الأسرار على البزدوي بتسمية ذلك مباحا حيث قالا: ” وتمام الإكراه بأن يجعل عذرا يبيح الفعل” ثم قال صاحب كشف الأسرار : ” فإن ثبتت الإباحة في حال الإكراه عرف أن الاضطرار قد تحدث وأن الإكراه صار ملجئا”.
المبحث الثاني: أساليب الإباحة وأقسامها وآثارها
المطلب الأول : أساليب الإباحة وأقسامها
الفقرة الأولى : أساليب الإباحة
المراد بأساليب ما دل عليها وتستفاد على منه سواء أكان ذلك بدلالة لفظية حديثة كانت أو مجازة، أو كان ذلك بقرينة من القرائن اللاعقلية. فأساليبها متنوعة، وهذا التنوع وفي جملته مظهر من مظاهر ثروة اللغة العربية وقوة التعبير فيها والدلالة على أنها جديرة أن تكون مجالا لاجتهاد المجتهدين وتنافسهم في فهم النصوص الشرعية.
أولا : الإباحة والجواز :
اختلف الأصوليون والصلة بين الإباحة والجواز، فمنهم من قال : إن الجائز يطلق على خمسة معان المباح، وما لا يمتنع شرعا، وما لا يمتنع عقلا، أو ما استوى فيه الأمران والمشكوك في حكمه ومنهم من أطلقه على المباح، ومنهم من قصره عليه، فجعل الجواز مرادفا للإباحة والفقهاء يستعمل في الجواز فيما قابل الحرام ، فيحمل المكروه وهناك استعمال فقهي لكلمة بمعنى الصحة وهي موافقة الفعل ذي الوجهين للشرع، والجواز بهذا الاستعمال حكم وضعي وبالاستعمالين السابقين حكم تكليفي.
ثــــانيا : الإباحة والحل :
الإباحة فيها تخيير، أما الحل فإنه أعم من ذلك شرعا، لأنه يطلق على ما سوى التحريم، وقد جاء مقابلا له في القرآن والسنة، كقوله تعالى ” وأحل الله البيع وحرم الربا” وقوله : “يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك” وقوله (ص) ” أما إني والله لا أحل حراما وأحرم حلالا”. ولما كان الحلال مقابلا للحرام شمل ما عدا من المباح والمندوب والواجب والمكروه مطلقا عند الجمهور، وتنزيها عند أبي حنيفة. ولهذا قد يكون الشيء حلالا ومكروها في آن والحد كالطلاق، فإنه مكروه، وإن وصفه الرسول(ص) بانه حلال، وعلى ذلك يكون كل مباح حلالا ولا عكس.
ثالثا : الإباحة والصحة
الصحة هي موافقة الفعل ذي الوجهين للشرع ومعنى كونه ذا وجهين أنه يقع تارة موافقا للشرع، لاشتماله على الشروط التي اعتبرها الشارع، ويقع تارة أخرى مخالفا للشرع. والإباحة التي فيها تخيير بين الفعل والترك مغايرة للصحة وإن كانا من الأحكام الشرعية، إلا أن الإباحة حكم تكليفي، والصحة حكم وضعي على رأي الجمهور. منهم من يرد الصحة إلى الإباحة فيقول : إن الصحة إباحة الانتفاع. والفعل المباح قد يجتمع مع الفعل الصحيح، فصوم يوم من غير رمضان مباح، أي مأذون فيه من الشرع، وهو صحيح إن استوفى أركانه وشروطه وقد يكون الفعل مباحا في أصله وغير صحيح لاختلال شرطه، كالعقود الفاسدة وقد يكون صحيحا غير مباح كالصلاة في ثوب مغصوب إذا استوفت أركانها وشروطها عند أكثر الأئمة.
الإباحة والتخيير :
الإباحة تخيير من الشارع بين فعل الشيء وتركه، مع استواء الطرفين بلا يرتب ثواب أو عقاب، أما التخيير فقد يكون على سبيل الإباحة، أي بين فعل المباح وتركه، وقد يكون بين الواجبات بعضها وبعض، وهي واجبات ليست على التعيين كما في خصال الكفارة في قوله تعالى : “لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة” فإن فعل أي واحد منها يسقط المطالبة، لكن تركها كلها يقتضي الإثم. وقد يكون التخيير بين المندوبات كالتنقل قبل صلاة العصر، فالمصلى مخير بين أن يتنقل بركعتين أو بأربع. والمندوب نفسه في مفهومه تخيير بين الفعل والترك، وإن رجع جانب الفعل، وفيه ثواب، بينما التخيير في الإباحة لا يرجع فيه جانب على جانب، ولا يترتب عليه ثواب ولا عقاب.
الإباحة والعفو :
من العلماء من جعل العفو الذي رفعت فيه المؤاخذة، ونفي فيه الحرج، مساويا للإباحة، كما جاء في الحديث “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وعفا عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها”
وهو ما يحل عليه قوله تعالى : “لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها”. فما عفا الله عنه لم يكلفنا به فعلا أو تركا، ولم يرتب عليه مثوبة ولا عقابا. وهو بهذا مساو للمباح.
الفقرة الثانية : أقسام الإباحة
للإجابة تقسيمات شتى باعتبارات مختلفة وقد تقدم أكثرها. وبقي الكلام عن تقسيمها من حيث مصدرها ومن حيث الكلية والجزئية.
أولا : تقسيمها من حيث مصدرها
تقسم بهذا الاعتبار إلى إباحة أصلية، بألا يرد فيها نصر من الشارع، وبقيت على الأصل، وقد سبق بيانها وإباحة شرعية: بمعنى ورود نصر من الشارع بالتخيير، وذلك إما ابتداء كإباحة الآكل والشرب، وإما بعد حكم سابق مخالف كما في النسخ أو الرخص، وقد سبق. على أنه مما ينبغي ملاحظته أنه بعد ورود الشرع أصبحت الإباحة الأصلية إباحة شرعية لقوله تعالى : “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا” وقوله : “وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا من” فإن هذا النص يدل على أن كل ما خلفه الله يكون مباحا إلا ما ورد دليل يثبت له حكما آخر، على خلاف وتفضيل يرجع إليه في الملحق الأصولي.
ثانيا : تقسيمها باعتبار الكلية والجزئية:
1- إباحة للجزء طلب الكل على جهة الوجوب، كالأكل مثلا، فيباح أكل نوع وترك آخر مما أذن به الشرع واكن الامتناع عن الأكل جملة حرام لما يترتب عليه من الهلاك.
2- إباحة للجزء مع طلب الكل على جهة الندب، كالتمتع بما فوق الحاجة من طيبات الأكل والشرب، فذلك مباح يجوز تركه في بعض الأحيان، ولكن هذا التمتع مندوب إليه باعتبار الكل، على معنى أن تركه جملة يخالف ما ندب إليه الشرع من التحدث بنعمة الله والتوسعة، كما في حديث ” إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وكما قال عمر بن الخطاب (ض) إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم.
3- إباحة للجزء مع التحريم باعتبار الكل، كالمباحات التي تقدح المداومة عليها في العدالة، كاعتياد الحلف، وشتم الأولاد فذلك مباح في الأصل، لكنه محرم بالاعتياد.
4- إباحة للجزء مع الكراهة باعتبار الكل، كاللعب المباح، فإن ذلك وإن كان مباحا بالأصل إلا أن المداومة عليه مكروهة.
المطلب الثاني : آثار الإباحة
إذا ثبتت الإباحة ثبت لها من الآثار ما يلي:
1- رفع الإثم والحرج وذلك ما يدل عليه تعريف الإباحة بأنه لا يترتب على الفعل المباح إثم.
2- التمكين من التملك المستقر بالنسبة للعين، والاختصاص بالنسبة للمنفعة: وذلك لأن الإباحة طريق لتملك العين المباحة. هذا بالنسبة للعين. أما بالنسبة للمنفعة المباحة فإن أثر الإباحة فيها اختصاص المباح له بالانتفاع، وعبارات الفقهاء في المذاهب المختلفة تتفق في أن تصرف المأذون له في طعام الوليمة قبل وضعه في فمه لا يجوز بغير الأكل، إلا إذا أذن له صاحب الوليمة أو دل عليه عرف أو قرينة. وبهذا تفارق الإباحة الهبة والصدقة بأن فيهما تمليكا، كما أنها تفارق الوصية حيث تكون هذه مضافة على ما بعد الموت، ولابد فيها من إذن الدائنين والورثة أحيانا، كما لابد من صيغة في الوصية.
هذه هي آثار الإباحة للأعيان في إذن العباد. أما آثار الإباحة للمنافع فإن إباحتها لا تفيد إلا حل الانتفاع فقط، على ما تقدم تفصيله. فحق الانتفاع المجد من قبيل الترخيص بالانتفاع الشخصي دون الامتلاك، وملك المنفعة في اختصاص حاجز لحق المستأجر من منافع المؤجر، فهو أقوى وأشمل، لأن فيه حق الانتفاع وزيادة. وآثار ذلك قد تقدم الكلام عليها …