دراسة حول الخطأ في تكوين العقد – بحث قانوني مقارن

دراسة حول الخطأ في تكوين العقد – بحث قانوني مقارن

 

من أهم الآثار العرضية التي ينتجها العقد الباطل أثران يستخلصان من تطبيق نظريتين معروفتين ، إحداهما نظرية تحول العقد ،والأخرى نظرية الخطأ عند تكوين العقد.

نظرية الخطأ عند تكوين العقد
كيف يكون هناك خطأ عند تكوين العقد – وما هو جزاء هذا الخطأ ؟
نظرية إهرنج في الخطأ عند تكوين العقد.
اثر نظرية إهرنج في القوانين الحديثة.
رفض نظرية إهرنج والرجوع إلى فكرة الخطأ التقصيري دون الخطأ العقدي.

كيف يكون هناك خطأ عند تكوين العقد – وما هو جزاء هذا الخطأ؟
قد يكون العقد باطلا أو قابلا للإبطال ، ويكون سبب البطلان آتياً من جهة أحد المتعاقدين ، أما المتعاقد الآخر فيعتقد صحة العقد ، ويطمئن إلى ذلك ، ويبني تعامله على هذا الاعتقاد . فإذا تقرر بطلان العقد ، ناله من وراء ذلك ضرر لم يكن في حسابه . فهل يرجع بالتعويض على من كان سبب البطلان آتياً من جهته ، وعلى أي أساس قانوني يكون هذا الرجوع ؟

هذا هو وضع المسألة في نظرية الخطأ عند تكوين العقد . ووجه الصعوبة فيها أن العقد باطل ، فليس هناك إذن عقد تؤسس عليه مسئولية المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته ، فكيف إذن يمكن الرجوع عليه ؟

ونأتي بأمثلة توضح ما أسلفناه . قد يكون العقد باطلا لا نعدام الرضاء ، كشخص يترك خاتمه عند آخر فيوقع هذا به عقداً يطمئن إليه الطرف الآخر ، وكمدير شركة يصدر سندات غير صحيحة يطمئن إليها من يشتريها ، وكالموجب يعدل عن إيجابه قبل أن يتلاقى بالقبول ولكن المتعاقد الآخر يطمئن إلى أن العقد قد تم . وقد يرجع سبب البطلان للمحل أو السبب ، كأن يبيع شخص شيئاً غير موجود أن لم تتوافر فيه شروط المحل ، وكأن يلتزم البائع لسبب غير مشروع ، ولكن المشتري لا يعلم سبب البطلان ويطمئن إلى قيام العقد . وقد يكون العقد قابلا للإبطال ، كأن يتقدم قاصر إلى التعاقد ويطمئن من يتعاقد معه إلى صحة العقد ، وكأن يقع أحد المتعاقدين في غلط لا يشترك معه فيه الطرف الآخر بل يطمئن إلى أن التعاقد صحيح ، وكمن يشتري من غير المالك معتقداً أنه المالك .

ومن هذه الأمثلة ما عالجه القانون بنصوص خاصة . فالموجب الذي يعدل عن إيجابه إذا وصل عدوله إلى الطرف الآخر بعد وصول الإيجاب لم يعتد بالعدول ( م 91 ) . ولا يعتد بعدم مشروعية السبب إذا كان الطرف الآخر لا يعلم بذلك كما أسلفنا . ويلزم ناقص الأهلية بالتعويض إذا لجأ إلى طرق إحتيالية ليخفي نقص أهليته ( م 119 ) . وإذا شاب التعاقد غلط لم يشترط فيه الطرف الآخر ولم يعلم به ، فالغط لا يؤثر في صحة العقد ( م 120 ) . وإذا حكم للمشتري بإبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع ، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية ( م 468 ) .

ولكن في غير الأمثلة التي ورد فيها نص خاص كيف يستطيع المتعاقد الذي اطمأن إلى صحة العقد أن يرجع على المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته ؟ يمكن القول منذ الآن إن العقد الباطل يعتبر واقعة مادية ، إذا توافرت فيها شروط الخطأ التقصيري ، رجع المتعاقد الذي اطمأن إلى صحة العقد بالتعويض عن هذا الخطأ على المتعاقد الذي أتى من جهته سبب البطلان . ومن ثم يكون العقد الباطل قد أنتج أثراً قانونيناً عرضياً ، لا على أساس أنه عقد ، بل على أساس أنه واقعة مادية.

نظرية إهرنج في الخطأ عند تكوين العقد:
على أن إهرنج ( Ihering ) الفقيه الألماني المعروف واجه هذا الفرض في صوره المتعددة ، فوضع له نظرية معروفة بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ( Culpa in contrahendo ) . ودعاه إلى ذلك أن القانون الروماني كان في ألمانيا هو القانون المعمول به في عهده . ولم يكن هذا القانون يسلم بأن كل خطأ يرتب مسئولية مدنية ، بل كانت الأعمال الضارة التي توجب التعويض مقيدة بشروط معينة يقضي بها قانون أكيليا ( Aquilia ) المعروف . فلم يستطيع إهرنج أن يقرر أن العقد الباطل ، كواقعة مادية ، يعتبر خطأ يوجب التعويض . ولكنه نقب في نصوص القانون الروماني فعثر على بعض النصوص التي تقضي برجوع أحد المتعاقدين على الآخر في العقد الباطل بمقتضى دعوى العقد ذاتها ([1]) . واستخلص من ذلك أن العقد بالرغم من بطلانه ينشيء التزاماً بالتعويض كعقد لا كواقعة مادية . ولم يرد الاقتصار على التطبيقات التي وجدها في القانون الرومانين بل رسم مبدأ عاماً يقضى بأن كل متعاقد تسبب ، ولو بحسن نية ، في إيجاد مظهر تعاقدي اطمأن إليه المتعاقد الآخر بالرغم من بطلان العقد الذي قام عليه هذا المظهر ، يلتزم بمقتضى العقد الباطل ذاته أن يعوض المتعاقد الآخر ما أصابه من الضرر بسبب اطمئنانه إلى العقد ، بحيث يرجع إلى الحالة التي كان يصير إليها لو لم يتعاقد ([2]) . وتتميز نظرية إهرنج هذه بان كلا من المقومات الثلاثة للمسئولية – الخطأ والعقد والتعويض – يتلون فيها بلون خاص.

أما الخطأ فينحصر في إقدام المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته على التعاقد ، وكان واجباً عليه أن يعلم بما يحول دون هذا التعاقد من أسباب توجب بطلان العقد . على أنه حتى لو فرض أن هذا المتعاقد كان لا يستطيع أن يعلم بسبب البطلان ، فإنه يبقى أن ضرراً قد وقع ، وأن من العدل أن يتحمله هو وقد وجد سبب البطلان في جانبه ، لا أن يتحمله المتعاقد الآخر وهو حسن النية ولم يكن في موقف يستطيع فيه أن يكشف عن هذا السبب . فوجود سبب البطلان في جانب أحد المتعاقدين هو في ذاته خطأ ( culpa ) يوجب التعويض .

وأما العقد الذي اخل به المتعاقد المسئول فقد كان من الممكن تصويره على أنه عقد ضمان التزم بمقتضاه هذا المتعاقد أن يكفل للمتعاقد الآخر صحة التعاقد . ووجه ذلك أن كل شخص أقدم على التعاقد يتعهد ضمناً ألا يقوم من جانبه سبب يوجب بطلان العقد ، ورضاء المتعاقد الآخر أن يتعاقد معه إنما هو قبول ضمني لهذا التعهد ، فيتم عقد الضمان بإيجاب وقبول ضمنيين . ولكن إهرنج يصطدم هنا أيضاً بقواعد القانون الرومانين فهذه القواعد ضيقة في العقد كما هي ضيقة في الخطأ . وليس كل إيجاب وقبول في القانون الروماني يعتبر عقداً . لذلك لا يقيم إهرنج مسئولية المتعاقد على عقد الضمان هذا ، إذ هو لا يعتبر عقداً كما قدمنا ، بل يقيمها على العقد الباطل ذاته ، ولكن لا كواقعة مادية فليس كل عمل ضار يعتبر خطأ في القانون الروماني ، بل كعقد حيث تسعفه مجموعة من النصوص استخلص منها إهرنج قاعدة عامة كما أسلفنا . فإذا قيل إن العقد باطل فرضاً فكيف ينتج أثراً ، أجاب إهرنج بأنه لا يجوز أن يجرد العقد الباطل من كلا آثاره ، وإذا نقص العقد ركن أو شرط فأصبح باطلا ، كان معنى البطلان أن العقد لا ينتج من الآثار القانونية ما يقابل هذا الركن أو هذا الشرط . واستشهد إهرنج على صحة هذا الرأي بتطبيقات مختلفة في القانون الروماني ([3]) . وهذا رأي يقرب كثيراً من نظرية تنوع مراتب البطلان التي سبقت الإشارة إليها . ونرى من ذلك أن إهرنج يرتب على العقد الباطل أثراً أصلياً ، لا باعتباره واقعة مادة ، بل على أساس أنه عقد . وهذه الخصيصة هي أبرز خصائص نظريته .

وأما التعويض فلونه الخاص في نظرية إهرنج هو ألا يكون تعويضاً كاملا كما في التعويض عن عقد صحيح . فالتعويض عن العقد الصحيح يكون عنالمصلحة الايجابية ( interet positif – Erfullungs Interesse ) .

أما التعويض عن العقد الباطل فيكون عن
المصلحة السلبية ( interet negative – negative Vertrugs Interesse ) .
ويأتي إهرنج بمثل يبين الفرق بين التعويضين : شخص احتاج . غرفة في فندق وتخلف عن الحضور . فإذا كان العقد صحيحاً كان مسئولا عن تعويض المصلحة الايجابية ، أي عن الضرر الذي أصاب صاحب الفندق من عدم تنفيذ العقد ، فيدفع اجرة الغرفة . أما إذا كان العقد باطلا ومع ذلك اطمأن صاحب الفندق إلى صحة التعاقد ، فلا يرجع إلا بالمصلحة السلبية ، فيطلب تعويضاً عن الضرر الذي أصابه من جراء توهمه صحة العقد ليعود بهذا التعويض إلى الحالة التي كان عليها لو لم يوجد هذا المظهر الخداع من التعاقد . ويترتب على ذلك أنه لا يرجع بتعويض إلا إذا اثبت أن الغرفة قد طلبها آخرون فرفض الطلب لاعتقاده أن الغرفة محتجزة . وقد رأينا في الحالة الأولى أنه يرجع بأجرة الغرفة سواء طلب الغرفة آخرون أو لم يطلبها أحد .

ويكون التعويض عن المصلحة السلبية أقل عادة من التعويض عن المصلحة الايجابية . ويضرب إهرنج لذلك مثلا : تاجر باع عشرة صناديق من ” السجاير ” ، وكان العقد صحيحاً ولكن المشتري لم ينفذه ، فللبائع أن يطلب تعويضاً عن المصلحة الايجابية ، أي الربح الذي كان يجنبه من الصفقة والخسارة التي لحقته من عدم تنفيذ العقد كما لو تكبد نفقات في إرسال الصناديق واستردادها . أما إذا كان العقد باطلا ، بأن كان المشتري لم يطلب إلا صندوقاً واحداً مثلا ولكن وقع خطأ مادي في الرسالة جعل البائع يعتقد أن المطلوب هو عشرة صناديق ، فإن التعويض الذي يطلبه البائع يكون عن المصلحة السلبية حتى يعود للحالة التي كان عليها لو لم يوجد مظهر هذا التعاقد ، فيرجع بنفقات إرسال الصناديق واستردادها دون المكسب الذي كان يربحه لو تمت الصفقة . فالتعويض عن المصلحة السلبية هنا أقل التعويض عن المصلحة الايجابية .

وقد يكون مساوياً له ، وذلك أن التعويض عن المصلحة السلبية ينطوي هو أيضاً على عنصرين : الخسارة التي لحقت الدائن والمكسب الذي فاته . فإذا فرض أنه عرض على التاجر صفقة لبيع الصناديق العشرة بالثمن ذاته وامتنع عن إتمامها ظناً منه أن الصفقة الأولى قد تمت ، ففي هذه الحالة يرجع أيضاً بالمكسب الذي فاته إلى المصروفات التي أنفقها ، فيستوي التعويضان – وإذا فرض أن الصفقة التي امتنع عن إتمامها كانت تدر عليه ربحاً أكثر من ربح الصفقة الأولى ولكنه رفضها احتراماً لتعاقده الأول ، فإن التعويض عن المصلحة السلبية يكون في هذه الحالة اكبر من التعويض عن المصلحة الايجابية . ولكن الظاهر أن الدائن إذا تقاضى تعويضاً عن المصلحة السلبية ، فلا يصح أن يجاوز هذا التعويض حدود التعويض عن المصلحة الايجابية ، وإلا استفاد دون حق من بطلان العقد . – على أن التعويض عن المصلحة السلبية قد يكون في بعض الفروض منعدماً ، ففي المثال الذي نحن بصدده إذا فرض أن التاجر تبين بطلان العقد قبل أن يرسل الصناديق إلى المشتري وقبل أن تعرض عليه صفقة أخرى ، فإنه لا يتقاضى تعويضاً ما ، إذ لم يفته مكسب ولم يتكبد خسارة ([4]) .

اثر نظرية إهرنج في القوانين الحديثة:
وقد تأثرت بعض القوانين الحديثة بنظرية إهرنج سالفة الذكر . ونتعقب هذا الأثر في القانون الألماني بنوع خاص . ثم نرى إلى أي حد أخذ بالنظرية كل من القانون الفرنسي والقانون المصري القديم والقانون المصري الحالي .أما في القانون الألماني فقد أخذ المشرع بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ، ولكن لا كنظرية عامة ، بل في مواطن متفرقة . فنص في المادة 122 على أنه إذا كان إعلان الارادةب اطلا وفقاً للمادة 118 ( إرادة غير جدية ) ، أو طعن فيه بالبطلان على أساس المادتين 119 ( الغلط ) و 120 ( الخطأ في نقل الإرادة ) ، فعلى من صدرت منه هذه الإرادة إذا كانت موجهة إلى شخص معين أن يعوض هذا الشخص ، وإذا لم تكن موجهة لشخص ما أن يعوض أي شخص ، عن الضرر الذي أصابه لاعتقاده صحة الإرادة ، دون أن يجاوز مقدار التعويض حد ماله من المصلحة في أن تكون الإرادة صحيحة . وينقطع الالتزام بالتعويض إذا كان من أصابه الضرر يعلم أو يجب ضرورة أن يعلم سبب البطلان أو القابلية للإبطال . وهذا النص تطبيق لنظرية الخطأ عند تكوين العقد في فروض معينة : فرض الإرادة غير الجدية وفروض الغلط . ونصت المادة 307 من القانون الألماني على أن الطرف الذي يعلم ، أو يجب ضرورة أن يعلم ، عند إتمام عقد يرمى إلى عمل مستحيل ، باستحالة هذا العمل ، يلتزم بتعويض الطرف الآخر عن الضرر الذي أصابه من جراء اعتقاده بصحة العقد ، دون أن يجاوز مبلغ التعويض حد المصلحة التي لهذا الطرف في صحة العقد . على أنه لا محل للالتزام بالتعويض إذا كان الطرف الآخر يعلم ، أو يجب ضرورة أن يعلم ، بهذه الاستحالة . وهذا النص تطبيق آخر للنظرية في فرض بطلان العقد لاستحالة المحل ، ويتميز بأنه يشترط فيه خطأ من جانب الطرف المسئول ، فهو إما أن يكون عالماً باستحالة تنفيذ العقد وفي هذه الحالة يكون سيء النية ، وإما أن يكون في استطاعته أن يعلم بهذه الاستحالة وفي هذه الحالة يكون مقصراً ، فهو مخطئ في الحالتين ومسئوليته مبنية على هذا الخطأ . ونلاحظ أن القانون الألماني إذا كان قد أخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد في الفروض التي قدمناها ، فإنه لم يبين المسئولية على خطأ عقدي كما فعل إهرنج ، فقد جعل المسئولية تقصيرية في الفرض كما رأينا ، وجعلها مسئولية مادية في الفروض الأولى .

أما في القانون الفرنسي فقد ذهبت بعض الفقهاء الفرنسيين إلى الأخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد . واستند سالي في ذلك إلى نص المادة 1599 من القانون الفرنسي ، وهوي قضي بان بيع ملك الغير باطل ويترتب عليه الحكم بالتعويض إذا كان المشتري يجهل أن الشيء مملوك للغير . فمصدر التعويض في هذه الحال . في نظر سالي ، لا يمكن أن يكون خطأ من البائع فقد يكون حسن النية ، وإنما هو عقد ضمان يستخلص من ظروف التعاقد ، إذ أن البائع بإقدامه على البيع يكون قد تعهد ضمناً بكفالة صحة العقد ([5]) . على أن جمهرة الفقهاء الفرنسيين لا تأخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ، ونرى في حالة ما إذا كان العقد باطلا أن من أتى سبب البطلان من جهته لا يكون مسئولا إلا إذا ثبت خطأ في جانبه طبقاً لقواعد المسئولية التقصيرية ([6]) .

والقانون المصري القديم كالقانون الفرنسي لم يؤخذ فيه بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ([7]) .

وكذلك هو الأمر في القانون الحالي . بل إن المشروع التمهيدي لهذا القانون كان قد تضمن نصاً يقرر هذا النظرية ، فحذف النص في المشروع النهائي ” لأن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية ألمانية دقيقة يحسن عدم الأخذ بها ” ([8]) . وإذا كانت الفقرة الأولى من المادة 142 من القانون ال تنص على أنه ” في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كان عليها قبل العقد ” ، فليس المقصود من هذا كما سنرى التعويض عن المصلحة السلبية المعروفة في نظرية الخطأ في تكوين العقد ، بل أن يرد كل من المتعاقدين ما تسلمه من الآخر ، دون تعويض عن أية مصلحة ايجابية أو سلبية ، إلا إذا ثبت في جانب المسئول خطأ تقصيري ، وإذا تعذر الرد حكم بتعويض معادل . وإذا كانت المادة 119 تنص على أنه ” يجوز لناقص الأهلية أن يطلب إبطال العقد ، وهذا مع عدم الإخلال بالزامه بالتعويض إذا لجأ إلى طرق إحتيالية ليخفي نقص أهليته ” . فالتعويض هنا ، كما هو ظاهر ، مبنى على أساس المسئولية التقصيرية ، وهي ترجع إلى الطرق الإحتيالية التي استعملها القاصر ، بحيث لو لم يستعملها لما ألزم بتعويض لا عن مصلحة ايجابية ولا عن مصلحة سلبية . وإذا كانت المادة 468 في بيع ملك الغير قد نصت على أنه ” إذا حكم للمشتري بإبطال البيع ، وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع ، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية ” ، فذلك لأن المشرع قد اعتبر أن بيع الشخص لشيء غير مملوك له يعتبر في ذاته خطأ تقصيرياً يوجب التعويض ، ولو كان هذا الشخص حسن النية.

رفض نظرية إهرنج والرجوع إلى فكرة الخطأ التقصيري دون الخطأ العقدي:
والواقع من الأمر أن نظرية إهرنج كانت من نظريات الضرورة ، قال بها اضطراراً لما ضاق القانون الرومانين عن أن يتسع لحاجات التعامل ، فوسع من فكرة الخطأ ومن فكرة العقد كما رأينا . أما الآن فنحن في سعة من امرنا بعد أن تحررنا من قيود القانون الرومانين وأصبح كل خطأ موجباً للمسئولية أياً كان هذا الخطأ . فإذا ثبت في جانب من أتى سبب البطلان من جهته تقصير كان مسئولا ، ولن نحار في تكييف هذه المسئولية ، فهي مسئولية تقصيرية مبنية على الخطأ الثابت .

على أن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية غير صحيحة . فهي بين أمرين . إما أن تجعل قيام سبب البطلان في جانب المتعاقد خطأ حتما ، وقد يكون هذا المتعاقد يجهل كل الجهل سبب البطلان ولم يرتكب أي تقصير في ذلك ، فالخطأ هنا أقرب إلى فكرة تحمل التبعة منه إلى الخطأ التقصيري . وإما أن تفرض عقداً ضمنياً بكفالة التعاقد ، ونحن إنما نتناول هذا العقد ونقسر عليه المتعاقد قسراً ولا نتمشى في ذلك مع نيته الحقيقية . على أن هذا العقد الضمني لا يستقيم لنا في كل الأحوال . فلو أن سبب البطلان كان القصر ، أيكون القاصر ، وهو غير ملتزم بالعقد الصريح الذي تقرر إبطاله لنقص أهليته ، ملتزماً بالعقد الضمني الذي يكفل به صحة التعاقد ! وأين نقص الأهلية ! ألا يؤثر في العقد الضمني كما اثر في العقد الصريح ! وقل مثل ذلك في حالة بطلان العقد لعدم جدية الإرادة ، فمن كان هازلا في العقد الصريح إلا يكون أكثر هزلا في العقد الضمني ! ثم إن التعويض عن المصلحة السلبية دون المصلحة الايجابية ينطوي على شيء من التحكم قد يصعب تبريره في بعض الحالات . كذلك الباقي من المقومات الثلاثة للنظرية – الخطأ والعقد – في كل منهما انحراف غير مستساغ عن القواعد العامة ، وهو انحراف لم نعد الضرورة تبرره . والقانون الألماني ذاته لم يأخذ ، كما رأينا ، بالنظرية كقاعدة عامة ، بل قصر النص فيها على حالات معينة ، وهو في هذه الحالات حاد عن النظرية في الصميم منها ، فلم يجعل المسئولية عقدية ، بل جعلها تقوم تارة على تحمل التبعة وطوراً على التقصير ، وقد تقدم بيان ذلك .

فالأولى إذن الرجوع إلى فكرة المسئولية التقصيرية في الخطأ عند تكوين العقد ، واعتبار العقد الباطل واقعة مادية قد تستكمل عناصر الخطأ التقصيرى فتوجب التعويض . ويكون العقد الباطل ، في هذه الحالة أيضاً ، قد أنتج أثراً عرضياً ، لا باعتباره عقداً ، بل باعتباره واقعة مادية ( [9] ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ^ إهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 10 وما بعدها .
[2] ^ وقد ضرب إهرنج لذلك مثلا : متجر في مدينة كولونيا ابرق إلى مصرف في مدينة فرانكفورت أن يبيع لحسابه عدداً معيناً من السندات . ولكن لفظ ” يبيع ” بالألمانية ( verkaufen ) وقع فيه خطأ مادي ، وحذف منه المقطع الأول ( vor ) فأصبح ( kaufen ) ، وهذا اللفظ معناه ” يشتري ” . فكان من ذلك أن اشترى المصرف لعميله بدلا من أن يبيع . نزل سعر السندات بعد ذلك ، فبلغت الخسارة مبلغاً جسيماً ( إهرنج : أعماله المختارة الترجمة الفرنسية جزء 2 ص 7 – ص 8 ) .

[3] ^ إهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 28 – ص 30 .

[4] ^ اهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 18 – ص 22 .
[5] ^ ساليم في الالتزامات في القانون الألماني فقرة 161 – أنظر أيضاً في هذا المعنى بتوسع كبير بودري وبارد 1 فقرة 362 .

[6] ^ بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 131 وفقرة 324 – ومع ذلك أنظر فقرة 189 . مازو 1 فقرة 116 – 121 – هلسنراد ص 75 و ص 189 – ص 190 .

[7] ^ نظرية العقد للمؤلف فقرة 592 .

[8] ^ مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 263 في الهامش – وكانت المادة 204 من المشروع التمهيدي تجري على الوجه الآتي : ” 1 – إذا كان العقد باطلا أو قابلا للبطلان ، فعلى الطرف الذي يتمسك بالبطلان أن يعوض الطرف الآخر عن الضرر الذي لحقه بسبب اعتقاده صحة العقد ، دون أن تجاوز قيمة التعويض قدر المنفعة التي كانت تعود عليه لو كان العقد صحيحا . 2 – على أنه لا محل للتعويض إذا كان من أصابه الضرر من بطلان العقد له يد في وقوع هذا البطلان ، أو كان يعلم بسببه ، أو ينبغي أن يعلم به ” . وقد اقترح في لجنة المراجعة حذف النص لأن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية ألمانية دقيقة يحسن عدم الأخذ بها ، فوافقت اللجنة على ذلك . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 263 في الهامش ) .

[9] ^ قارن الدكتور حلمي بهجت بدوى في أصول الالتزامات فقرة 174 – فقرة 179 – ولا يغيب عن البال أننا ، وقد جعلنا المسئولية تقصيرية ، نوجب الأخذ بقواعد هذه المسئولية . فيجب على من يطالب بالتعويض إثبات أن العقد الباطل قد استكمل عناصر الخطأ ، لأن الخطأ واجب الإثبات هنا . ويجب أيضاً أن يلاحظ أن الخطأ التقصيري يختلف عن الخطأ العقدي في الأهلية وفي مدى التعويض وفي الإعذار وفي التضامن وفي الإعفاء الاتفاقي من المسئولية ، وسيأتي بيان هذا كله عند الكلام في المسئولية التقصيرية .